أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

فاعلية الأداء:

التجربة البريطانية في الإنفاق على البحث والابتكار

11 يوليو، 2023


عرض: عبد المنعم علي

يشكل الاستثمار في المجال البحثي واحداً من بين مجالات الاهتمام لدى الدول المختلفة لإنتاج معرفة ابتكارية جديدة يمكن أن تقدم حلولاً للمشكلات العامة. وتُعد المملكة المتحدة من بين الدول الأكثر اهتماماً بمجال الإنفاق على القطاع البحثي، وهو ما يترجم بصورة كبيرة في ضوء ترتيبها العالمي، إذ إنها من بين أكثر الدول كفاءة في إنتاج المنشورات التي يتم الاستناد إليها والاستشهاد بها في العالم.

في هذا الإطار، تأتي أهمية فهم ملامح التجربة البريطانية من خلال دراسة الباحث في مؤسسة "راند"، يواكيم كرابيلز، والتي جاءت بعنوان "العلاقة بين الإنفاق البحثي والأداء البحثي". إذ تسلط الدراسة الضوء على وضعية النظام البحثي والتطوير والابتكار في المملكة المتحدة، كما تناقش العلاقة بين الإنفاق والأداء البحثي، وتطرح كذلك عواقب انخفاض مستويات الاستثمار في هذا المجال.

أهمية متنامية: 

يؤدي البحث والتطوير وظيفة اجتماعية واقتصادية مهمة؛ حيث يمكن إيجاد حلول للمشكلات عبر إنشاء المعرفة الجديدة، كذلك يؤثِّر الاستثمار في البحث والتطوير على تزايد الإنتاجية والرفاهية الاقتصادية. وبالرغم من أن الروابط السببية بين تلك الأمور ليست مباشرة، فإن تلك العلاقة تظل قائمة، وهو ما يتضح في حالة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تولي اهتماماً كبيراً بالاستثمار في العلم والتكنولوجيا، كأحد القطاعات المهمة لدول تلك المنظمة، ولاسيما الاستثمارات العامة في قطاع التعليم العالي، حيث يُمثل الاستثمار في الابتكار حافزاً للنمو الاقتصادي عبر خلق بيئة مواتية لتبادل المعرفة.

ويشتمل البحث والتطوير التجريبي على عمل إبداعي يتم إجراؤه على أساس منهجي من أجل زيادة مخزون المعرفة، بما في ذلك معرفة الإنسان والثقافة والمجتمع، ويجري استخدام هذا المخزون لابتكار تطبيقات جديدة، كما يتم هذا التطوير داخل المؤسسات العامة والخاصة، خاصة الجامعات والمختبرات. وفي مجال البحث والتطوير، هنالك فرق بين البحث الأساسي والبحث التطبيقي والتطوير التجريبي؛ حيث يُعرّف البحث الأساسي على أنه عمل نظري يتم إجراؤه في المقام الأول لاكتساب معرفة جديدة بالأساس للظواهر والحقائق التي يمكن ملاحظتها، دون أي تطبيق أو استخدام معين. 

بينما البحث التطبيقي يتم إجراؤه من أجل اكتساب معرفة جديدة مع تطبيقها، أما التطوير التجريبي فهو عمل منهجي يعتمد على المعرفة الحالية المكتسبة من البحث أو الخبرة العملية، والتي يتم توجيهها لإنتاج مواد أو منتجات أو أجهزة جديدة أو لتثبيت عمليات وأنظمة وخدمات جديدة، أو لتحسين تلك المنتجة أو المثبتة بالفعل. وتختلف الدول اختلافاً كبيراً، فيما يتعلق بنوعية البحث والتطوير وبما ينعكس إيجابياً على الناتج المحلي الإجمالي، استناداً إلى الآتي:

1) نوعية التمويل والاستثمار: تختلف الدول في مجال البحث والتطوير، وفقاً للتمويل والاستثمار الذي تقوم به في المؤسسات المختلفة، فهناك دول تستند بصورة كبيرة على فكرة الاستثمار الموجه من القطاع الخاص وأخرى تعتمد على استثمارات الجامعات العامة في البحث العلمي والتطوير والابتكار والتكنولوجيا، وهذه الاختلافات تحد من القدرة على التعميم الذي قد تلجأ له من دراسات المقارنة الدولية.

وتختلف البلدان اختلافاً جوهرياً في مستويات التمويل المتاح للبحث، وبالتالي أداء البحث، ففي عام 2013، كانت حصة الناتج المحلي الإجمالي المستثمرة في البحث أكثر من 4% في كوريا الجنوبية و1.6% في المملكة المتحدة بينما كانت أقل بكثير في البلدان النامية بشكل عام، مع ذلك كان هنالك تباين في الأداء البحثي بين البلدين. ومن أجل مقارنة العلاقة بين الاستثمارات أو الإنفاق والمخرجات، من الضروري فهم المدة التي يستغرقها الإنفاق البحثي في المتوسط للوصول إلى مخرجات البحث، لذا فإن أحد الأهداف المهمة لتحليل الاقتصاد القياسي هو تحديد الفترات الزمنية بين الإنفاق وأنواع مختلفة من مخرجات البحث سواءً الابتكارات المختلفة التي تحظى ببراءة الاختراع أو التأثيرات المختلفة في قطاعات الاقتصاد وغيرها.

2) القدرة الاستيعابية: وتعني التعرف إلى قيمة المعلومات الخارجية الجديدة واستيعابها وتطبيقها لأغراض تجارية، حيث إن القدرة الاستيعابية ومراعاة السياق الوطني والمؤسسي يُعدان عاملان مهمان في تحديد قدرة الدول على الابتكار وفاعلية البحث والتطوير.

3) القدرة على التأثير: يتمثل أحد مجالات التباين بين الدول في القدرات البحثية والأداء الأكاديمي في حجم التأثير الذي يقاس بطرق تقليدية منها، جودة البحث تقليدياً من خلال مراجعة الأقران، أو عبر أساليب أخرى منها، الأساليب الببليومترية التي تستخدم مستوى الاستشهاد من قبل الآخرين. وترتبط المقاييس الأخرى للأداء الأكاديمي ببناء القدرات مثل عدد مرشحي الدكتوراه الذين تم تدريبهم، والنهوض بمهن العاملين، أو إنشاء أدوات أو تقنيات أو طرق أو بنية تحتية جديدة للبحث، إلى جانب الإشارات الإعلامية وأنشطة النشر. ويمكن أيضاً قياس أداء البحث من خلال النظر في تأثيرات البحوث في الفوائد الاقتصادية أو تحسين الصحة أو الأمن أو الرفاه. 

4) جودة وتطوير أداء البحث: يمكن تعريف أداء البحث بعِدة طرق منها، جودة البحث المنتج ورأس المال البشري والبنية التحتية البحثية التي تم تطويرها أو صيانتها، وبالتالي فإن الأداء يتضمن مقاييس مختلفة أبعد من مجرد المخرجات المباشرة (مثل المقالات) ولكن يشمل بناء القدرات في شكل موظفين وبنية تحتية، وترتبط بقدراتها على التأثير سواءً في إحداث تغييرات في الاقتصاد أو الصحة أو المجتمع أو أي قطاع من القطاعات الحيوية في الدولة، ويتوقف ذلك على عدد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤثر في العلاقة بين الإنفاق البحثي وأداء البحث، مثل حصة التمويل البحثي التنافسي كبديل للاختلافات بين أنظمة التمويل.

التجربة البريطانية:

تحظى المملكة المتحدة بمكانة فريدة في مجال نظام البحث تستند بشكلٍ كبير على المعرفة والمهارات والخبرات والبنية التحتية للمؤسسات ذات الأهمية التاريخية والحديثة؛ إذ إن العديد من الوزارات داخل بريطانيا تموّل الأبحاث مثل، وزارات الصحة والدفاع وإدارة الأعمال والابتكار. وفي هذه الوزارات، توجد هيئات متعددة مسؤولة عن تمويل الأبحاث، إلا أنها تشهد أخيراً نقصاً في الاستثمارات الهيكلية في البحث والابتكار مقارنة بالدول المماثلة، ومثل هذا الأمر حال استمراريته سوف يؤدي لمخاطر مستقبلية.

وتعتمد المملكة المتحدة على نظام الدعم المزدوج في إطار تمويلها للأبحاث، حيث يوجد مساران منفصلان لتمويل الأبحاث؛ الأول، يرتبط بالجودة من خلال هيئات التمويل البريطانية، والمسار الثاني من خلال مجالس الأبحاث البريطانية. وتملك المملكة المتحدة أكثر أنظمة تمويل الأبحاث تنافسية في أوروبا، وإن كانت هناك العديد من الدول التي باتت تنخرط في تلك التنافسية مثل إيطاليا.

وتنتج بريطانيا نسبة كبيرة من الناتج العلمي في العالم إلى جانب كلٍ من كندا والصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة. ولعل ما يميزها أيضاً هو تحقيق تدفقات استثمارية كبيرة ذات تأثير واضح، إذ أنها لا تزال البلد الأكثر إنتاجية في إنتاج المنشورات الأعلى 1%؛ مما يعني أنها الأكثر كفاءة في إنتاج أكثر المنشورات التي يتم الاستشهاد بها في العالم.

على النقيض من ذلك، فإن الصين، مثلاً، تُعد من أكبر الدول إنتاجاً للمنشورات والمقالات مع ذلك فإن هناك حالة ضعف عام في متوسط عدد الاستشهادات بتلك الإنتاجية البحثية، ومن ثّم ضعف التأثير الخارجي لتلك المنتجات، حيث إن حصة الأوراق البحثية غير المستشهد بها أعلى في الصين منها في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، لكن في جميع البلدان تتزايد حصة الأوراق غير المستشهد بها.

لقد شهدت المملكة المتحدة تطوراً في مجال الأنشطة البحثية مواكبة لحالة التغيرات في الاهتمامات والأنشطة والانتقال لمجالات جديدة كتقدم طبيعي للعلم، هذا الأمر وإن كان قد سحب التمويل من أنشطة بحثية معينة ولكن لا يؤثر في وضعية المملكة المتحدة في الإنفاق على البحث العلمي. خاصة في ضوء الاهتمامات التي تتماشى مع التطورات الوطنية والخارجية ووفقاً لاحتياجات الدولة وللسياق الذي يُعد مرتكزاً رئيسياً نحو دعم مجال بحثي معين في مقابل التراجع عن دعم مجال آخر. ولا تزال المملكة المتحدة دولة تقوم بإنتاج أعلى من 1%، وتستمر في زيادة هذا الإنتاج، كما أنها لا تزال تعتمد على إرث من الأبحاث عالية الجودة.

ضرورات للتحديث:

هناك العديد من المتطلبات التي تدعم مجال البحث والتطوير والابتكار بصورة عامة، يمكن الاستثمار فيها، منها البنية التحتية، سواءً على مستوى صيانتها أو التوسع فيها، فكلاهما يُعد ضرورياً للحفاظ على الأبحاث الرائدة عالمياً، لكنهما في نفس الوقت يؤديان وظائف مختلفة. فصيانة البنية التحتية تدعم الأبحاث الرائدة عالمياً وتدعم أيضاً تعليم الباحثين الجدد، مما يحافظ على قاعدة البحث. أما على مستوى البنية التحتية الحديثة، فإنها تؤدي وظيفة مختلفة نسبياً؛ وهي السماح باستكشاف منهجيات جديدة وتجارب جديدة غير ممكنة ضمن البنية التحتية الحالية. 

يتمثل الأمر الآخر في تحديد المجالات ذات الأولوية لواضعي السياسات، وبما يكثف أولويات الإنفاق البحثي سواءً على البنية التحتية أو على الباحثين والمشاريع ذاتها وصولاً للمنتجات أو المخرجات ذات التأثير في السياسات العامة الداخلية للدولة بالمجالات والقطاعات المختلفة، مع الأخذ في الاعتبار أوجه التعاون سواءً استند البحث إلى التعاون الوطني أو الدولي لما له من دور في الاعتراف بجودة البحث، علاوة على أن هناك أهمية نحو بناء القدرات؛ حيث يمكن أن يكون تطوير القدرات (البشرية) الجديدة مؤشراً على قوة البحث في مجال ما.

خلاصة القول؛ هناك اهتمام واسع بمجال البحث العلمي والابتكار والتطوير في القطاعات المختلفة موضع الاهتمام لصانعي السياسات وتطلعات الشعوب، وهو ما ينعكس على الإنفاق البحثي، ولعل هذا الأخير وثيق الصلة بالأداء البحثي، فالدول التي تستثمر بشكلٍ كبير في البحث من المرجح بمرور الوقت أن تزيد من أدائها البحثي، وثّم هناك استنتاج آخر وهو أن التأثيرات الخاصة بالأبحاث والابتكار والتطوير ليست فورية ولكنها تتخذ فترات زمنية تتراوح ما بين ثلاث إلى ست سنوات، على جانب آخر، فإن التآكل المحتمل لقاعدة البحث بسبب نقص الاستثمار يمكن أن يظهر انخفاضاً في الأداء في السنوات المقبلة.

المصدر:

Joachim Krapels, others, The relationship between research spending and research performance A cross-country and in-depth study, RAND Corporation, Santa Monica, Calif, and Cambridge, UK, 2015.