تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات عدة تهدد بمزيد من زعزعة استقرار دولها، كما أنها تشهد حالة من الحراك والتغيرات في دور القوى الدولية ومدى تأثيرها، مع عودة بعض الدول الكبرى مثل فرنسا وروسيا وبريطانيا لممارسة دور أكبر في مسار الصراعات والملفات الرئيسية في الإقليم.
ووسط هذا الزخم، جاءت زيارة ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السعودي الأمير محمد بن نايف إلى فرنسا يومي 3و4 مارس الجاري، للتأكيد على استمرارية الشراكة الاستراتيجية التي تربط الدولتين، كما أنها هدفت للتنسيق بشأن التطورات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط، ومنها الهدنة في سوريا، والوضع في اليمن، والأزمة اللبنانية، خاصةً بعد وقف المساعدات السعودية للجيش اللبناني، ودور إيران في المنطقة وعلاقتها مع الغرب بعد الاتفاق النووي، وجهود مكافحة الإرهاب، وغيرها.
أهمية الزيارة والتعاون السعودي - الفرنسي
عكست فعاليات زيارة ولي العهد السعودي إلى فرنسا أهميتها بالنسبة للجانبين، وهو ما تجلى بدايةً في المستوى الرفيع للزيارة التي رأسها الأمير محمد بن نايف، فضلاً عن الوفد المرافق له والذي كان من بين أعضائه وزير الخارجية عادل الجبير، ورئيس الاستخبارات العامة خالد الحميدان، الأمر الذي يعكس الطابع السياسي - الأمني بالأساس لهذه الزيارة.
واتضحت أهمية هذه الزيارة من جدول أعمال ولي العهد السعودي خلال وجوده في باريس، إذ استهل اجتماعاته بلقاء وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، كما التقى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ورئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، إلى جانب لقائه وزراء ومسؤولين فرنسيين آخرين.
وتمثل زيارة الأمير محمد بن نايف إلى باريس تأكيداً على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، والتي تظهر في العديد من الملامح؛ فعلى الصعيد السياسي ثمة توافق بين المملكة وفرنسا بشأن غالبية المسائل الإقليمية في الشرق الأوسط.
وينسحب الأمر كذلك على القضايا العسكرية؛ حيث تعكس الزيارات المتبادلة بين المسؤولين العسكريين والأمنيين في البلدين تقارب وجهات النظر وتعزيز التعاون الأمني والعسكري بينهما. ويتمثل التعاون في هذا المجال في التدريب الأمني وتسليح القوات البرية والبحرية والجوية في المملكة.
واقتصادياً، تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين ليبلغ أكثر من 10 مليارات يورو في عام 2014، وتعتبر السعودية الشريك التجاري الأول لفرنسا في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويعادل الاستثمار المباشر السعودي في فرنسا 3% من قيمة الاستثمار المباشر الأجنبي السعودي في العالم، و30% من الاستثمار المباشر الأجنبي لدول مجلس التعاون في فرنسا. وفي المقابل، تعد باريس المستثمر الأجنبي الثالث في المملكة.
كما يتجلى التعاون الثقافي بين المملكة وفرنسا في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي، خاصةً بعد أن خصصت السعودية جزءاً كبيراً من ميزانيتها العامة للتعليم الذي يحوز على ربع الإنفاق العام.
تكريس الدور الفرنسي في المنطقة
ثمة تفسيرات بأن زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية إلى فرنسا جاءت في إطار مساعي البلدين لترتيب الفوضى الواضحة في المنطقة، والتي يعتبرها البعض ناتجة عن التغير في توجهات بعض القوى الكبرى لاسيما الولايات المتحدة، والتي تغير نمط انخراطها في أماكن الصراعات.
وأدى التراجع الواضح في دور واشنطن فيما يخص العديد من الملفات الإقليمية، إلى ظهور بدائل جديدة مثل التحالف العربي بقيادة السعودية لإعادة الشرعية في اليمن بعد الانقلاب الحوثي، فضلاً عن تعاظم دور قوى كبرى أخرى، مثل روسيا وفرنسا، في أزمات مثل الصراع في سوريا.
ويُشار إلى أنه منذ وصول الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى السلطة في عام 2012، تحرص باريس على تكريس وجودها في منطقة الشرق الأوسط من خلال دعم العلاقات الفرنسية - العربية من خلال محورين مهمين؛ وهما: الفرنسي - السعودي، والفرنسي – الجزائري، وأُضيف إليهما بعد ذلك محور ثالث هو المحور الفرنسي - المصري بعد وصول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى السلطة في عام 2014.
بيد أن التنسيق الفرنسي- السعودي يبقى الأكثر أهمية في هذا الصدد، لاسيما مع تأثير الرياض وباريس في الملفات المهمة بالمنطقة.
نتائج الزيارة.. تأكيد على الرؤى المشتركة
أكدت زيارة الأمير محمد بن نايف والوفد المرافق له إلى باريس، رؤية البلدين المشتركة بالنسبة إلى عدد من القضايا الأكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط، كالتالي:
1- الأزمة السورية:
جددت الرياض وباريس تأييدهما لاتفاق الهدنة بين الأطراف السورية، مع التشديد على أن المجموعات التي سمّاها مجلس الأمن فقط هي المستثناة من الهدنة، كما أعادا تأكيد دعمهما للهيئة العليا للمعارضة السورية، وشددا على ضرورة التحسين المستدام للوضع من أجل السماح باستئناف المفاوضات بين الأطراف السورية، وأهمية وصول المساعدات الإنسانية الحرة وغير المحدودة والفورية، وفقاً للقانون الدولي، لمساعدة السوريين.
وتتفق باريس والرياض على أنه لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا. وسبق لفرنسا، على غرار السعودية، أن انتقدت الغارات الروسية على مواقع المعارضة المعتدلة في سوريا.
2- الأزمة اليمنية:
سعى ولي العهد السعودي، خلال مشاوراته مع المسؤولين الفرنسيين، إلى حمل الحوثيين وحلفائهم على الالتزام بالقرارات الدولية وأهمها القرار رقم 2216 والذي كان مجلس الأمن الدولي قد اعتمده في شهر أبريل عام 2015 والذي يُوصي بفرض حظر على مبيعات الأسلحة الموجهة للأطراف التي تحارب السلطات الشرعية في اليمن، ومساعدة هذه السلطات على الحفاظ على أمن اليمن وسيادته.
في السياق ذاته، أكدت السعودية وفرنسا، خلال الزيارة، دعمهما التحالف العربي في اليمن والسلطات الشرعية في البلاد، فضلاً عن العمل الذي يقوم به المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ أحمد، وأعربا عن قلقهما الشديد إزاء تدهور الوضع الإنساني.
3- الأزمة اللبنانية:
أكد مسؤولو السعودية وفرنسا دعمهما وحدة لبنان وأمنها واستقرارها من خلال مؤسساتها الرسمية، لاسيما الجيش، مشددين على ضرورة انتخاب رئيس للبنان، في أسرع وقت ممكن، يمكنه جمع كل الأطراف ليتمكن لبنان من تجاوز الأزمة التي يمر بها حالياً.
وقد كشفت تصريحات الوفد السعودي خلال الزيارة عن تمسك المملكة بقراراتها الأخيرة فيما يتعلق بتجميد المساعدات للجيش اللبناني وقيمتها نحو 3 مليارات دولار، واعتبار حزب الله منظمة إرهابية، حيث أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، قبل مغادرته باريس، استمرار الصفقة التي كانت بلاده قد أبرمتها مع فرنسا لتسليح الجيش وقوى الأمن في لبنان، لكن الوجهة النهائية للأسلحة المعنية ستكون الجيش السعودي، وليس لبنان.
4- احتواء التحرك الإيراني في المنطقة:
ثمة مخاوف من انفتاح أوروبي على إيران بعد توقيع الاتفاق النووي وبدء تنفيذ بنوده ورفع العقوبات تدريجياً على طهران منذ منتصف يناير 2016، وما أعقب ذلك من زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى باريس في الأسبوع الأخير من الشهر ذاته، حيث وقع خلالها عدداً من الاتفاقيات الاقتصادية المهمة.
وفي إطار مساعي السعودية لحشد حلفائها الغربيين في صراعها الإقليمي مع إيران، كان من أبرز أهداف زيارة ولي العهد السعودي إلى باريس هو ضمان دعم الأخيرة للموقف العربي والخليجي تجاه إيران، والحصول على توضيحات من قِبل السلطات الفرنسية فيما يخص نوايا طهران الحقيقية تجاه منطقة الخليج، خاصةً في ظل تدخل إيران في شؤون دول المنطقة وزعزعة أمنها، لاسيما تحركاتها في سوريا ولبنان واليمن والعراق.
5- التعاون الأمني والحرب على الإرهاب:
ثمة مؤشرات عدة على أن زيارة ولي العهد السعودي إلى باريس ستعزز التعاون الاستراتيجي الثنائي في مجالات الأمن والدفاع، بجانب أنها ستسرع تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين في الفترة الأخيرة، لتعظيم فاعلية العمل المشترك تجاه كثير من القضايا الإقليمية.
وقطعت كل من السعودية وفرنسا شوطاً كبيراً تجاه التعاون الوثيق في مجالات الأمن والدفاع، حيث يشترك البلدان في خوض حرب على الإرهاب في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، كما أن ثمة تعاوناً أمنياً واستخباراتياً بين باريس والرياض.
وأعرب الجانبان، خلال هذه الزيارة، عن استعدادهما لتعزيز التعاون الثنائي الذي يرمي إلى مكافحة أسباب التطرف والعنصرية والطائفية، وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب والحد من ظاهرة العنف بجميع أشكاله، بما في ذلك العرقي والديني.
وخلال الزيارة، منح الرئيس الفرنسي هولاند وسام جوقة الشرف، وهو أعلى وسام فرنسي، لولي العهد السعودي بسبب جهوده الواضحة في الحرب ضد الإرهاب.
وجدير بالذكر أن فرنسا باعت العام الماضي أسلحة إلى السعودية بقيمة 11.5 مليار دولار، فيما احتلت السعودية المرتبة الأولى في قائمة مستوردي الأسلحة الفرنسية. وبالتالي يعد السوق السعودي ذا أهمية بالنسبة لفرنسا، وهو ما يجعل الأخيرة رافضة القرار "غير الملزم" الصادر عن البرلمان الأوروبي، نهاية فبراير الماضي، بفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى السعودية على خلفية حرب اليمن.
وبالإضافة إلى ما سبق، أكدت زيارة الأمير محمد بن نايف وجود توافق سعودي- فرنسي بخصوص موضوعات أخرى، ومنها دعم الحكومة العراقية في جهود تبني برنامج للمصالحة الوطنية يشمل جميع مكونات المجتمع العراقي، وضرورة استئناف عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية، ودعم الرياض للمبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي حول هذا الموضوع. وتعول باريس كثيراً على الرياض لمساعدتها في مسار السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، باعتبار أن الرياض هي صاحبة المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت العربية في عام 2002، وبالنظر لوزن المملكة السياسي وقدرتها على التأثير.