في خضم الصعود السياسي الراهن لتيار اليمين المتطرف بالمجتمعات الأوروبية، بدت ثمة علاقة تقارب تجمع بين قطاع واسع من المنتمين لهذا التيار وروسيا التي تطمح - بشكل أو بآخر- إلى إيجاد صيغة جديدة لأوروبا تكون متوافقة مع مصالحها، ولا تثير لموسكو مشكلات في مناطق تقع ضمن الفضاء الحيوي التاريخي للنفوذ الروسي.
في هذا السياق، ثمة تساؤل حول ماهية دوافع العلاقة بين روسيا وقوى اليمين المتطرف في الدول الأوروبية. وقد عدَّ نائب رئيس المفوضية الأوروبية فرانس تيمرمانس "أن سبب دعم بوتين لليمين المتطرف في أوروبا، هو أنه يعلم أن ذلك يُضعفنا (الدول الأوروبية) ويفرقنا، ويقسم أوروبا".
استراتيجية بوتين:
سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عودته إلى سدة الرئاسة في عام 2012 إلى تبني استراتيجية موسعة لتحقيق المصالح الروسية لا تقتصر فقط على الأدوات العسكرية التقليدية، ولكنها تشمل تكوين شبكة من العلاقات الخارجية مع قوى سياسية متقاربة فكريًّا، وهو ما أطلق عليه رئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري جيراسيموف نهجًا جديدًا لتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية من خلال "الطرق غير المباشرة وغير المتماثلة".
كان تطوير هذه الاستراتيجية وثيق الصلة برغبة في الوصول إلى دول غرب أوروبا، والتي تختلف كثيرًا عن دول الجوار الروسي وشرق أوروبا، حيث تمتلك موسكو شرعية تاريخية ونفوذًا كبيرًا يُمكِّنها من التأثير في تلك الدول. ومن ثمّ شَكَّل بناءُ تحالفات سياسية مع أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا، بما تروج له من أفكار شبيهة بالأفكار البوتينية Putinism، مدخلا لتجديد الشرعية الخارجية لروسيا.
وخلال السنوات الماضية، صاغت روسيا ثلاثة نماذج أساسية لدعم اليمين المتطرف داخل أوروبا، وهي:
1- الزيارات السياسية: عبر دعوة رموز وقادة هذا التيار لزيارة روسيا والتنسيق المتبادل معها، ففي مايو 2013 زار برونو غولنيش (أحد رموز حزب الجبهة الوطنية اليميني بفرنسا) روسيا، كما تكررت زيارات زعيمة الحزب السابقة والمرشحة للرئاسة الفرنسية مارين لوبان، لموسكو، وكانت آخر زيارة لها في مارس الماضي (2017) حينما التقت الرئيس الروسي بوتين في الكرملين.
وفي شهر ديسمبر 2016، وقَّع حزب الحرية اليميني النمساوي اتفاق تعاون مع الحزب الروسي الحاكم "روسيا الموحدة" للتنسيق والتفاهم حول عدد من القضايا، واعتبر رئيس حزب الحرية -آنذاك- نوربرت هوفر أن "التعاون مع حزب روسيا الموحدة هو بمثابة بادرة نحو التعاون السلمي".
2- الدعم المالي: فعلى الرغم من صعوبة تتبع مسارات التمويل الروسي لقوى اليمين المتطرف في أوروبا، فقد كشفت العلاقة بين حزب الجبهة الوطنية الفرنسي وموسكو عن تداخل عنصر المال في معادلة الدعم الروسي للقوى اليمينية الأوروبية، حيث حصل الحزب في عام 2014 على قرض تُقدر قيمته بـ9 ملايين يورور لتمويل أنشطته من البنك الروسي التشيكي ومقره موسكو وفقا لموقع "إذاعة صوت روسيا" في 23 نوفمبر 2014. وفي وقت لاحق، أفاد تقرير لرويترز في 22 ديسمبر الماضي (2016) بأن الحزب طلب من روسيا الحصول على قرض بقيمة 27 مليون يورو لتمويل مشاركة الحزب في الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال هذا العام (2017).
3- المساندة الإعلامية للمنتمين لتيار اليمين المتطرف، إذ إن العديد من قادة اليمين المتطرف (على غرار: نايجل فاراج "زعيم حزب استقلال بريطانيا"، وخيرت فيلدرز "زعيم حزب الحرية الهولندي"، ومارين لوبان "زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي") يتم استضافتهم بصورة متكررة في وسائل إعلام روسية.
هذه المساندة الإعلامية انطوت على إثارة المشكلات للقوى المناوئة لتيار اليمين المتطرف، ولعل الانتخابات الرئاسية الفرنسية هذا العام (2017) مثال على هذا الأمر، حيث منعت الحملةُ الانتخابية للرئيس الفرنسي الجديد "إيمانويل ماكرون" ممثلي قناة "روسيا اليوم" ووكالة "سبوتنيك" الروسية من الدخول إلى مقراتها، وبرر المتحدث باسم الحملة هذا المنع "بتعمد كلا الجهتين إصدار أخبار وهمية ومعلومات كاذبة للإضرار بماكرون".
محفزات التأييد:
تفترض ألينا بولياكوفا، مدير أبحاث أوروبا وأوراسيا بالمجلس الأطلنطي Atlantic Council، أن تمكين قوى اليمين المتطرف في أوروبا يساعد روسيا في إعادة صياغة المنظومة الأوروبية على النحو الذي قد يخدم المصالح الروسية.
وتأسيسًا على هذه الفرضية، فإن الدعم الروسي لتيار اليمين المتطرف (مع التأكيد على وجود بعض الاستثناءات لهذه العلاقة) يبدو مرهونًا بالمحفزات التالية:
1- التقارب الفكري: فالكثير من أطروحات اليمين المتطرف تشترك مع السرديات التي تقوم عليها "روسيا فلاديمير بوتين"، لا سيما فيما يتعلق بإعلاء مكانة القومية، والقيم المجتمعية المحافظة، وتوجيه الانتقادات للاتحاد الأوروبي والسياسات الأمريكية، والرغبة في تقييد حركة الهجرة كآلية لمجابهة "الراديكالية الإسلامية"، ناهيك عن التشكيك في القيم والأسس التي قامت عليها الليبرالية بفعل ما أفضت إليه من أزمات اقتصادية واجتماعية.
العديد من أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا تنظر إلى بوتين باعتباره نموذجًا للشخص القوي الذي يطمحون إلى تقليده، فنايجل فاراج يصف بوتين بأنه "استراتيجي رائع"، وكثيرًا ما عبرت مارين لوبان عن إعجابها بشخص الرئيس الروسي لأنه يمثل نموذجًا "للحمائية، والاهتمام بمصالح دولته، والدفاع عن هويتها في مواجهة العولمة وتداعياتها".
2- الشرعية الخارجية: إذ يوفر التحالف مع قوى اليمين المتطرف لروسيا مصادر لإضفاء شرعية على السياسات الروسية. فقد استدعت موسكو هذا النموذج، على سبيل المثال، لإضفاء شرعية دولية على استفتاء ضم شبه جزيرة القرم في مارس 2014، وبالتزامن مع مقاطعة الاتحاد الأوروبي للاستفتاء، دعت موسكو عددًا من الأحزاب اليمينية مثل: رابطة الشمال الإيطالي، وفلامز بيلانغ البلجيكي، وجوبيك المجري، وحزب الحرية النمساوي، والجبهة الوطنية الفرنسية؛ لمراقبة الاستفتاء.
وقد وظفت روسيا أيضًا تحالفها مع اليمين المتطرف لدعم موقفها في قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدمتها القضية السورية، خاصة أن قطاعًا واسعًا من الأحزاب اليمينية في أوروبا يتفق بشكل أو بآخر مع الموقف الروسي، فحزب الحرية النمساوي يعتقد أن روسيا عنصرًا هامًّا في تسوية الصراع في سوريا.
ويُلقي حزب فلامز بيلانغ البلجيكي اللوم على الاتحاد الأوروبي لتصعيد الصراع السوري من خلال دعمه للقوى المناهضة للنظام السوري. ومن ثم، فإن الانحياز إلى نظام بشار الأسد والرئيس الروسي بوتين يُعتبر، من وجهة نظره، المدخل لتسوية الصراع.
3- الخروج من العزلة: بعد تدخل روسيا في أوكرانيا عام 2014، وضم شبه جزيرة القرم عقب استفتاء مارس 2014، تزايدت العزلة الأوروبية المفروضة على روسيا، واعتمدت الدول الأوروبية آلية للعقوبات ضد روسيا في مارس 2014 تتضمن عددًا من الإجراءات، كحظر التأشيرات، وتجميد الأصول، وفرض قيود تجارية واقتصادية.
واستجابت موسكو لهذه العزلة عبر مسارين، أحدهما تبني عقوبات مضادة، وهو ما شرعت فيه روسيا في أغسطس 2014 حينما أصدر الرئيس الروسي بوتين قرارًا بحظر استيراد العديد من المنتجات الزراعية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
أما المسار الآخر فهو تعزيز تحالفاتها مع اليمين المتطرف داخل أوروبا، حيث إن الاتجاه العام داخل اليمين المتطرف مؤيد للإجراءات الروسية تجاه أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، فضلا عن الاعتقاد بأن الأزمة الأوكرانية كانت نتيجة "لمحاولة عدوانية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لاحتواء روسيا، والتدخل في مناطق نفوذها". ولهذا يعارض تيار اليمين المتطرف، في اتجاهه العام، العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا.
4- إضعاف الخصوم: تتعاطى روسيا مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (الناتو) على أنها قوى مناوئة لها تسعى إلى تقويض نفوذها، ووفقًا لاستطلاع لمركز بيو للأبحاث في يونيو 2015، فإن 60% من الروس (ممن تم استطلاع آرائهم) لديهم وجهة نظر سلبية تجاه الاتحاد الأوروبي، و80% لديهم توجهات مثيلة تجاه حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، كما يُرجع ثلث الروس تدهور الوضع الاقتصادي إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.
وفي هذا السياق، فإن دعم روسيا لتيار اليمين المتطرف في أوروبا بما يحمله هذا التيار من خطاب معادٍ للاتحاد الأوروبي Euroskepticism وحلف الناتو والسياسات الأمريكية، يخدم المصالح الروسية عبر إضعاف هذه المنظومة الغربية. ولا يمكن إغفال أن هذا الاعتقاد الروسي قد اكتسب زخمًا كبيرًا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما أعقبه من تصاعد الدعاوى اليمينية في أكثر من دولة أوروبية لإجراء استفتاءات مماثلة للخروج من الاتحاد الأوروبي.
رؤية ختامية:
لم تخلق روسيا اليمين المتطرف في أوروبا، لأنه نتج في المقام الأول من سياق جديد تشكل في المجتمعات الأوروبية خلال السنوات الماضية، موسوم بتنامي النزعة نحو العزلة، والشعور بالتهديدات الخارجية، ومحاولة التخلص من الأعباء التي فرضها الارتباط بالاتحاد الأوروبي ككيان تنظر إليه مارين لوبان على أنه "الوحش المناهض للديمقراطية".
بيد أن موسكو وظفت تحالفها مع هذا التيار لخدمة مصالحها، والسعي نحو تحقيق رؤيتها للنظام الدولي، كنظام يعترف بمناطق النفوذ الروسي، وتتراجع فيه مكانة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وقدرتهما على التدخل في مناطق المجال الحيوي الروسي، ناهيك عن الاعتراف بروسيا كشريك قيادي في إدارة الشئون الدولية.
وبالرغم من أهمية التحالف مع اليمين المتطرف لروسيا، فإن هذا التحالف قد ينطوي، على المدى البعيد وبافتراض نجاح هذا التيار في تولي مقاليد السلطة في أكثر من دولة أوروبية، على إشكاليات مركزية، أهمها أن الاستغراق الروسي في مساندة قوى اليمين المتطرف في أوروبا يمكن أن يُقوّض صورة هذه القوى، والتي سيُنظر إليها حينها على أنها امتداد للخارج، ولا تعبر عن المصالح الوطنية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تداعي الأسس التي تنبني عليها المنظومة الأوروبية والغربية الراهنة يحتمل أن يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في المجتمعات الأوروبية، خاصة أن ثمة قطاعًا واسعًا داخل هذه المجتمعات رافض لتوجهات اليمين المتطرف، وهو ما سيؤثر سلبًا على موسكو ومصالحها.