أثار توسع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وسيطرته على مدن رئيسية في العراق، منها الموصل ثاني أكبر مدن العراق والغنية بالنفط، تساؤلات عن قوة التنظيم، وإمكانيات انتشاره، خاصة وأنه يواجه ضغوطاً متزايدة من المسلحين، وحتى من أقرانه الجهاديين، في سوريا المجاورة التي بدأ التنظيم النشاط فيها رسمياً منذ أبريل عام 2013.
هذا البروز الجديد، والانتشار الكبير للتنظيم، واستفادته من المظالم التي يشكو منها المجتمع السني في العراق، يبدو أنه يفتح مرحلة جديدة، سواء على المستوى المحلي في العراق، أم على المستوى الاقليمي، خاصة في ظل استمرار الأزمة السورية، وحتى على المستوى الدولي، حيث إن التنظيم، وإن لم يكن في المرحلة الحالية مهتماً بمواجهة ما يعرف في عرف الجهاديين بـ "العدو البعيد"، فإن خياراً كهذا يبقى مفتوحاً في ظل أيديولوجية جهادية قائمة على أساس الصراع المستمر.
البداية مع الزرقاوي
جذور هذا التنظيم تعود إلى حقبة الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث زرع نواته الأردني أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فضيل نزال الخلايلة)، بعيد ذلك الاحتلال، وقد تعددت أسماء التنظيم بدءاً من "جماعة التوحيد والجهاد"، ثم "القاعدة في بلاد الرافدين"، ومن ثم "الدولة الإسلامية في العراق"، ثم لاحقاً، بعد التوسع في سوريا، عرف التنظيم باسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
لكن هذا التنظيم، ومنذ زعامة الزرقاوي له إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، كان إشكالياً للجهاديين ذاتهم، خاصة لتنظيم القاعدة والتيار السلفي-الجهادي عموماً، فقد انتُقِدَ مراراً بشأن إيمانه بما يعرف بـ «استهداف العموم من المخالفين» -كما يسميهم الجهاديون- كالشيعة والمسيحيين.. إلخ، من قبل قيادات القاعدة مثل أيمن الظواهري، وعطية الله الليبي، وحتى شيخ الزرقاوي ذاته (أبو محمد المقدسي المسجون حالياً في الأردن)، وهو من أهم منظري التيار السلفي-الجهادي في العالم، لكن بنية التنظيم الأيديولوجية كانت تركز على قتال المخالفين باعتبارهم داعمين للمشروع الأمريكي في المنطقة كما كانوا يصفونه.
واجه هذا التنظيم إشكاليته الأكبر في عام 2007، أي بعد مقتل الزرقاوي بعامين، وتعيين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر زعيمين للتنظيم، الذي بات يتحول أكثر إلى منطق السيطرة على مساحات جغرافية لتأسيس دولة إسلامية، ولو بالمعنى الرمزي، فتغير اسم التنظيم إلى "الدولة الإسلامية في العراق". أما الاشكالية التي واجهها فتمثلت في تأسيس مجالس الصحوات من قبل العشائر السنية في العراق، رفضاً لسلوكيات "القاعدة" آنذاك.
التخوف من "الصحوات" والحاضن السني
ولعل "مجالس الصحوات" كانت سبباً رئيسياً في تراجع دور التنظيم في العراق بشكل ملحوظ حتى عام 2011، ثم بدأ دور القائد الحالي أبو بكر البغدادي (من مواليد سامراء بتكوين ديني، وهو في الأربعينيات من عمره)، بعد مقتل الزعمين الآخرين في عام 2010. فنجاح مجالس الصحوات في عام 2007 وما بعدها عبر أساساً عن نظرية حرمان المجموعة المسلحة من الحاضن الشعبي، ولكنها لم تنجح في مناطق أخرى لاختلاف الطبيعة الاجتماعية والسياق السياسي.
ولكن غياب حل سياسي شامل يبدأ من بغداد، ويأخذ المواطنة، والإصلاح السياسي، وعدالة التوزيع بعين الاعتبار، دفع إلى عودة «داعش» تدريجياً ليكسب تعاطفاً بين أوساط شبان غاضبون ومحتجون، وهو ما ساعد على توسع التنظيم الأخير في مناطق عراقية، ومن ضمنها مدة رئيسية كالموصل، كما تشهدها العراق اليوم.
فقد تشكل لدى «داعش» تخوف عضوي مما يعرف بتجربة «الصحوات»، في إشارة إلى مجالس الصحوات التي تشكلت بين العشائر السنية العربية في العراق في عام 2007 ولعبت دورا أساسياً في تراجع القاعدة هناك. وانعكست هذه الفوبيا على سلوكيات "داعش" تجاه المجموعات الأخرى، وحتى ضد تنظيم القاعدة ذاته، وقائده أيمن الظواهري، فعلى حين كان هذا الأخير يدعو المجموعات الجهادية إلى عدم استهداف المدنيين و«المخالفين»، كان «تنظيم داعش» يشن حرباً على مثل هؤلاء، في سوريا، مما لعب دوراً أساسياً في تشكيل السلوك العنيف للتنظيم، وبالتالي لم يكن عامل التخوف من الصحوات أحادياً، في تفسير الصعود الأخير للتنظيم، بل يتداخل مع رؤيته الجيوبولتيكية كذلك، وهو ما تسبب بشكل أو آخر في خروجه من تحت مظلة القاعدة، ليقدم نموذجاً جديداً متصاعدة من الحركات الجهادية الأكثر راديكالية.
الهم الجيوبولتيكي
ازداد تركيز التنظيم منذ دخوله سوريا في أبريل عام 2013 على العامل الجيوبولتيكي، أو كسب الأرض الجغرافية أكثر من المعارك ذاتها؛ وكانت الرغبة في السيطرة على مناطق جغرافية تعكس التخوف من مشروع "صحوات" في سوريا موازٍ لما حدث في العراق، ومن هنا تشكلت الرؤية الجيوبولتكية للتنظيم، وتقوم على السيطرة على المناطق المتاخمة بين العراق وسوريا، بغية خلق شريط تسيطر عليه من الأنبار إلى حلب، وهو ما يفسر المواجهات مع الأكراد، ومع السكان المحليين في تلك المناطق. والمقصود من ذلك هو تأمين مداخل للدعم البشري واللوجستي لنشاطات التنظيم في العراق، وهو ما يفسر عدم دخول هذا التنظيم أو انخراطه في المعارك مع القوات الحكومية السورية بشكل كبير، كما المجموعات المسلحة الأخرى في سوريا، بل تشير نشاطاته إلى سعيه لخلق ملاذ آمن في تلك المناطق.
ويشير تحليل كمي أجراه كاتب هذه السطور بين شهري أبريل وسبتمبر من عام 2013 لهجمات التنظيم في سوريا والعراق، إلى أن نسب عملياته في سوريا نسبة للعراق هي 1 إلى 10، أي من كل عشر عمليات ينفذها في العراق تقابله عملية واحدة فقط في سوريا.
لكن دخول تنظيم «داعش» في صراع مفتوح مع أقرب حلفائه، أي جبهة النصرة، الفصيل الجهادي المرتبط بتنظيم القاعدة في سوريا، خاصة بعد استعداء المجموعات المسلحة الأخرى ومنها أحرار الشام، كان فارقاً على مستويين: الأول أنه شكل أكبر خلافات الجهاديين في تاريخهم المعاصر ووصل إلى حد الصدام المسلح، والثاني أن الصدام دفع «داعش» إلى محاولة التوسع بين سوريا والعراق.
الخروج من "القاعدة"/ نمط جديد
أما الخلاف فقد بدأ عندما تحفظ أبو محمد الجولاني المسؤول العام لـ «جبهة النصرة لأهل الشام في سوريا»، وهي أكبر المجموعات الجهادية في سوريا، على إعلان أمير التنظيم أبو بكر البغدادي، بأن «جبهة النصرة» تعد فرعاً من تنظيمه في العراق بعدما أعلن عن دمج اسم المجموعتين تحت راية «الدولة الإسلامية في العراق والشام». ولكن الجولاني بايع بالمقابل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وربط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة المركزي، منهياً جدلاً إعلامياً طويلاً عما إذا كانت جبهة النصرة لها علاقة بتنظيم «داعش» أم لا. ورغم أن الجولاني كشف أن تنظيم القاعدة في العراق يقف خلف إنشاء جبهة النصرة، فإن الخلاف بين الطرفين ارتبط بمسألة إعلان الدولة من عدمه.
وتفاقم الأمر والانقسام لدرجة اتهام تنظيم «داعش» زعيم تنظيم القاعدة بـ "الإفراط"، وكان الظواهري قد أعلن بدايات هذا العام أن لا علاقة للقاعدة بالتنظيم هذا، مما جعل هذا الخلاف هو الأشد بين الجهاديين في تاريخهم المعاصر، كما يظهر من خلال متابعة المنتديات الجهادية، بشكل يضع هذا الجدل على رأس قائمة من الاختلافات المتنوعة التي شهدها التيار السلفي- الجهادي مذل الجدل الذي دار في لندن في تسعينيات القرن الماضي بين أبي قتادة الفلسطيني وأبو مصعب السوري حول «الجهاد في الجزائر»، والخلاف بين أبو محمد المقدسي وتلميذه أبو مصعب الزرقاوي حول التفجيرات في العراق، ومن ثم الردود المتبادلة بين الدكتور فضل وأيمن الظواهري.
وقد أخذ الصراع بين الطرفين طابعاً مسلحاً مفتوحاً، في الآونة الأخيرة، لكن بعيداً عن هذا، وعلى المستوى الاستراتيجي، يلاحظ أن التنظيم في العراق، وبحكم رؤيته الجيوبولتيكية، تعارضت مصالحه مع المجموعات المقاتلة في سوريا، كما أشرنا، وبالتالي فإن التحالف بين جبهة النصرة وبين المجموعات الجهادية المحلية في سوريا، وضع تنظيم «داعش» تحت ضغط كبير، وجعل نشاطه محصوراً في الرقة وحلب. وقد استغلت الحكومة العراقية ذلك وقصفت مواقعها الحدودية مع سوريا منذ أشهر كي تقطع على ما يبدو خطوط الإمداد لها، ولكن يبدو أن التنظيم كان يعد لشيء جديد، عبر إعادة تفعيل نشاطاته في الداخل العراقي، واكتساح مساحات واسعة في الداخل كما شاهد العالم ذلك خلال الأيام القليلة الماضية.
أخيرا...
من الواضح أن "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" بات يشكل تطوراً جديداً للحركات الجهادية أكثر راديكاليةً من تنظيم القاعدة ذاته، لكن توسعه الجغرافي في العراق، وتأمينه مساحات جغرافية بين العراق وسوريا، وحصوله على دعم لوجستي (أشارت تقارير إلى أن التنظيم نهب ما يزيد على 500 مليون دولار من الموصل ليصبح أغنى "منظمة ارهابية" في العالم)، كلها معطيات تؤكد أن التحديات التي يثيرها التنظيم لن تكون محصورة في العراق، بل لها تداعياتها الإقليمية في ظل استمرار الأزمة في سوريا، وحتى لدى دول الجوار، وأنه سوف يسعى، ولو بشكل رمزي، إلى تأسيس دولة إسلامية، مستغلا في ذلك إمكانية تجنيد الكثير من المحبطين في تلك المناطق.