صارت صناعة الأطراف الاصطناعية والأجهزة التقويمية أو البديلة، سواء في الأجزاء العلوية أو السفلية، للعسكريين أو المدنيين، وكذلك لفئات اجتماعية مختلفة بينهم أطفال ونساء وشباب وكبار في السن، أحد الاقتصاديات المتصاعدة في الشرق الأوسط، لا سيما مع استمرار اشتعال بؤر الصراعات المسلحة العربية، ووقوع التفجيرات الإرهابية، وبقاء خطر الألغام الأرضية، والخروج من الحالة النفسية السيئة، وتأمين متطلبات الأوضاع المعيشية الصعبة.
ولعل ذلك يفسر إنشاء مراكز متخصصة في صنع وتركيب وصيانة الأطراف الصناعية والتكنولوجيا المساعدة في دول النزاعات أو دول الجوار الإقليمي، وتخصيص ميزانيات لمعالحة مبتوري الأطراف، والاستعانة بخبراء ومتخصصين من الخارج، وبلورة قنوات اتصال مع منظمة "أطباء عبر القارات" والصليب الأحمر الدولي لتدريب كوادر محلية، وتخصيص منح دراسية للطلبة الراغبين في دراسة الأطراف الصناعية وذلك بالشراكة مع جامعات حكومية.
في حين توجد صعوبات تعترض انتعاش اقتصاديات الأطراف التعويضية تتمثل في قلة عدد المراكز المسئولة عن صناعة وتركيب الأطراف داخل دول النزاعات العربية، وضعف البنية التحتية في النظم الصحية الوطنية، وتعقيدات تأمين المواد الأولية التي تدخل في صناعة الأطراف، ونقص الكوادر المتخصصة في التقنيات التعويضية، وارتفاع تكلفة استيراد المواد التي تدخل في صناعة الأطراف، ومحدودية الدعم المقدم من المنظمات الإنسانية.
أدوات تعويضية:
بدأت فكرة تصنيع الأطراف التعويضية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في ألمانيا، كأدوات تعويضية تجميلية لجزء مفقود من جسم الإنسان يركب عليه، بصفة مؤقتة أو دائمة، ليحد أو يزيد من الحركة أو يدعم أحد أجزاء الجسم مثل قدم أو ركبة أو يد وربما أذن وغير ذلك، بسبب حروب داخلية أو حوادث مرورية أو مرضى السكر. وتصنع هذه الأجزاء أو الأطراف من مواد مختلفة (خشب، معدن، بلاستيك) وتصمم بشكل خاص لتكون بديلاً مناسبًا للطرف المفقود في الجسم. ويُؤمِّن هذا الطرف الاصطناعي الحركة الكافية التي تتطابق مع الحركة الوظيفية للطرف المفقود أو العضو الأصلي ليتمكن المصاب من مزاولة نشاطه بصورة اعتيادية، ويستعيد المريض شكله الطبيعي الخارجي.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد تقديرات رسمية لفاقدي الأطراف في دول الصراعات العربية، بسبب تعثر التوصل إلى كل الحالات وكذلك غياب التواصل بين المؤسسات الصحية الرسمية والأهلية، الوطنية والإقليمية والدولية، وإن كانت هناك تقديرات من منظمات دولية لبعض الحالات الصراعية. فوفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في ديسمبر 2017، أدت الحرب التي تشهدها سوريا منذ مارس 2011 إلى إعاقة دائمة لمليون ونصف مليون سوري، بينهم 86 ألف شخص تسببت إصاباتهم في حالات بتر.
وطبقًا للمنسق الطبي للصليب الأحمر في ليبيا أحمد بعيو، فإن نحو ألف شخص فقدوا أطرافهم في البلاد خلال الفترة (2011-2014). وتشير تقديرات عام 2017 إلى أنه يوجد في جنوب السودان حوالي 60 ألف شخص بأطراف مبتورة كانت الحرب سببًا في إصابتهم سواء كانت الجروح ناجمة عن إصابة بطلقات نارية أو انفجار ألغام أرضية.
حالات مختلفة:
وقد شهدت بؤر الصراعات العربية تدشين تلك المراكز منذ عام 2011، حيث افتتح في دمشق أول مركز متخصص بصناعة الأطراف الصناعية وتأهيل المعوقين حركيًا في منطقة شبعا بريف دمشق، ويقدم الخدمة مجانًا أو بسعر التكلفة، وذلك بالتعاون بين الهلال الأحمر السوري والهلال الأحمر في إيران، حيث تبرعت الحكومة السورية بالأرض التي تبلغ مساحتها 6 آلاف متر مربع وشيدت منظمة الهلال الأحمر السوري البناء وجهزته بتكلفة إجمالية بلغت 65 مليون ليرة.
وقدمت جمعية الهلال الأحمر في إيران أجهزة ومعدات للمركز بقيمة 15 مليون ليرة بالإضافة إلى الخبراء الذين دربوا فنيي المركز الذي يهتم بتقديم الخدمة إلى فئات مختلفة منها المعوقين حركيًا وضحايا الصراعات المسلحة الذين فقدوا أحد أطرافهم والأشخاص الذين يعانون من تشوهات ولادية. وكذلك مركز الأطراف الصناعية في ريف إدلب الذي يعمل كفرع للمركز الرئيسي في مدينة أنطاكية التركية، ويتلقى دعمه من منظمتى "غول سوري" و"سما" وهى منظمات خيرية. إلى جانب مشروع "حياة" للأطراف الصناعية في جنوب سوريا ببلدة تسيل بريف درعا والقنيطرة، ومؤسسة "فجر الأمل" لتركيب الأجهزة الصناعية لأصحاب الأطراف المبتورة.
وأيضًا مركز الأطراف الاصطناعية في ولاية هطاى جنوب تركيا، الذي أسس بالتعاون بين مكتب المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية ومنظمة "ريليف" الدولية، وقدم خدمات لآلاف السوريين منذ عام 2013 بالمجان وأحدث التقنيات. فضلاً عما أعلنته مصادر إعلامية عديدة في 13 أكتوبر 2017 بأن رئاسة الحكومة السورية تجهز لإنشاء مركز لصناعة الأطراف الصناعية في اللاذقية وإعادة تأهيل مركز حلب، إلى جانب المباحثات بين الجانب الروسي والسوري على هامش معرض دمشق الدولي في أغسطس 2017 لإنشاء معمل لتصنيع الأطراف الصناعية.
كما توجد ثلاثة مراكز للأطراف الصناعية أو البديلة في اليمن، زاد الطلب عليها بعد الحرب، وخاصة الأول في تعز، والثاني بالعاصمة المؤقتة عدن، وبات المركزان يغطيان المدن التي تتواجد فيها حالات مبتورة الأطراف إضافة للمحافظات المجاورة، والثالث في مأرب حيث يدعمه مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية لعلاج المصابين من المواطنين والعسكريين الذين فقدوا أطرافهم بسبب الحرب، بدلاً من تكاليف السفر للخارج. وقد تمثل الهدف من إنشاء هذه المراكز في تركيب الأطراف الصناعية للجرحى، وتدريب كوادر يمنية على صناعة وتركيب أطراف صناعية.
وافتتح في 27 يوليو 2016 بكلية التمريض والعلوم الصحية بجامعة مصراتة، مركز للأطراف الصناعية، برعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا، ويهدف إلى مساعدة مبتوري الأطراف في البلاد، ويعد أول مركز يختص بتركيب الأطراف الصناعية في ليبيا. كما بحث عميد وأعضاء بلدية مصراتة مع رئيس شركة أرثوميديكا الإيطالية ماسيمو بولين في إبريل 2018 سبل التعاون بينهما في مجال تركيب الأطراف الصناعية لشباب مصراتة الذين خسروا أطرافهم في الحرب المتوالية منذ ثورة فبراير 2011، فضلاً عن التعاون في المجالات الصناعية والاقتصادية والاستشارات الطبية والتدريب.
وكذلك تعمل مستشفى أو بالأحرى "مصنع ناء" للأطراف الصناعية في مدينة بنتيو بجوبا عاصمة جنوب السودان للعلاج التعويضي أو الحصول على المساعدة في التكيف مع الحياة الجديدة. كما تم تجهيز أول مركز متخصص لتركيب الأطراف الصناعية لمصابي الألغام بمصر وليبيا في مطروح، بل وصيانة تلك الأطراف، وتم الاستعانة ببعض المصابين كفنيين للصيانة، وذلك بعد تدريبهم على أعمال الصيانة والتركيب بإشراف من الأمانة العامة لإزالة الألغام وبالاستعانة بكوادر متخصصة لتدريبهم، وفقًا لتصريح السفير فتحي الشاذلي مدير الأمانة العامة لإزالة الألغام وتنمية الساحل الشمالي الغربي في 15 ديسمبر 2015.
إن هناك مجموعة من العوامل تفسر ازدياد الطلب على الأطراف الصناعية أو التعويضية في الإقليم، وتطورها من حيث الشكل وصولاً إلى الأطراف المتحركة ميكانيكيًا، وهى:
طاحونة الحرب:
1- استمرار الصراعات المسلحة في المنطقة: وخاصة في جنوب السودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق وأفغانستان، والتي تتدخل في بعضها قوى دولية وأطراف إقليمية، إذ زاد الإقبال على الأطراف المُصنَّعة في أعقاب الحروب بشكل مضاعف مقارنة بفترات ما قبلها. فالحروب والصراعات أسفرت عن آلاف من الضحايا ممن فقدوا أطرافهم خلال المواجهات الميدانية بعد تزايد استخدام القنابل العنقودية والقذائف الصاروخية من مختلف أطراف الصراع.
ولم يقتصر عمل مراكز الأطراف البديلة على مناطق سيطرة قوات النظام السوري أو الميلشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية، بل انتشرت في المناطق القريبة من الحدود التي لديها أفرع في الداخل، إلى جانب دول الجوار مثل لبنان والأردن وتركيا. وفي هذا السياق، استضافت الكويت الطفل السوري عبد الباسط الصطوف (صاحب صرخة شيلني يا بابا) الذي بترت قدماه في مكان نزوحه هو وعائلته، خلال المواجهات في عام 2017، إذ أبدى بيت الزكاة الكويتي استعداده لرعاية الطفل وعلاجه من خلال تغطية التكاليف المالية في مركز بيت الزكاة للأطراف الصناعية.
الشظايا الطائرة:
2- وقوع التفجيرات الإرهابية: باتت الحاجة للأطراف الصناعية من المستلزمات الطبية الضرورية في الدول التي تتعرض لعمليات وهجمات إرهابية، حيث زادت أعداد الجرحى ممن خسروا بعض أطرافهم. وفي هذا السياق، تكفلت الجمعية الكويتية للإغاثة بتركيب أطراف صناعية لنحو 66 شخصًا أصيبوا بمدينة الموصل خلال سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة، وأشرفت القنصلية العامة للكويت في أربيل على عمليات التركيب بأحد المستشفيات الخاصة في أربيل في يناير 2018.
العبوات الناسفة:
3- بقاء خطر الألغام الأرضية: التي تؤدي إلى تشظي الأعضاء البشرية. فعلى سبيل المثال، لاتزال الألغام والعبوات الناسفة تنتشر في أراضي جنوب السودان التي تدور في أنحائها رحى حرب أهلية. كما زرعت ميلشيا الحوثيين الألغام بكافة أشكالها بطرق عشوائية في أنحاء متفرقة من اليمن، وخاصة صنعاء وعدن ومأرب وتعز والجوف، والتي بلغت حوالي مليون لغم وفقًا لأحد التقديرات.
وهنا، أطلقت السعودية في 25 يونيو الماضي مشروع لنزع الألغام البرية والبحرية في اليمن "مسام"، بمشاركة كوادر سعودية وخبرات عالمية، ويدعمه ماليًا مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، حيث تم تركيب أطراف لعدد من المصابين في مصر والأردن والهند، وإعادة تأهيل أطراف كانت غير فاعلة ولم تعد صالحة للاستخدام، فضلاً عن الدور الإماراتي في تركيب الأطراف الصناعية لعدد من اليمنيين. وقد تم إنتاج ركبة صناعية مخصصة لضحايا الألغام في العالم، بحيث تكون رخيصة الثمن لضحايا من دول فقيرة، ولا تتجاوز تكاليفها 10 دولار.
عودة الأمل:
4- الخروج من الحالة النفسية السيئة: تعد مراكز الأطراف الصناعية بمثابة مشروع إعادة الحياة لمصابي الصراعات المسلحة، بسبب الشعور باليأس الناتج عن عدم القدرة على الحركة. فالمنظمات التي تُؤمِّن تلك الاحتياجات ليست قائمة على تركيب الأطراف فقط بل تحاول تصنيعها للتخفيف من معاناة المصابين، وهو ما يشير إلى تزايد الإقبال على الأطراف الصناعية كحل بديل لعودة الأمل ومنح الشعور بمزيد من الثقة.
معضلة التعايش:
5- تأمين متطلبات الأوضاع المعيشية الصعبة: لا سيما أن المبتورين يعانون من أجل الحصول على فرصة عمل أو تدبير مشروع خاص في مرحلة ما بعد تعرضهم للإعاقة، على نحو يعكس تعدد مراحل التعامل مع فاقدي الأطراف، وهى إعادة تأهيل بدني، وإعادة تأهيل نفسي اجتماعي، وإعادة تأهيل مهني، على نحو يقود إلى التأقلم مع الإعاقة.
تحديات ضاغطة:
غير أن هناك صعوبات تواجه اقتصاديات الأطراف التعويضية في دول الصراعات العربية، منها:
1- قلة عدد المراكز التأهيلية المسئولة عن صناعة وتركيب الأطراف: خاصة مع تراجع أوضاع المستشفيات والمستوصفات والمختبرات الطبية، وصعوبة الوصول إلى بعض مناطق النزاع، بحيث لا يتمكن الكثيرون ممن فقدوا أطرافًا من الانتقال والحصول على المساعدة.
2- تعقيدات تأمين المواد الأولية والتجهيزات التكميلية: التي تدخل في تركيب الأطراف الصناعية في بعض الأحيان، بسبب الحصار المفروض على بعض المناطق من قبل قوات الخصوم. فهناك مراكز لا تستقبل سوى المصابين المحسوبين على الجيش النظامي السوري، والعكس صحيح.
3- نقص الكوادر البشرية المتخصصة في التقنيات التعويضية: لا سيما مع سفر شريحة ليست بالقليلة منهم هروبًا من الحرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق إلى دول أكثر أمنًا. وقد يؤدي ذلك إلى تراجع استخدام التقنيات الحديثة سواء من الأطباء من الجراحة إلى الطب العصبي والنفسي أو من متخصصي العلاج الطبيعي والمهندسين الاختصاصيين لابتكار حلول للبشر في المناطق المتأثرة بالصراعات.
4- غلاء المواد الأولية بسبب ارتفاع قيمة العملات الأجنبية: وهو ما يبدو جليًا في دول الصراعات العربية، على نحو يؤدي إلى تعثر استيراد المواد الأولية التي تدخل في صناعة الأطراف رغم تصاعد العنف واشتداد المعارك، الأمر الذي يعكس التكلفة الكبيرة للطرف الواحد.
5- ضعف الدعم المقدم من المنظمات الإنسانية الدولية: تبذل الأخيرة جهودًا متواضعة بالنظر لتعدد بؤر الصراعات المسلحة بالإقليم، وعدم توافر المتطوعين المختصين بالأطراف الصناعية، واستمرار مشكلات الحصول على المساعدات المالية، مما يدفع البعض إلى الاستعانة بالأجهزة البدائية أو التقليدية.