احتفى الملايين في ألمانيا ودول العالم بالذكرى الثلاثين لسقوط حائط برلين، في 9 نوفمبر 2019، والتي أسست لنهاية الحرب الباردة وحقبة الثنائية القطبية في النظام الدولي وانحسار إرث الانقسام والاستقطاب عقب الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من الفاعليات الاحتفالية، يبدو العالم أبعد من أي وقت مضى عن لحظة سقوط الجدار الفاصل حدوديًّا وأيديولوجيًّا.
فلقد عادت أجواء الاستقطاب لتهيمن على العلاقات بين القوى الدولية الكبرى، وسيطرت حسابات المصالح الضيقة والحصول على مقابل الحماية وحروب التجارة على الدور العالمي للولايات المتحدة، بالإضافة إلى ارتدادات العولمة وأزمات النظم الليبرالية وصعود التيارات القومية والشعبوية المناهضة للهجرة والانفتاح على تدفقات البشر ورؤوس الأموال والبضائع والمعلومات، بحيث تأسست جدران جديدة على امتداد خريطة العالم من العالم لتعيد إنتاج مشهد الانقسام والاستقطاب السابق على سقوط الجدار.
نوستالجيا "نهاية التاريخ":
كان سقوط حائط برلين في 9 نوفمبر 1989، تجسيدًا ماديًّا لنقطة تحول فاصلة في النظام الدولي، فقبيل أشهر معدودة من هذا الحدث التاريخي نشر "فرانسيس فوكوياما" مقاله الشهير في مجلة "ناشيونال إنترست" حول "نهاية التاريخ" بانتصار الديمقراطية الليبرالية التي تمثل قمة التطور الأيديولوجي للبشرية والصيغة الأمثل للحكم وإدارة العلاقات الاقتصادية، فيما اعتبر استشرافًا لسقوط الاتحاد السوفيتي والنظم المركزية ضمن الكتلة الشرقية.
ولم يكن سقوط الجدار سوى امتداد للسياقات الدولية -آنذاك- التي تمثلت في سقوط الحكم الشيوعي في بولندا، وانحسار النظم الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن فلك الكتلة السوفيتية لعقود ممتدة، وموجات الحراك الشعبي العابرة للحدود التي تزامنت مع تصدع النظام السوفيتي واستنزافه اقتصاديًّا.
وجاء تزايد موجات هروب المهاجرين من ألمانيا الشرقية إلى جارتها الغربية، ثم الاحتجاجات الجماهيرية الحاشدة التي رفعت شعارات "نريد الخروج" مطالبة بهدم الجدار الفاصل لتزيد الضغوط على النظام الحاكم في "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" الذي لم يتمكن من الصمود معلنًا فتح المعابر والحدود الفاصلة بين الألمانيتين، وتبع ذلك اختراق شباب المحتجين الجدار الحدودي وهدم أجزائه في مشهد استثنائي غيّر مسار الحرب الباردة وكتب عودة الوحدة الألمانية.
وعلى الرغم من أن السقوط الفعلي للاتحاد السوفيتي قد جاء في ديسمبر 1991؛ إلا أن سقوط حائط برلين كان نقطة التحول التي أكدت انحسار الكتلة الشرقية والاستقطاب الثنائي وانتهاء الحرب الباردة فعليًّا بانتصار الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وبداية عصر القطبية الأحادية والعولمة والهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، والتحول العالمي نحو الليبرالية اقتصاديًّا والديمقراطية على المستوى السياسي.
عودة الاستقطاب العالمي:
لم يمر على سقوط حائط برلين ثلاثة عقود حتى عاد الاستقطاب والصدام ليهيمن من جديد على النظام الدولي، وتبددت أطروحات "نهاية التاريخ" في خضم التحولات التي شهدها النظام العالمي إلى درجة دفعت بعض الكتاب في مراحل مبكرة للحديث عن "عودة التاريخ" (The Return of History) وبداية "عصر ما بعد الهيمنة الأمريكية" و"الحرب الباردة الجديدة"، وتمثلت أهم الملامح الراهنة للتفاعلات الدولية في مرحلة ما بعد سقوط حائط برلين في:
1- اضطرابات "انتقال القوة": يمر النظام الدولي بمرحلة انتقالية تشهد صدامًا بين القوة المهيمنة الرئيسية وهي الولايات المتحدة، والقوى الصاعدة المتحدية للوضع الراهن (Challengers) وهي الصين وروسيا. ويمثل الاحتقان المسيطر على العلاقات بين القوى الدولية الرئيسية مؤشرًا على عودة أجواء الاستقطاب العالمي في ظل احتدام الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، وتجدد إجراءات الحمائية الاقتصادية والقيود على حرية التجارة، بالتوازي مع سباق التسلح واسع النطاق والزيادة الضخمة في الإنفاق العسكري والتوسع في تصنيع وتطوير منظومات التسلح غير التقليدية، كما بدت المفارقة واضحة في عودة "عسكرة الفضاء" في مشهد سيريالي يعيد ذكرى "حرب النجوم" التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريجان" خلال الحرب الباردة.
2- سياسات "الهيمنة المشروطة": لم تتخلَّ الولايات المتحدة عن موقع الصدارة في النظام الدولي في عهد الرئيس الأمريكي "ترامب"، وإنما أصبحت ترفض تحمل تكلفة فرض الأمن وحماية الحلفاء في مواجهة التهديدات، وتحولت المطالبات بدفع مقابل الحماية من جانب الحلفاء حتى ضمن حلف شمال الأطلسي ضمن أهم أركان السياسة الأمريكية التي لم تعد تتقيد سوى بحسابات العوائد والتكاليف وتحقيق المصالح المباشرة. كما تضمنت سياسات "ترامب" تحديًا مباشرًا للسياسات متعددة الأطراف (Multilateral) لصالح السياسات الأحادية (Unilateral) وتمردًا على القواعد والمؤسسات الدولية، وعدم الاعتقاد في جدوى التحالفات، وسعيًا لمحاكاة نهج القيادة المركزية مثل "فلاديمير بوتين".
3- الثورة المضادة للعولمة: لم تصمد التدفقات الحرة للبشر والتجارة ورؤوس الأموال والمعلومات أمام طوفان الحمائية والإغلاق والعداء للهجرة والأجانب، ولا يقتصرُ الأمر على عرقلة انتقال أنشطة الشركات الوطنية خارج الحدود أو استعانتها بالعمالة الأجنبية فحسب، وإنما فرض قيود وعقوبات على أنشطة بعض الشركات الأجنبية التي تمثل مصدر تهديد لنظيرتها الوطنية، أو يتم تصنيفها كتهديد للأمن القومي على غرار العقوبات الأمريكية على شركة "هواوي" الصينية.
وعلى المستوى الشعبي، تمت إدانة "العولمة المفرطة" (Hyperglobaliztion) بالتسبب في الأزمات الاقتصادية وتزايد معدلات البطالة، كما تم وصم انتقال المصانع ورؤوس الأموال للخارج للاستفادة من انخفاض تكلفة مقومات الإنتاج باعتباره تهديدًا للمصلحة الوطنية التي تتطلب -وفقًا لقطاعات واسعة من المواطنين- فرض إجراءات حمائية، وتقييد حرية التجارة والهجرة، والانعزالية، وهو ما يتصل بعودة الأنشطة الاقتصادية للنطاق الجغرافي الأقرب (nearshore) بالتناقض مع اتجاهات نقل التصنيع للخارج سابقًا (offshore).
4- عودة القومية وصراعات الهوية: تصدرت التيارات القومية والشعبوية المشهد السياسي في العديد من دول العالم، وتحول التطرف القومي (Ultranationalism) لظاهرة جارفة تمتد تجلياتها في أرجاء العالم. فالخطاب الداعي لاستعادة الأمجاد وإحياء الإمبراطوريات والعودة للصدارة اجتذب تأييد الملايين في ظل تكلس وتصدع النخب السياسية التقليدية، وفقدانها القدرةَ على طرح سياسات قادرة على الاستجابة للحد الأدنى من مطالب المواطنين.
ويرتبط ذلك بصعود "سياسات الهوية"، وحالة الغضب والاستقطاب على أسس دينية وطائفية وعرقية، والعداء للآخر، وتآكل هامش الثقة بين الجماعات المختلفة، فيما يُعد بمثابة "ثورة مضادة صامتة" (Silent Counter-Revolution) ضد العولمة والاستلاب القيمي والثقافي، ورد فعل عنيف ضد المخاوف من "الانصهار" وتآكل الهوية المتمايزة للجماعات. وأصبحت هوية الجماعات القوى المحركة للمجتمعات والدول في ظل الانعزالية والعداء للآخر ممثلًا في الجماعات الأخرى والمهاجرين والأجانب، وهيمنة منطق المعادلات الصفرية (Zero-Sum Games) على علاقات الجماعات ببعضها.
ولعل التحديات التي يُواجهها الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بعملية الخروج البريطاني من الاتحاد "بريكسيت" والتدافع بين المؤيدين للاستمرار في التكامل والداعين للانفصال عنه في عدد من الدول الأوروبية يُعد مثالًا على تأثير سياسات الهوية على المشهد الدولي بعد 30 عامًا من الحدث الذي أسس للوحدة الألمانية ودعم بقوة مسار الوحدة الأوروبية ذاتها.
5-حراك المتمردين والمحتجين الغاضبين: تآكل هامش الأمن الذي ساد الفترة التالية على سقوط حائط برلين وباتت نظم الحكم الداخلية في عدد كبير من دول العالم تواجه موجات من عدم الاستقرار مثل الانتفاضات الشعبية والحراك الجماهيري وصولاً لحركات التمرد العنيف والحروب الأهلية وتهديدات الإرهاب والتطرف العنيف، تعبيراً عن حالة الغضب الشديد والتحدي للوضع الراهن (Status Quo) سياسياً والسعي لتغييره عبر آليات التظاهر الاحتجاجي والتصويت العقابي والعنف والتمرد وكأن الوعود الأساسية لعصر السلام الأمريكي (Pax Americana) حول ارتباط السلام والاستقرار بالليبرالية واقتصاد السوق قد تعرضت للانهيار بعد أقل من ثلاثة عقود على إطلاقها.
6- سرديات "احتضار الديمقراطية": بعد ثلاثين عامًا من سقوط حائط برلين باتت النظم الديمقراطية الليبرالية تواجه تحديات وجودية في ظل الانقسامات الحادة، والاستقطاب السياسي، وتصدع المؤسسات الحزبية، والتمرد الشعبي على هيمنة النخب السياسية التقليدية محدودة الكفاءة على المشهد السياسي. ويتصل هذا الوضع المعقد بهيمنة "قصر النظر السياسي" (Political Myopia)، واستبعاد السياسات طويلة الأمد من دوائر اهتمام السياسيين المُنتخبين بسبب الدورات الانتخابية، وهو ما جعل السياسة عملية آلية تستهدف الفوز في الانتخابات فحسب، وليس تطبيق سياسات تستهدف تحقيق مطالب المواطنين.
وفي مقابل رمزية سقوط نظم الحكم المركزية ممثلةً في انهيار "حائط برلين" قبل ثلاثين عامًا، فإن التحذيرات من "احتضار الديمقراطية" و"موت الديمقراطيات" و"نهاية عصر الليبرالية" قد أصبحت حاضرة بقوة في الأدبيات الغربية، وللمفارقة أيضًا تمكّنت نظم الحكم المركزية وغير الليبرالية من استعادة مكانتها، وطرح ذاتها كنماذج قابلة للبقاء وتحقيق التقدم الاقتصادي والتفوق العسكري على غرار روسيا والصين وبعض الدول النامية.
ختامًا، يُرجّح أن يرتهن مصير النظام العالمي في اللحظة الراهنة بنتاج التدافع المحتدم بين اتجاهات العولمة والانفتاح والديمقراطية الليبرالية والتكامل الإقليمي التي تمخضت عن مشهد ما بعد انهيار حائط برلين والاتجاهات المناقضة التي تقوم على الاغلاق والحمائية والارتداد للداخل وحروب التجارة والعداء للمهاجرين والأجانب التي تـتأسس على صعود المد القومي وسياسات الهوية التي تعيد إنتاج الجدران والأسوار العازلة على امتداد خريطة العالم بين الدول المتجاورة وأحيانًا داخل الدولة الواحدة ذاتها.