أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

آليات المواجهة:

تطور خرائط الجماعات الإسلامية المسلحة في القرن الإفريقي

08 فبراير، 2017


يكتسب إقليم القرن الإفريقي، الذي يقع في شرق القارة الإفريقية، أهمية بالغة بحكم موقعه الاستراتيجي، وإشرافه على منافذ بحرية هامة، هي: المحيط الهندي، وخليج عدن، والبحر الأحمر، مما أدى إلى احتدام التنافس بين القوى الدولية والإقليمية سعيًا للحصول على موطئ قدم لها في الإقليم. 

يضم القرن الإفريقي من الناحية الجغرافية أربع دول هي: الصومال، وجيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا. وبجانب هذا التعريف الجغرافي الضيق هناك تعريفات سياسية موسعة تشمل بالإضافة للدول سالفة الذكر دولا أخرى مثل: كينيا، وأوغندا، وتنزانيا، وجنوب السودان. وهناك من يعتبر اليمن ضمن دول الإقليم، رغم وقوعها في آسيا، نظرًا لارتباطها الشديد بدول القرن الإفريقي، وهو ما اتضح مع اندلاع المواجهات بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي.

وبوجه عام، يُعاني القرن الإفريقي من أوضاع سياسية وأمنية مضطربة نتيجة للنزاعات الإقليمية (النزاع الإريتري-الإثيوبي)، والصراعات الداخلية (حالتي الصومال واليمن)، وما يرتبط بها من تدخلات عسكرية وتداعيات إقليمية، والتي يواكبها فوضى عارمة تُفسح المجال لتمركز وانتشار الحركات الإسلامية المسلحة، ذات الأهداف الدينية والسياسية.

في هذا الإطار، يسعى هذا التقرير إلى إلقاء الضوء على العوامل التي أدت إلى انتشار الحركات الإسلامية المسلحة في القرن الإفريقي، والإطار الفكري لهذه الجماعات، وهياكلها التنظيمية، وخرائط تحالفاتها الإقليمية والدولية، وممارساتها، وآليات مواجهتها. 

عوامل الانتشار

 يضم القرن الإفريقي دولا ذات أغلبية ساحقة من المسلمين، مثل الصومال وجيبوتي، ودولا أخرى ذات أغلبية مسيحية، مثل أوغندا وكينيا. كما توجد دول أخرى مختلطة لا توجد بها أغلبية ساحقة لأي دين، مثل: إريتريا، وإثيوبيا، وتنزانيا.

كان التعايش السلمي بين أصحاب الديانات المختلفة هو الطابع العام للإقليم الذي تنتشر فيه الطرق الصوفية غير المنخرطة في معتركات السياسة. لكن الإقليم أضحى تدريجيًّا مرتعًا للحركات الإسلامية المسلحة ذات التوجهات الراديكالية، التي تسعى لإحداث تغييرات جذرية في دولها ومجتمعاتها، اعتمادًا على العنف المسلح، مع رفض أي شكل للتفاعل السلمي في العملية السياسية مع الحكومات المحلية، سواء بالتحالف أو المشاركة أو حتى المهادنة.

كانت البداية مع إنشاء حركة "الجهاد الإسلامي" الإريترية، مرورًا بحزب "الاتحاد الإسلامي" في الصومال، فتنظيم "القاعدة" في القرن الإفريقي، وتنظيم "القاعدة" في اليمن، وصولا إلى حركة "الشباب المجاهدين" في الصومال، وتنظيم "أنصار الشريعة" في اليمن الذي خرج من عباءة تنظيم "القاعدة" اليمني عام 2011، بالإضافة إلى فروع أخرى لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في اليمن والصومال، و"جيش تحرير أوغندا" المسلم. فضلا عن آلاف الأشخاص الذين يحملون أفكار تلك التنظيمات. ولا يكاد يسلم من وجود مثل هذه التنظيمات سوى جيبوتي التي تستضيف على أراضيها العديد من القواعد العسكرية للقوى الدولية والإقليمية.

ويعني ذلك استبعاد العديد من التنظيمات الإسلامية الأخرى، مثل: "الجبهة القومية الإسلامية" في السودان، و"اتحاد المحاكم الإسلامية" في الصومال، باعتبار أنها لا تعتمد على العنف المسلح في ممارساتها، وأنها تقبل بقواعد اللعبة السياسية في الدول التي تنشأ فيها، حيث تُشارك في الانتخابات، ترشحًا وتصويًتا، وتشارك أحيانًا في إدارة البلاد.

وقد تجمعت مجموعة من العوامل التي أدت لظهور الحركات الإسلامية الراديكالية في إقليم القرن الإفريقي، لعل أهمها: التسلط والفساد ورخاوة الدولة، وسياسات الدول الغربية، والتأثيرات الفكرية للتنظيمات الجهادية العالمية، مثل: تنظيمي "القاعدة" و"داعش". 

وقد نشأت التنظيمات الإسلامية الراديكالية بالإقليم في خضم أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة السوء، مما ولد قناعة لدى مؤسسيها بأن مهمة النظم الحاكمة أصبحت تتركز في إقصاء الشريعة والثقافة الإسلامية من بلادهم، واستيراد النظم والقيم الغربية، دونما اكتراث بالخصوصيات الثقافية والمجتمعية، مع التورط في نهب الثروات. لهذا، أضحت تلك الحركات تنظر إلى ذاتها باعتبارها حركات "جهادية" تقوم بأدوار أجيال مضت دفاعًا عن الدين والهوية الإسلامية ضد نظم حكم "علمانية" تسعى إلى نشر قيم التحديث والتغريب.

وقد وفّر ضعف سيطرة النظم الحاكمة في القرن الإفريقي على أقاليمها وحدودها وسواحلها بيئةً مثاليةً لنشأة وتركز تلك النوعية من الحركات، خاصة مع وجود حاضنة شعبية لها، ممثلة في القبائل التي توفر لها الملاذ الآمن والدعم اللوجيستي، إما لانتساب قيادات تلك الجماعات إليها، أو لتحقيق المصالح المشتركة، أو لتحاشي الصدام فيما بينها.

كما ساهمت سياسات الدول الغربية والمؤسسات الدولية المرتبطة بها في تكوين وانتشار تلك الحركات، خاصة مع تجنيد آلاف الشباب لمحاربة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1979، حيث حظي هؤلاء بأشكال متنوعة من الدعم من جانب الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساهم في تكوين جيل جديد من الشباب المتأثر بالمذاهب الجهادية. وبعد انتهاء الحرب عاد هؤلاء الشباب إلى أوطانهم الأصلية، ليجدوا أنفسهم في حالة من الفراغ والبطالة والتهميش السياسي، والصدام مع الحكومات، ليتم تجنيدهم مجددًا في إطار الحركات الإسلامية الراديكالية التي بدأت تتأسس في دول الإقليم.

وقد ازداد انتشار تلك الحركات -أيضًا- مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن إنشاء نظام عالمي جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، يتبنى أجندة داعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان في الظاهر، بينما يسعى للهيمنة على النظم السياسية المناوئة في الواقع. وتأكد ذلك عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج دبليو بوش" وحلفاؤها الغربيون سياسات أدت لاستثارة غضب وكراهية المسلمين في ربوع العالم، خاصة بعد إعلان "بوش" الابن خوض حرب "صليبية" ضد الإرهاب تحت شعار "من ليس معنا فهو ضدنا". وقد كانت بداية تلك الحرب غزو أفغانستان في أكتوبر 2001، وغزو وتدمير العراق في مارس 2003، بعد أن تم تأجيل الصومال إلى مرحلة لاحقة.

يُضاف لما سبق، امتداد التأثيرات الفكرية للتنظيمات الجهادية العالمية إلى إقليم القرن الإفريقي، وأبرزها تنظيما "القاعدة" و"داعش"؛ حيث تبلور الارتباط بين "القاعدة" ومتطرفي الإقليم مع إنشاء زعيم تنظيم القاعدة السابق "أسامة بن لادن" العديد من معسكرات التدريب في السودان ودول القرن الإفريقي في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وتنفيذ العديد من العمليات النوعية ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في القارة الإفريقية. ومن أبرزها تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في أغسطس 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" في ميناء عدن في أكتوبر 2000. 

ومع الحملة الأمريكية ضد تنظيم "القاعدة" في أفغانستان، اتجه التنظيم لإقامة فروع تابعة له في خارج أفغانستان. كان أولها في القرن الإفريقي واليمن، مرورًا بالعراق، وصولا إلى شمال إفريقيا وغربها. ومع توالي عملياتها في العواصم والمدن العالمية، اكتسبت الفروع قدرًا من التعاطف والقدرة على تجنيد العناصر الجهادية، وبالتالي القدرة على البقاء والتمدد. 

في هذا السياق، قاتلت عناصر تنظيم "القاعدة" في القرن الإفريقي ضمن صفوف "تحالف إعادة تحرير الصومال" ضد القوات الإثيوبية. كما ساندت حركة "الشباب المجاهدين" بعد انشقاقها عن التحالف ضد الحكومة الصومالية وقوات الاتحاد الإفريقي بالصومال "AMISOM"، حيث كان يتولى قيادة الحركة عناصر محسوبة على تنظيم "القاعدة". كما تم تنصيب "فضل عبدالله محمد"، زعيمًا لتنظيم "القاعدة" في القرن الإفريقي في نوفمبر 2009، وذلك بمدينة كسمايو الصومالية، المعقل الأساسي للشباب المجاهدين.

ودفع اغتيال "أسامة بن لادن"، وتزايد الانشقاقات داخل الحركات الموالية لتنظيم "القاعدة"، وبروز تنظيم "داعش"، بما يمتلكه من أموال، وبما يسعى إليه من إقامة دولة "الخلافة الإسلامية"، العناصر الجهادية بالقرن الإفريقي إلى مبايعة زعيم تنظيم "داعش" "أبي بكر البغدادي" كخليفة للمسلمين. وفي هذا السياق تأسست "ولاية القرن الإفريقي" في إقليم بونت لاند بالصومال، بقيادة "عبدالقادر مؤمن"، بعد انشقاقه عن حركة الشباب المجاهدين.

الإطار الفكري

تأثرت معظمُ الحركات الراديكالية في القرن الإفريقي بأفكار عددٍ من التنظيمات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، مثل: "الجماعات الإسلامية" في آسيا، و"الإخوان المسلمين". وهي تعتمد في مرجعيتها الفكرية على عدد من المصادر أهمها: مجموع الفتاوى لـ"ابن تيمية"، وكتب "ابن القيم"، و"أبو الأعلى المودودي"، و"سيد قطب"، والتفسيرات المتشددة لفتاوى بعض العلماء المعاصرين أمثال "الألباني". لذا تتبنى تلك الحركات خطابًا دينيًّا متشددًا نتيجة قناعتها بأن الخطاب الديني الرسمي هو خطاب جامد وتقليدي يُغفل قيمة العقل والاجتهاد، وأن الخطاب الصوفي يغلب عليه القيم الغيبية البعيدة عن الواقع الفعلي.

فعلى المستوى الداخلي، نجدها ترفض القوانين الوضعية والديمقراطية، بدعوى تناقضها مع قيم الإسلام، مع السعي لتغيير الواقع القائم في مجتمعاتها، بدعوى أنه يشبه "جاهلية ما قبل الإسلام"، وإقامة دول إسلامية "إمارة" تكون نواة لإقامة دولة الخلافة الراشدة، وتطبيق الشريعة الإسلامية بالقوة.

وهنا، تنظر تلك الحركات إلى نفسها باعتبارها الطائفة/الفئة الغالبة أو الفرقة الناجية، بينما ترى أن الحكومات وما يُساندها يمثلون الفئة الباغية أو الطائفة المهزومة. لذلك فهي ترفض الحوار أو التفاوض معها، وتجتهد في قتالها، استنادًا إلى فتوى ابن تيمية بأن "قتال الطائفة/الفئة الغالبة للمرتد مقدم على قتال الكفار الأصليين".

أما على المستوى الخارجي، فتقسم تلك التنظيمات العالم إلى قسمين هما: قسم الإيمان والحق، وقسم الكفر والباطل. وتعتبر نفسها في القسم الأول. فيما تصنف الدول الغربية في القسم الثاني. وتذهب إلى أن الصراع في عالم اليوم هو صراع بين الإيمان والكفر، وأن الحرب في الصومال وفلسطين وأفغانستان والعراق والجزائر والشيشان هي حرب واحدة، بين معسكر الإسلام ومعسكر "الأمريكان" و"الصهاينة" وحلفائهم من النظم المرتدة العميلة.

وبالطبع، ترفض تلك الحركات كلَّ ما هو مرتبط بالغرب من سياسات ومؤسسات وقيم فكرية ومناهج دراسية. ولهذا، فإنها ترفض مفاهيم الوطن والمواطن، والحدود السياسية بين الدول، باعتبارها مفاهيم "علمانية"، وترى أن المعتقد الديني هو أساس المواطنة. ولعل ذلك هو ما يفسر رفضها للأفكار القومية، بدعوى أنها مزقت الأمة الإسلامية، وكذا يفسر خطابها السياسي المفعم بكراهية الغرب والرغبة في الانتقام منه. 

البناء التنظيمي

لا تملك معظم الحركات الإسلامية الراديكالية هيكلا قياديًّا واضحًا، باستثناء القيادة العليا. لذا يتسم هيكلها التنظيمي باللا مركزية. بمعنى وجود مركز للتنظيم وفروع منتشرة في مناطق مختلفة. وبصفة عامة، يتكون الإطار التنظيمي لتلك الحركات من عدة مستويات، أهمها: القيادة العليا، والجناح العسكري، والجهاز الإعلامي.

وبالنسبة للقيادة العليا فيتولاها الأمير، ويعاونه مجلس للشورى والأمراء المحليون. وتُسند القيادة للأمير من خلال آلية البيعة التي تمنح الأمير صلاحية اتخاذ القرارات التي تصبح واجبة النفاذ بعد موافقة مجلس الشورى عليها. ومن أهم قيادات تلك الجماعات ناصر الوحيشي "أبو بصير" زعيم "القاعدة" في اليمن، ومختار عبدالرحمن "أبو الزبير" القائد السياسي للشباب المجاهدين في الصومال. 

أما الجناح العسكري، فهو يمثل الذراع التي تنفذ عملياتها المسلحة، ويقوم بالمهام الخدمية والإدارية الأخرى، ومنها: فرض النظام والقانون، وتقديم الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة. ففي إطار حركة الشباب المجاهدين مثلا يوجد جيشان هما: "جيش العسرة" الذي يتولى المهام القتالية، و"جيش الحسبة" وهو بمثابة ذراعها الإداري والخدمي. ويقدر عدد تلك القوات بنحو ثمانية آلاف عنصر تقريبًا.

أما الوحدة الإعلامية فتتولى إصدار البيانات والتصريحات التي تُعبر عن مواقف تلك الحركات الراديكالية من الأحداث والتطورات السياسية، وبث عملياتها القتالية عبر مواقعها الخاصة على شبكة المعلومات الدولية، والمحطات الفضائية، والإذاعات المحلية. ومثال ذلك تعيين حركة الشباب المجاهدين "علي طيري" متحدثًا رسميًّا باسم الحركة، وإنشاؤها مؤسسة إعلامية باسم "الكتائب" لنشر أخبارها وبث بياناتها. 

وبالنسبة لمناطق تمركز الحركات الراديكالية، فإن معظمها يُقيم معسكراته في المناطق الحدودية والوعرة، مع اللجوء إلى التنقل، واتخاذ المقرات السرية خلال الاجتماعات، وذلك توخيًا للأمن. فمثلا كانت حركة "الشباب المجاهدين" تُسيطر على مناطق واسعة في جنوب ووسط الصومال. وتتخذ لنفسها مقرًّا أطلقت عليه اسم "معسكر صلاح الدين"، والذي كان مقبرة سابقة للجنود الإيطاليين بالصومال. كما يتخذ تنظيم "القاعدة" باليمن من مدينة المكلا في جنوب شرق البلاد مركزًا له. وكذا يتمركز "جيش تحرير أوغندا" المسلم في سلسلة جبال روينزوري على الحدود بين أوغندا والكونغو الديمقراطية.

وتتمثل مصادر تمويل تلك الحركات، في: عوائد نهب البنوك، وإدارة الموانئ والمعابر، والأموال التي تتلقاها من التجار ورجال الأعمال مقابل تأمين مصالحهم، والأموال التي تحصل عليها كفدية لإطلاق سراح المختطفين من المسئولين المحليين والأجانب، معتبرين ذلك بمثابة "غنائم حرب". وعلى سبيل المثال تعتمد حركة "الشباب المجاهدين" على عوائد ميناء كسمايو، باعتباره أكبر الموانئ الصومالية على المحيط الهندي. 

وباستعراض السمات التنظيمية للحركات الراديكالية في القرن الإفريقي، يلاحظ أنها تُركز على فكرة العنف والانتقام أكثر من البعد التنظيمي، وهو ما يفسر أخذها باللا مركزية التنظيمية التي تكسبها سرعة الحركة. ولكنها تُؤثر سلبيًّا في تماسكها، وتزيد من حدة انشقاقاتها الداخلية. ومثال ذلك الانشقاق بين الجماعات الفرعية المكونة للحزب الإسلامي في الصومال (أهمها: مجموعة رأس كيامبوني، والجبهة الإسلامية، وتحالف إعادة تحرير الصومال "جناح أسمرة"، ومجموعة يوسف آند عيدي، ومجموعة عانولي أو معسكر الفاروق)، وكذا الخلاف داخل "الشباب المجاهدين" بين العناصر الجهادية المهاجرة التي انضمت إلى الحركة وقيادتها المحلية، حيث تبنى المهاجرون مبدأ "عالمية الجهاد"، بما يعنيه ذلك من ضرورة انخراط الحركة في قضايا المسلمين في شتى بقاع العالم، بينما تمسكت القيادة المحلية بالتركيز على قضايا الداخل، مع توجيه ضربات للدول الداعمة للحكومة الصومالية.

كما يُلاحظ عدم وجود روابط تنظيمية على المستوى الأفقي بين تلك الحركات، حيث يعمل معظمها بشكل مستقل عن نظرائها، وإن كان يجمع بينها وحدة الفكر والهدف. وهو ما يفسر بيانات التعضيد أو المساندة التي تتبادلها هذه الحركات، ومنها إعلان "الشباب المجاهدين" عن استعدادها للقتال إلى جانب تنظيم "القاعدة" في اليمن.

بالإضافة إلى أن الارتباط بين الحركات الإسلامية المسلحة في القرن الإفريقي والتنظيمات الجهادية العالمية هو ارتباط فكري وعقيدي بالنسبة لتنظيم "القاعدة"، لكن الأمر يأخذ بعدًا تنظيميًّا بالنسبة لتنظيم "داعش". في هذا السياق، أكدت بيانات حركة "الشباب المجاهدين" أن الرابطة التي تربطها بتنظيم "القاعدة" هي رابطة عقيدية، مؤكدة أنها أقوى من الرابطة التنظيمية. لكن في أكتوبر 2015 طرأ تحول نوعي على ذلك، بإعلان فصيل "عبدالقادر مؤمن"، انشقاقه عن الحركة، ليبايع تنظيم "داعش" وينضوي تنظيميًّا تحت لوائه.

ممارسات الحركات الراديكالية 

دأبت الحركات الراديكالية في القرن الإفريقي على تأكيد دعمها لمسلمي الإقليم، وعدم وجود أي نية لديهم للإضرار بهم. لكن عمليًّا انخرطت في شن الهجمات ضد الأهداف الحكومية، وضد المصالح والمؤسسات الغربية، مستخدمة وسائل جديدة على الأفارقة، يبدو فيها أثر تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، ومنها: تفجير العبوات الناسفة، والعمليات الانتحارية.

ومن أهم هذه الممارسات السعي لإقامة إمارات إسلامية، لتكون نواة لتوحيد مسلمي القرن الإفريقي كافة تحت مظلة إمارة واحدة، تطبق الشريعة الإسلامية بالتركيز على جانب ضيق من الشريعة يتعلق بالحدود والجزاءات. يُضاف إلى ذلك مهاجمة المنشآت الحيوية والمسئولين المحليين والأجانب، والصحفيين، ونشطاء السلام، وموظفي الإغاثة الإنسانية، ومهاجمة أنصار الجماعات الإسلامية الأخرى، خاصة الجماعات الصوفية، والسعي لاستئصال رموزها وتراثها، وذلك بهدم الأضرحة ونبش القبور، وحظر الاحتفال بمناسباتها الدينية.

ولم تنحصر هجمات تلك الحركات داخل الدول التي توجد فيها، فقد سعت لنقل أنشطتها خارج الحدود. وعلى سبيل المثال، نفذ "حزب الاتحاد الإسلامي" الصومالي بعض الهجمات داخل إقليم أوجادين الذي اقتطعته إثيوبيا بدعم من "الجبهة الإسلامية القومية" في السودان، مما أدى إلى توتر العلاقات بين السودان وإثيوبيا. كما نفذت حركة "الشباب المجاهدين" عمليات نوعية عديدة بداية من تفجيرات كمبالا (عاصمة أوغندا) في يوليو 2010 حتى الهجوم على جامعة جاريسا بكينيا في أبريل 2015، وذلك انتقامًا من دعم أوغندا وكينيا للحكومة الصومالية، ومشاركتهما ضمن قوات الاتحاد الإفريقي بالصومال "أميصوم AMISOM".

آليات المواجهة

استمرت الحركات الراديكالية في ممارسة العنف ضد الجميع، بمن فيهم المدنيون، دون أن تطرح مشروعًا فكريًّا وعمليًّا متكاملا يصلح كبديل للسياسات الحكومية والقيم الغربية التي تناهضها. لذا أصبح أغلب الرأي العام في دول القرن الإفريقي ينظر إليها باعتبارها ميليشيات توظف الدين لأغراض سياسية.

ولهذا، توافقت الحكومات والقوى الشعبية على ضرورة التصدي لتلك الحركات. وتعددت آليات المواجهة، بدءًا بإصدار الفتاوى بتجريم ممارساتها، مرورًا بالمواجهة الإعلامية، ودعم الجماعات الدينية المعتدلة، وصولا للمواجهات الأمنية من خلال الجيوش الوطنية، والتحالفات الإقليمية والدولية.

ففي الصومال -على سبيل المثال- أفتت هيئة علماء المسلمين بتجريم ممارسات حركة الشباب المجاهدين والحزب الإسلامي، وشنت الحكومة حملات إعلامية مكثفة ضدهما، وعملت على تصفية قياداتهما وأعضائهما، وتفكيك بنيتهما التنظيمية، وتجفيف مصادر دعمهما، بالتعاون مع بعثة أميصوم والجماعة الصوفية، مثل جماعة أهل السنة والجماعة. 

وعلى المستوى الإقليمي، تدخلت إثيوبيا عسكريًّا ضد اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال في نهاية عام 2006، والذي كان يتحالف آنذاك مع الشباب المجاهدين. وتدخلت كينيا عسكريًّا ضد الشباب المجاهدين في أكتوبر 2011. كما نظمت الدول الواقعة على خليج عدن العديدَ من الفعاليات لمواجهة الإرهاب، وإقامة نظام للأمن الإقليمي في الإقليم، بالتعاون مع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، ودول الخليج العربي أيضًا.

وعلى المستوى الدولي، اتبعت الأمم المتحدة إزاء الحركات الإسلامية الراديكالية في القرن الإفريقي استراتيجية تستند إلى مبدأ "الاقتراب الحذر من الأحداث، دون التورط المباشر فيها"، بما يعني دعم الحكومات في مواجهة تلك الحركات، دون التدخل العسكري المباشر ضدها.

كما سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى تقويض قدرة تلك الحركات على الاستمرار في مهاجمة مصالحها، بالتعاون مع الحكومات المحلية والحلفاء الإقليميين. فأعلنت واشنطن إنشاء قيادة جديدة لها في إفريقيا باسم "أفريكوم"، ونقلت إليها صلاحيات مكافحة الإرهاب، ووقّعت اتفاقًا مع جيبوتي يُتيح لقواتها التمركز في قاعدة ليمونيه العسكرية منذ عام 2003، حيث تنطلق الطائرات لتصفية العناصر المتطرفة، مثل "آدم حاشي عيرو" قائد الجناح العسكري لحركة الشباب المجاهدين في مايو 2008، و"صالح نبهان" قائد تنظيم القاعدة في القرن الإفريقي.

وقد سعت الدول الغربية أيضًا إلى تدريب الجيوش في دول الإقليم على محاربة الإرهاب، مع تجفيف منابع الدعم المالي والتسليحي للحركات الراديكالية؛ إذ أدرجت واشنطن العديد من تلك الحركات ضمن لائحتها للتنظيمات الإرهابية، مثل "تنظيم القاعدة" في اليمن، وحركة "الشباب المجاهدين". كما اعتبرت دولا -مثل السودان وإريتريا- من الدول الداعمة للإرهاب، ودفعت مجلس الأمن إلى توقيع عقوبات ضدهما، وطالبت الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية في القرن الإفريقي (إيجاد) بمعاقبة الفاعلين الأجانب داخل وخارج المنطقة، ممن يقدمون الدعم للجماعات المعارضة المسلحة في الصومال. 

في النهاية، ليست مواجهة تلك التنظيمات المتطرفة بالأمر اليسير؛ لأنها تعتقد بامتلاكها الحقيقة المطلقة والتصورات الجامعة المانعة، ولا تقبل بالحلول الوسطى، لكن ذلك لا يعني أيضًا استحالة مواجهتها، حيث يمكن تحقيق ذلك من خلال عدم الاستغراق في الأساليب الأمنية، والانتقال من محاربة أعراض التطرف إلى التعامل مع جذوره الأصلية، المتمثلة في عدم العدالة الاجتماعية، والفساد السياسي، وسوء الإدارة الاقتصادية، وجمود الخطاب الديني، والتبعية للقوى الغربية. فبدون اقتلاع تلك الجذور سوف يظل القرن الإفريقي بيئة حاضنة وجاذبة للتطرف الديني، ومرتعًا للحركات الراديكالية التي ينخرط فيها الشباب من داخل الإقليم وخارجه أيضًا.