تعكس أزمات الخبز في عدد من الدول العربية، خلال عام 2020، أبعاداً سياسية متعددة تتعلق بتشديد العقوبات الاقتصادية الأمريكية على الحكومة السورية بعد تطبيق قانون "قيصر" وعجز الأخيرة عن تأمين العملة الأجنبية لاستيراد مادة الطحين وفقدان دوائر النظام التموينية السيطرة على السوق السوداء، وتعثر أداء الحكومات الانتقالية في المهام اليومية بما ينطبق على حكومة عبدالله حمدوك في السودان، وجبايات الميلشيات المسلحة مثل تلك التي تفرضها حركة المتمردين الحوثيين على أصحاب الأفران في مناطق نفوذها، وتفاقم الأزمات المالية ومؤشرها الرئيسي ارتفاع أسعار الدولار مقابل العملات الوطنية بما تشير إليه حالة لبنان، وإهدار استخدام الخبز لغير أعراض الاستهلاك البشري وهو ما تعاني منه المغرب، وتصاعد احتجاجات قطاع المخابز في تونس لتحقيق مطالب فئوية.
تفاعلات متباينة:
كشفت تفاعلات عام 2020 عن تفاقم ما يمكن تسميته بـ"أزمات الخبز" في العديد من الدول العربية، سواء فيما يتعلق بعدده أو وزنه أو مواده أو مدى توافره، وهو ما تعكسه الأبعاد السياسية، لاسيما في ظل أزمة كوفيد-19، إذ أن الخبز هو الغذاء الرئيسي للمواطن في دول عربية عدة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
استهداف سياسي
1- تشديد العقوبات الاقتصادية الأمريكية: تحولت سوريا من دولة مكتفية ذاتياً من القمح إلى مستوردة له لاسيما بعد دخول البلاد في موجة من الصراعات المسلحة على مدى عشر سنوات. فقد تراجع إنتاج القمح من نحو 4 ملايين طن إلى أقل من 1.5 مليون طن في عام 2019 في عموم سوريا، ويتركز غالبيته في المناطق الشرقية الخارجة عن سيطرة النظام. وعلى الرغم من توقيع الحكومة السورية خلال العام الماضي عقداً لاستيراد مليون و200 ألف طن قمح، إلا أنها تواجه صعوبات في تلبية الطلب عليه في ظل العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وامتناع الإدارة الذاتية الكردية (التي تسيطر على الحسكة ودير الزور والرقة) عن بيع القمح لها.
ونظراً لتفاقم أزمة الخبز في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية التي بدأت في سبتمبر الماضي، فقد قالت وكالة الأنباء السورية (سانا) في بيان لها في 30 أكتوبر الفائت، أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أصدرت قراراً حددت بموجبه سعر بيع كيلو الخبز المدعوم بمبلغ 75 ليرة وذلك عند البيع للمعتمدين والمستهلكين من منافذ البيع، وذلك بعدما كان كيلو الخبز المدعوم يباع بـ35 ليرة، مع الأخذ في الاعتبار أن الدولار يساوي 2200 ليرة. هذا فضلاً عن بيع الخبز المدعوم أو السياحي بأسعار تفوق تكلفتها بكثير في السوق السوداء.
وبررت الوزارة قرارها بـ"التكاليف العالية والصعوبات في تأمين القمح والدقيق نتيجة ظروف الحرب والحصار الجائر المفروض". ويأتي ذلك بالتزامن مع توقف عدة أفران عن العمل في عدد من المحافظات وخاصة ريف دمشق، بسبب أزمة الوقود والطحين المقدم إليها من الحكومة السورية. وفي سياق متصل، لجأت وزارة التجارة الداخلية إلى تقنين توزيع الخبز، حيث حددت حصة الفرد في اليوم الواحد بـ3 أرغفة، وذلك بتخصيص ربطة (7 أرغفة وزن نحو 800 جرام) لعائلة من شخصين وربطتين لعائلة من أربعة أشخاص، ويتم تسليمها عبر "البطاقة الذكية" وفقاً لنظام الشرائح، وذلك للحد من الأزمة التي تعيشها البلاد.
ارتباك انتقالي
2- تعثر أداء الحكومات الانتقالية في المهام اليومية: الأمر الذي ينطبق على تعامل حكومة حمدوك مع ملف أزمة الخبز في السودان، حيث تجددت، في سبتمبر الماضي، بعد أزمة شح الوقود الذي تعتمد عليه عملية توزيع الدقيق، وتراجع كميات الخبز المدعوم، وارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه في السوق الموازية.
وفي هذا السياق، أشارت تقارير عديدة إلى قيام مصر بإرسال أول المخابز الآلية إلى السودان في 28 سبتمبر الماضي، من أصل 10 مخابز تنوي تزويد الخرطوم بها لدعم جهودها في حل أزمة الخبز، وهو ما يتناغم مع تصريحات المستشار الإعلامي لسفارة مصر في السودان عبدالنبي صادق الذي قال: "المخابز الآلية تجئ في إطار دعم الحكومة المصرية للسودان في مجال تقديم الخدمات للجمهور، الذي ظل يعاني كثيراً من ندرة رغيف العيش"، وأضاف أن بلاده "ستبقى دائماً في خدمة السودان في الأوقات الحرجة، ترسيخاً للعلاقة التاريخية الأزلية بين شعبى وادي النيل".
ضرائب الحوثي
3- جبايات الميلشيات المسلحة: مثل تلك التي تفرضها حركة المتمردين الحوثيين في مناطق نفوذها داخل اليمن. إذ أعلنت بعض المخابز، في يوليو الماضي، التوقف عن العمل في محافظة إب التي تقع تحت السيطرة الحوثية لاسيما بعد قيام بعض موظفي مكتب الصناعة بزيارة المخابز في المدينة بشكل يومي تحت مسميات مختلفة مثل "مراقبين" و"مفتشين" للحصول على مبالغ مالية تحت بند "مخالفات". وفي حال الامتناع عن السداد، يتم إغلاق المخبز في كثير من الأحيان، بما يعكس أزمة خبز مستمرة.
الأسواق الموازية
4- تفاقم الأزمات المالية: ويتعلق مؤشرها الرئيسي بارتفاع أسعار الدولار مقابل العملات الوطنية، وهو ما عبرت عنه جلياً حالة أزمة الخبز في لبنان، التي كانت انعكاساً للأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد، وبصفة خاصة في يونيو 2020، حينما امتنعت الأفران عن توزيع الخبز على المحال التجارية في ظل ارتفاع سعر الدولار وعدم قدرة أصحاب الأفران على تغطية التكلفة الكبيرة لبعض المواد المصنعة للخبز كالسكر والخميرة وأكياس التغليف، حيث يقوم مصرف لبنان المركزي بدعم المواد الأولية من احتياطاته المتبقية بالعملة الصعبة.
وقد أدى ذلك إلى نفاذ الخبز في كثير من المدن مثل بيروت بسبب الطلب غير المسبوق على الخبز. وأعادت مشاهد اصطفاف المواطنين في طوابير أمام أفران الخبز إلى الأذهان ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان يصطف المواطنون لشراء ربطة خبز واحدة. ولعل ذلك يعكس حدة الأزمة السياسية التي تواجهها البلاد على مدى السنوات الماضية وزادت حدتها على خلفية تداعيات كوفيد-19 الذي فرض الإغلاق على العديد من محاور النشاط الاقتصادي في لبنان.
كما قال المسئول بإدارة التجارة الداخلية في وزارة الصناعة والتجارة السودانية حسن بن عوف، في 7 أكتوبر الفائت، أن "قلة موارد القمح في البلاد تسببت بإنشاء أسواق موازية لصناعة الخبز من الدقيق المدعوم، وبيعه بأضعاف ثمنه لتحقيق مكاسب للقطاع التجاري الخاص، ما فاقم من أزمة الخبز في المحافظات السودانية"، وأضاف: "إن هناك تنسيقاً تاماً بين قطاع المطاحن والولايات لتحقيق الاستقرار في الكميات وأسعار الخبز بعيداً عن المزايدات والاستغلال السيء للأزمة والضغط على المواطنين".
استخدامات أخرى
5- إهدار استخدام الخبز لغير أغراض الاستهلاك البشري: كشف رئيس المكتب التنفيذي للفيدرالية المغربية عبد النور الحسناوي، في تصريحات لـ"روسيا اليوم" في 30 سبتمبر الماضي، أن متوسط الخبز اليومي الذي لا يستهلك ويكون مصيره صناديق القمامة أو يصير علفاً للأبقار والمواشي، يبلغ 30 مليون رغيف، وقال أن "إنتاج الخبز بالمغرب يتراوح بين 110 ملايين و120 مليون قرص يومياً"، مشيراً إلى نسبة مهمة تصل إلى 25% من الإنتاج الإجمالي تضيع ولا يتم استهلاكها، وهو ما يعادل 30 مليون قرص يومياً، معتبراً ذلك "تبذيراً وهدراً للغذاء وللمال والجهد والطاقة".
وأضاف الحسناوي: "إذا اعتبرنا أن ثمن الخبز درهم واحد فقط، فإن حوالي 30 مليون درهم تذهب هباءاً منثوراً يومياً، بعملية حسابية بسيطة نصل إلى 900 مليون درهم شهرياً لا يستفيد منها المغرب، خاصة إذا علمنا أن استيراد المغرب للقمح يتم بالعملة الصعبة"، وتابع: "منذ تجديد هياكل الفيدرالية وهى منكبة على إعداد تصور ورسم استراتيجية على شكل مشروع لتأهيل وتنمية القطاع على قواعد متينة، على الرغم من ظروف الجائحة، بغية رد الاعتبار للقطاع ومحاربة المشاكل التي تعيق تطوره وازدهاره"، الأمر الذي يعكس بعداً آخر لأزمة الخبز يتعلق بهدره.
تمييز الدعم
6- تصاعد احتجاجات قطاع المخابز لتحقيق مطالب فئوية: قررت الغرفة الوطنية للمخابز بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الدخول في إضراب عام في جميع مخابز البلاد لمدة 3 أيام، بداية من 23 يونيو الماضي، حتى يقوم أصحاب القطاع بتسديد إجمالي مستحقاتهم لدى الدولة والتمييز بين الدقيق المدعم وغير المدعم، تجنباً لاتهامهم باستعمال المواد المدعمة أثناء حملات المراقبة وما يمكن فرضه من عقوبات قد تصل الى حد السجن، وهو ما حدث بالفعل، مع الأخذ في الاعتبار تعدد الأزمات التي يعاني منها قطاع المخابز في البلاد ومنها تعثر تنظيمه وعدم القدرة على السيطرة عليه بعد ثورة 2011 بحيث انتشرت ما يسمى بـ"المخابز العشوائية".
خلاصة القول، يمثل توافر الخبز لدى العديد من المجتمعات العربية علامة على الاستقلال الذاتي للدولة من القمح، وعدم اعتمادها على الاستيراد الخارجي، فضلاً عن غياب أزمة مالية حادة وهو ما تدركه الحكومات، إذ سبق أن شهدت عدة دول مثل تونس والأردن ما أطلق عليه "انتفاضات الخبز" بعد محاولات رفع الدعم عن الخبز، في عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لتنفيذ توجيهات صندوق النقد الدولي. كما كان الخبز أحد الدوافع الرئيسية لحراك 2011 في بعض الدول حينما رفعت لافتات "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
غير أن الموجة الجديدة من أزمات الخبز في المنطقة العربية، خلال عام 2020، لا تتعلق بإسقاط أنظمة وإنما تتمثل في زيادة العقوبات الدولية على حكومات معينة وغياب الرقابة على الأفران، بما يؤدي إلى نقص الوزن وسوء النوعية وتهريب الدقيق لدى البعض، وتضخم منظومة الاتجار بالدقيق المدعم وتسربه إلى الاستخدامات التجارية، وفرض ميلشيات مسلحة جبايات على أصحاب الأفران، وتعثر توفير النقد الأجنبي (الدولار) لاستيراد الطحين لدى البعض الآخر، ويأتي ذلك في ظل تزايد تأثيرات كوفيد-19.