تصاعدت حدة التوتر في إدلب، خلال الأيام الماضية؛ نتيجة التصعيد بين القوات السورية وهيئة تحرير الشام في شمال غربي البلاد؛ مما ينذر باحتمال وقوع مواجهة واسعة بين الجانبين، تشمل ما أُطلق عليها "منطقة خفض التصعيد". وتطرح عودة التصعيد بهذا الشكل من جانب الهيئة ضد القوات السورية، عدداً من التساؤلات بخصوص دوافع هذا التصعيد، وموقف الأطراف الدولية والإقليمية، والتداعيات والسيناريوهات المُحتملة نتيجة تلك العمليات العسكرية.
دوافع التصعيد:
تتعدد دوافع تصعيد هيئة تحرير الشام ضد الجيش السوري، ويمكن استعراض أبرزها فيما يلي:
1- تعزيز موقف الهيئة في الداخل السوري: من بين الأسباب الرئيسية التي قد تدفع هيئة تحرير الشام إلى استئناف العمليات ضد القوات السورية، الرغبة في تعزيز موقفها بين الفصائل المعارضة في شمال غربي سوريا. فعلى الرغم من أن الهيئة هي القوة الأكبر في هذه المنطقة؛ فإنها تواجه تحديات داخلية، بما في ذلك صعود فصائل أخرى، فضلاً عن الضغوط الشعبية بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني. وكما يبدو، يمنح التصعيد العسكري الهيئة الفرصة لإعادة تثبيت نفسها كقوة عسكرية قوية ومؤثرة. يُضاف إلى ذلك، أن التصعيد المتجدد قد يكون جزءاً من استراتيجية هيئة تحرير الشام للضغط على القوى الدولية، من أجل الحصول على تنازلات أو اعتراف بمكانتها السياسية. فمن خلال هذا التصعيد، قد تسعى الهيئة إلى إبراز نفسها كفاعل أساسي في المعادلة السورية؛ مما يجعل من الصعب تجاهلها في أي محادثات أو اتفاقات دولية قادمة تخص مستقبل سوريا.
2- الاستفادة من الفوضى الدولية والإقليمية: يتزامن تصعيد هيئة تحرير الشام مع تغيرات كبيرة على الساحتين الدولية والإقليمية، بما في ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا، والتوترات الحالية في الشرق الأوسط. وهذه "الفوضى" قد تفتح نافذة للهيئة لتصعيد عملياتها في ظل انشغال القوى الكبرى بأزمات أخرى؛ ما يتيح لها التحرك بحرية أكبر دون الخوف من التدخل الدولي الفوري.
3- التوترات مع القوات الروسية والإيرانية: من اللافت أن القوات السورية ليست الهدف الوحيد لتصعيد هيئة تحرير الشام، بل أيضاً القوات الروسية والإيرانية الموجودة في المنطقة؛ ومن ثم، فإن التوترات المتزايدة مع تلك القوات قد تدفع الهيئة إلى شن عمليات عسكرية للضغط على هذه الأطراف، سواء لتقليص وجودها في شمال غربي سوريا، أم لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض.
مواقف خارجية:
تتباين مواقف الأطراف الدولية والإقليمية من التصعيد بين القوات السورية وهيئة تحرير الشام، وذلك على النحو التالي:
1- الولايات المتحدة: تُعد واشنطن أحد الأطراف الدولية التي تتابع تطورات الأزمة السورية عن كثب، وتسعى سياستها تجاه سوريا لتحقيق عدد من الأهداف الجيوسياسية، والحد من النفوذ الإيراني هناك. وبالنسبة لتصعيد هيئة تحرير الشام، يتسم الموقف الأمريكي بالتناقضات؛ إذ تصنف واشنطن الهيئة بأنها منظمة إرهابية؛ ومع ذلك، لا تلجأ إلى التصعيد المباشر أو اتخاذ مواقف قوية ضد عملياتها. وقد تنظر الولايات المتحدة إلى تصعيد الهيئة على أنه فرصة لتعقيد الأوضاع أمام روسيا في سوريا، فواشنطن ترى أن أي تطورات تعوق تحقيق أهداف موسكو في سوريا، خصوصاً في شمال غربي البلاد، يمكن أن تكون مفيدة لها في إطار صراعها الأشمل مع روسيا على الساحة الدولية، ولاسيما في أوكرانيا.
2- روسيا: تُعد سوريا منطقة نفوذ استراتيجي لموسكو، ومنذ تدخلها العسكري في عام 2015، دعمت روسيا القوات السورية لاستعادة السيطرة على معظم أراضي البلاد؛ ومن ثم، يتسم الموقف الروسي من تصعيد هيئة تحرير الشام بالحزم؛ وتعتبر موسكو الهيئة تهديداً لاستقرار الحكومة السورية، إلا أنها تُدرك أهمية الضغط على تركيا؛ إذ إن أي تصعيد من قِبل الهيئة قد يُحرج أنقرة التي توجد في شمال غربي سوريا وتتحمل مسؤولية ضبط الفصائل المسلحة هناك. وقد تستغل موسكو هذا التصعيد للضغط على أنقرة لإعادة ترتيب موقفها، والحد من نفوذ الفصائل المسلحة، أو تسهيل عمليات الجيش السوري في المنطقة.
3- تركيا: تُعد تركيا فاعلاً رئيسياً في شمال غربي سوريا، خصوصاً في منطقة إدلب التي تقع تحت نفوذها عبر دعمها للفصائل المعارضة للحكومة السورية هناك. وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام ليست حليفاً مباشراً لأنقرة؛ فإن الأخيرة تجد نفسها مضطرة إلى تحقيق التوازن في التعامل مع هذه الفصائل؛ لمنع حدوث تصعيد واسع النطاق قد يؤدي إلى تدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى أراضيها؛ ومن ثم، تسعى تركيا إلى احتواء التصعيد في إدلب، وتجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع الهيئة أو تشجيعها على التصعيد ضد دمشق؛ إذ تُدرك أنقرة أن مثل هذا التصعيد قد يؤدي إلى انهيار اتفاقات وقف إطلاق النار التي توصلت إليها مع روسيا؛ مما يضعها في موقف صعب ويُجبرها على التدخل بشكل أوسع للحفاظ على استقرار الحدود.
4- إيران: يُعد موقف طهران من هيئة تحرير الشام واضحاً، فهي تعتبرها منظمة إرهابية تهدف إلى زعزعة استقرار سوريا؛ لذا، فإن إيران تدعم بشكل مطلق العمليات العسكرية السورية ضد الهيئة، سواء عبر الدعم العسكري المباشر، أم من خلال التنظيمات التابعة لها هناك. وتنظر إيران إلى تصعيد هيئة تحرير الشام من منظور دعمها للحكومة السورية، والرغبة في القضاء على أي تهديدات مسلحة تقوض استقرار الدولة، وإن كان انشغال إيران بالتصعيد مع إسرائيل في عدة جبهات إقليمية قد يحد من مستوى تدخلها في الجبهة السورية حالياً.
تداعيات سلبية:
ثمة تداعيات قد تنتج عن تصعيد هيئة تحرير الشام ضد القوات السورية، ومنها ما يلي:
1- تعقيد فرص الحل السياسي: تُصعب عودة التصعيد العسكري فرص الحل السياسي في سوريا، فالمعارك المتجددة تؤدي إلى زيادة الانقسامات بين الأطراف المتصارعة، خاصةً داخل المعارضة السورية المسلحة الموجودة في شمال غربي البلاد. ومع تعثر المفاوضات الدولية حول مستقبل سوريا؛ قد يؤدي التصعيد إلى تأخير أي حلول سياسية ممكنة، ويزيد من تعقيد الجهود المبذولة لحل النزاع المستمر منذ عام 2011. كما أن عودة التصعيد قد تدفع الأطراف الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة وروسيا، إلى التدخل بشكل أكبر في النزاع السوري. إضافة إلى ذلك، ربما تعزز القوى الإقليمية، مثل: تركيا وإيران، تدخلاتها في الصراع السوري، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
2- إعادة رسم خطوط السيطرة: مع تصعيد هيئة تحرير الشام، يمكن أن تحدث تغييرات في خطوط السيطرة على الأرض؛ وإذا تمكنت الهيئة من تحقيق نجاحات عسكرية، فقد تستعيد مناطق فقدتها سابقاً أو توسع نطاق نفوذها، وهذا بدوره سيؤثر في الديناميات العسكرية بين الفصائل المختلفة والحكومة السورية؛ وقد يؤدي إلى إعادة رسم خريطة السيطرة على شمال غربي سوريا. فضلاً عما يؤدي إليه التصعيد من إضعاف الاتفاقيات الأمنية في هذه المنطقة، خاصةً أن شمال غربي البلاد اعتاد حالة من الجمود النسبي، بفعل الاتفاقيات المُبرمة بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك اتفاقية وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في مارس 2020. وقد يقوض التصعيد العسكري من قِبل هيئة تحرير الشام هذه الاتفاقيات، ويُعيد المنطقة إلى حالة من الفوضى العسكرية؛ ما يزيد من هشاشة الوضع الأمني ويجعل أي تهدئة مستقبلية أكثر تعقيداً.
3- توتر العلاقات التركية الروسية: تؤدي تركيا دوراً مهماً في شمال غربي سوريا، حيث تحتفظ بوجود عسكري هناك؛ ومن ثم قد يؤثر التصعيد بين القوات السورية وهيئة تحرير الشام في العلاقات التركية الروسية، خاصةً إذا تدخلت موسكو بقوة إلى جانب الجيش السوري. وكانت تركيا وروسيا توصلتا سابقاً إلى تفاهمات حول الوضع في إدلب، لكن أي تصعيد جديد قد يضع هذه التفاهمات على المحك؛ كذلك، فإن التصعيد له تأثير في الفصائل المسلحة الأخرى، وقد يجد بعضها نفسه مضطراً للاصطفاف إلى جانب هيئة تحرير الشام أو مواجهتها، اعتماداً على المصالح والتحالفات؛ مما قد يؤدي إلى تفكك تحالفات قائمة أو إنشاء أخرى جديدة؛ ومن ثم تغيير توازن القوى في تلك المنطقة.
4- عرقلة عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة: تتخوف فصائل المعارضة السورية المسلحة من حدوث أي تقارب بين تركيا وسوريا، في ظل المساعي المُستمرة خلال الفترة الأخيرة لاستعادة العلاقات بين البلدين؛ إذ تخشى هذه الفصائل أن يؤدي نجاح هذه الخطوة إلى إنهاء نفوذها في المناطق التي تخضع لسيطرتها في شمالي سوريا؛ ومن ثم قد تجد هيئة تحرير الشام أن عودة التصعيد مع الجيش السوري من شأنها أن تؤدي إلى إفشال الجهود "المُتعثرة" حتى الآن لعودة العلاقات بين دمشق وأنقرة، خاصةً في ظل اشتراط الرئيس بشار الأسد انسحاب تركيا من شمالي سوريا والتوقف عن دعم الجماعات المسلحة هناك.
سيناريوهات مُحتملة:
بناءً على العوامل المحلية والدولية المحيطة بالصراع السوري، يمكن استشراف عدد من السيناريوهات المُحتملة بشأن التصعيد بين الجيش السوري وهيئة تحرير الشام، ومنها ما يلي:
1- استمرار التصعيد العسكري: أحد السيناريوهات الأكثر احتمالية هو استمرار التصعيد العسكري بين القوات السورية وهيئة تحرير الشام، وقد تلجأ الأخيرة إلى تكثيف عملياتها في محاولة لإلحاق خسائر أكبر بالقوات الحكومية. وفي المقابل، ستواصل القوات السورية، بمساعدة حلفائها الروس والإيرانيين، عملياتها لاستعادة السيطرة على مناطق إضافية في إدلب. ولعل أهم نتيجة لاستمرار التصعيد العسكري هي ما يمكن أن يؤدي إليه من توترات بين تركيا وروسيا؛ مما يُعقد جهود التهدئة، ويفتح الباب أمام تدخلات عسكرية أكبر من الأطراف الخارجية.
2- تدخل دولي لفرض التهدئة: مع تفاقم التصعيد وزيادة الضغوط على المدنيين في مناطق النزاع، قد يزداد الزخم الدولي للضغط على الأطراف المتنازعة لفرض وقف إطلاق نار جديد. وهذا السيناريو يمكن أن يتبلور بوساطة تركية روسية، أو حتى من خلال جهود أممية، تهدف إلى تجنب انهيار كامل للوضع الأمني في إدلب. ومن الممكن أن يؤدي فرض وقف إطلاق النار إلى تهدئة مؤقتة في الصراع، ولكنه قد لا يكون مستداماً في ظل الانقسامات العميقة بين الأطراف. وفي حال التوصل إلى اتفاق جديد، فإن هيئة تحرير الشام قد تحاول استغلاله لتعزيز سيطرتها، بينما قد تسعى القوات السورية إلى التحضير لعمليات أكبر بمجرد انتهاء الهدنة. وفي حال استمرار الجمود العسكري بين الطرفين، قد تظهر فرصة لإطلاق مفاوضات سياسية بين دمشق والهيئة، بوساطة دولية، وهو الاحتمال الذي قد يتبلور في ظل تغيرات جيوسياسية، مثل: تحسن العلاقات بين تركيا وروسيا، أو ضغط دولي لإنهاء النزاع.
3- توسيع نطاق الصراع: إذا استمر التصعيد العسكري لفترة طويلة دون تدخل دولي فعّال لوقفه، فقد يؤدي ذلك إلى تدخلات أكبر من أطراف إقليمية ودولية جديدة. فتركيا، على سبيل المثال، قد تجد نفسها مضطرة لزيادة تدخلها العسكري في شمالي سوريا لحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية. في المقابل، قد تسعى إيران وروسيا إلى تعزيز وجودهما العسكري لصد أي محاولات لتركيا لتوسيع نفوذها. ومن المنطقي أن هذا التصعيد قد يجعل الحل السياسي أكثر تعقيداً، ويزيد من تكلفة الصراع على الأطراف كافة.
ختاماً، يبدو أن تصعيد هيئة تحرير الشام ضد القوات السورية في شمال غربي البلاد، هو نتاج مجموعة من العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية. وبينما تسعى الهيئة لتعزيز موقعها وتوسيع نفوذها؛ فإن تداعيات هذا التصعيد قد تكون كارثية، خاصةً من منظور تعقيد فرص الحل السياسي للأزمة السورية؛ ومن ثم، تظل الاحتمالات المستقبلية لتصعيد الهيئة معقدة ومتعددة المسارات، إلى الدرجة التي تضع حالة من الغموض على مستقبل منطقة "خفض التصعيد" ومدى استقرارها.