تبدو تركيا مع مطلع العام 2016 وكأنها دخلت مرحلة جديدة على صعيد التحالفات والاصفطافات الإقليمية والدولية، فبعد أن أفضت سياستها الخارجية إلى حالة من الصدام مع التحالف الذي يتألف من روسيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا وحزب الله في لبنان، تبدو أنقرة أمام حركة دبلوماسية باتجاه ثلاثة دوائر مهمة لسياستها الخارجية، والتي يمكن اعتبارها نقاط ارتكاز إقليمية جاذبة للسياسة الخارجية التركية في هذه المرحلة، وهي:
1 ـ الانعطاف نحو الحليف الإسرائيلي من خلال إعادة الدفء إلى علاقة تركيا مع تل أبيب، فحديث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن حاجة بلاده إلى إسرائيل بقدر حاجة الأخيرة إلى تركيا، تكشف عن مدى التقدم الحاصل على مسار تطبيع العلاقات بين البلدين، وإمكانية التوصل إلى اتفاق ينهي الفتور الحاصل بينهما عقب الاعتداء الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية التي كانت متجهة إلى قطاع غزة قبل نحو خمسة أعوام.
وإذا كانت تركيا تريد من هذه الخطوة العبور إلى غزة من بوابة إسرائيل نفسها، والتطلع إلى اتفاقيات مع إسرائيل في مجال مشاريع الغاز والطاقة في البحر الأبيض المتوسط، فضلا عن إرسال رسالة سياسية إيجابية إلى الحليف الأمريكي.
وإذا كان التطبيع مع إسرائيل ينسف الشعارات البراقة للسياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة، لعل أهمها: هل ستخسر تركيا ما تبقى لها من صورة لها لدى العرب بعد انعطافتها الجديدة نحو الحليف الإسرائيلي؟ وكيف ستتصرف أنقرة مع سياستها السابقة لجهة احتضان حماس وجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي؟ والأهم ماذا عن التعاطي مع البعد المصري الذي يرى في قطاع غزة جزءاً لا يتجزأ من أمن مصر؟
2 ـ التركيز على إقامة ما يشبه تحالف مع المملكة العربية السعودية، انطلاقاً من المواقف السياسية المشتركة للبلدين تجاه العديد من قضايا المنطقة، لاسيما الأزمة السورية، ومحاولة إظهار تركيا دعمها الإعلامي والسياسي للسياسة السعودية تجاه الأزمة اليمنية وتفاقم الخلافات مع إيران، لكن الثابت هنا، أن السياسة التركية في هذا السياق تحمل براجماتية سياسية، فمقابل حرصها الإعلامي على دعم المواقف السعودية، تحرص تركيا بشكل كبير أيضاً على الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع إيران، وفي العمق فإن أنقرة تطمح من انعطافتها نحو الرياض تحقيق هدفين أساسيين، الأول: تطوير العلاقات الاقتصادية مع المملكة بشكل كبير من خلال الحصول على استثمارات ضخمة تقدر بـ 250 مليار دولار باتت المشاريع التركية الضخمة، وتحديداً العمرانية، في أمس الحاجة لها خاصة بعد أن توقف العديد منها بسبب أزمات التمويل والسيولة. والثاني: الاستفادة من العلاقة السعودية الجيدة مع مصر في تحسين العلاقة مع القيادة المصرية.
3 ـ مع السعي لإعادة تطبيع العلاقة مع إسرائيل وإقامة شراكة مع المملكة العربية السعودية تحس تركيا بأهمية العلاقة مع مصر بعد أن فشلت السياسة التركية في النيل من قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي عبر دعم جماعة الإخوان المسلمين والتأليب السياسي ضده في المحافل الدبلوماسية والسياسية.
وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى اختفاء تصريحات أردوغان النارية ضد القيادة المصرية والحرص الذي يبديه الإعلام التركي مؤخراً على إبراز أهمية العلاقة مع القاهرة والحديث عن دور سعودي لتحقيق مصالحة بين الجانبين، والتسريبات الإعلامية في تركيا ومصر عن احتمال قيام الرئيس السيسي بزيارة إلى تركيا في شهر أبريل المقبل للمشاركة في أعمال قمة منظمة التعاون الإسلامي لتسليم الرئاسة إلى تركيا؛ فكل هذه المؤشرات توحي بأن العلاقة بين الجانبين ربما تشهد انفراجات كبيرة، خاصة في ضوء الحديث عن استعداد الحكومة التركية لمراجعة سياستها بخصوص دعم جماعة الإخوان المسلمين، ومثل هذا الأمر يريح القيادة المصرية، خاصة وأنها ستتأكد بأن أردوغان لن يستقبل الرئيس السيسي في تركيا (إن تمت الزيارة) بإشارة رابعة بعد ان اعتاد على رفعها طوال السنوات الماضية.
دوافع الانعطافات التركية الجديدة
الثابت أن هذه الانعطافات والتحولات باتت سمة ظاهرة للدبلوماسية التركية، وهي ستشكل عناوين أساسية لها في المرحلة المقبلة، وما يدفع تركيا إلى التحرك باتجاه هذه الدوائر السياسية هو جملة من التداعيات والتغيرات، لعل أهمها:
1 ـ التغيرات الجيوسياسية التي أفرزتها الأزمة السورية بعد أن تحولت ثورة المطالب إلى حرب مسلحة دمرت البلاد والعباد، وتحولت الأزمة السورية إلى أزمة دولية وإقليمية بامتياز، إذ كانت تركيا أكثر الدول المتأثرة بها نظراً لعامل الجوار الجغرافي وبناء تركيا استراتيجيتها على أساس إسقاط النظام. ولعل من سوء حظ تركيا أن دول الجوار كلها اصطفت إلى جانب النظام السوري وباتت تركيا في صدام متعدد المستويات مع هذه الدول (روسيا، وإيران، والعراق، وارمينيا، فضلا عن النظام السوري وحزب الله في لبنان).
2 ـ تداعيات الصدام الروسي - التركي على الساحة السورية منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، ومن ثم إسقاط تركيا مقاتلة روسية، وممارسة موسكو سياسة تصعيد متدحرجة ضد أنقرة التي ترى أنه لا مناص من الاستنجاد بالحلف الأطلسي لمواجهة تصعيد الدب الروسي. وهنا تبرز أهمية التوجه التركي نحو إسرائيل والسعودية وقطر للتعويض عن تداعيات الصدام مع روسيا، لاسيما على صعيد تأمين مصادر الطاقة (الغاز) وتقوية الموقف السياسي تجاه الأزمة السورية ومواجهة الصعود الكردي.
3 ـ المخاوف التركية العميقة من تصاعد دور إيران في المنطقة، وإحساس أنقرة بأن الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب يحتوي على صفقة سياسية تسمح لإيران بتعزيز تدخلها في شؤون دول المنطقة، لاسيما العراق واليمن وسوريا ولبنان، بما يشكل ذلك ضربة لنفوذ تركيا وتطلعاتها الإقليمية في إطار الصراع القديم – الجديد بين البلدين على المنطقة، حيث تعزز هذا الصراع مع استحضار البعد الطائفي وتحوله إلى محرك للعديد من الصراعات المتفجرة في المنطقة. ولعل تركيا من انعطافتها نحو السعودية وإسرائيل واحتمال تحسين العلاقة مع مصر، تسعى إلى موازنة النفوذ الإيراني في المنطقة دون أن يعني ذلك التخلي عن المصالح المشتركة الاقتصادية مع إيران أو الذهاب إلى الصدام معها.
استحقاقات الداخل
في الواقع، القراءة الدقيقة لتحركات الدبلوماسية التركية الأخيرة غير بعيدة عن جملة من الاستحقاقات الداخلية، وهي استحقاقات مرتبطة برؤية أردوغان في كيفية ترتيب البيت الداخلي التركي وكيفية تأطير مسار التغيرات والقضايا الجارية في الداخل على شكل استحقاقات وتحديات تهدد هذه الرؤية. ولعل من أهم الاستحقاقات الملحة:
1 ـ النظام الرئاسي: من الواضح أن قضية الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي باتت في مقدمة أولويات الرئيس أردوغان، فالرجل يرى أن مثل هذا النظام هو وحده الكفيل بأن يحقق له أقوى الصلاحيات لتحديد السياسة التركية في الداخل والخارج، لكن مشكلة أردوغان هنا، هو أنه يواجه معضلتين لتحقيق هدفه هذا، لأولى: إن حزب العدالة والتنمية الذي أسسه لا يملك الأصوات الكافية في البرلمان لإقرار النظام الرئاسي أو حتى الدعوة من خلال البرلمان إلى استفتاء شعبي لاعتماده. والثاني: الرفض المطلق لأحزاب المعارضة للانتقال إلى النظام الرئاسي وتمسكها بالنظام البرلماني.
وأمام هاتين المعضلتين، ثمة من بدأ يروج لإمكانية إجراء انتخابات مبكرة في الفترة المقبلة بغية حصول حزب العدالة والتنمية على نحو 400 مقعد في البرلمان، وذلك بهدف تأمين النصاب القانوني لإقرار النظام الرئاسي، والأخطر في هذا الأمر، هو أن هؤلاء يربطون بين إجراء الانتخابات وحظر حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد على اعتبار أن أصوات هذا الحزب ستذهب لحزب العدالة والتنمية إن تم حظره.
2 ـ القضية الكردية: لعل من أهم تحديات الداخل التركي في المرحلة المقبلة، هو كيفية التعاطي مع القضية الكردية بعد أن تخلى أردوغان عن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني وشرع الجيش التركي في حرب مدمرة ضده، إذ باتت المناطق الكردية ساحات حرب حقيقية بين الجانبين. وارتباطاً بالحرب السابقة يتم الاستهداف السياسي والقضائي والأمني المنظم لحزب الشعوب الديمقراطي الذي برز كحزب يسعى إلى تحقيق حل سياسي للقضية الكردية عبر القيام بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. لكن من الواضح أن الحكومة التركية ليست بهذا الصدد، بل تسعى في إطار أجندتها المسبقة إلى إقصاء هذا الحزب من المشهد السياسي، وقد بدا هذا الأمر واضحاً من خلال دعوة أردوغان إلى رفع الحصانة النيابية عن رئيس الحزب، صلاح الدين ديمرداش، ومحاكمته، والدعوات الجارية إلى حظر الحزب. ولعل الهدف التركي يتجاوز الحزب نفسه، فجل الحركة التركية تجاه المشهد الكردي في الداخل يظهر وكأنه استباق إلى فرض أمر واقع لمنع الكرد من إقامة حكم ذاتي.
3 ـ دستور جديد: مع الإقرار بأن هناك رغبة كبيرة في الداخل التركي بوضع دستور جديد للبلاد ينهي عهد العمل بالدستور الحالي الذي وضعه العسكريون عقب انقلاب 12 سبتمبر 1980، فإن ثمة خلافات كبيرة بشأن الدستور الجديد، تتعلق بالأسس الرئيسية للجمهورية التركية ومسألة الهوية وتعريف المواطن والمواطنة والتعليم والقضاء ودوره... إلخ، حيث يظهر الخلاف وكأنه خلاف أيديولوجي بين حزب العدالة والتنمية الذي يريد من خلال الدستور الجديد طي صفحة الجمهورية التي أسسها مطصفى كمال أتاتورك والشروع الدستوري لأسلمة الدولة والمجتمع وبين أحزاب المعارضة التي ترفض مثل هذا المسعى وتحرص على إبقاء الدستور بعيداً عن البعد الأيديولوجي.
الخلاصة، أن تركيا بين متغيرات الخارج واستحقاقات الداخل، تبدو أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والاستحقاقات، وهي في سعيها لتحقيق تطلعاتها تراهن على أجندة سياسية تشكل في العمق طموحات أردوغان، على شكل رهانات سياسية ربما قد لا تتطابق مع الوقائع والمعطيات ومسار الأحداث.