أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

درس الجمود:

رؤية غربية للفجوة بين القادة والواقع في الكرملين

01 أغسطس، 2024


عرض: هند سمير

كيف سيكون شعورك وطريقتك في صنع القرار والسياسات إذا كنت قوة عظمى تدير العالم؟ لقد قضى القادة السوفييت فترة الحرب الباردة، وهم يحاولون اكتشاف ذلك السؤال في ظل الصراع الدولي مع كل من الولايات المتحدة والصين. دفع هذا الصراع السياسات السوفيتية من فوضى الحرب العالمية الثانية، والتي قادها جوزيف ستالين للحصول على الأراضي، إلى مغامرات نيكيتا خروتشوف في الخارج وتهديداته النووية، ثم مناورة ليونيد بريجنيف من أجل بسط النفوذ في العالم الثالث، وأخيراً، محاولات ميخائيل غورباتشوف لإعادة اختراع مزاعم موسكو بالعظمة إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991. 

ويحمل هذا التاريخ الطويل -الذي ما يزال إرثه مستمراً حتى اليوم في روسيا- درساً أساسياً يتعلق بمدى قدرة القادة السياسيين على المواءمة بين أفكارهم وتطلعاتهم وطبيعة الواقع، وهو ما يحاول سيرغي رادشينكو استكشافه في كتاب: "إدارة العالم: مسعى الكرملين في الحرب الباردة للحصول على قوة عالمية" الصادر عام 2024. 

ويقدم الكتاب غوصاً عميقاً غير مسبوق في سيكولوجية عملية صنع القرار في الكرملين، كما يوضح أن الحرب الباردة كانت منذ البداية عبارة عن "مشكلة ثلاثية الأطراف"؛ إذ كان السوفييت يسعون إلى تحقيق تكافؤ بعيد المنال مع الولايات المتحدة؛ في حين اجتذبت الصين الاثنين وصدتهما بالتناوب.

وعلى الرغم من اعتراف الكاتب بصعوبة الوصول إلى أرشيف الكرملين في ظل حكم فلاديمير بوتين لروسيا؛ فإنه استطاع الاعتماد على بعض الوثائق المتعلقة بفترة الحرب الباردة، التي تم الإفراج عنها خلال العقد الماضي من أرشيف الحكومة السوفيتية والحزب الشيوعي، وكذلك من الأوراق الشخصية لقادة الكرملين السابقين. 

فجوة كبيرة: 

يرتكز رادشينكو على فكرة أساسية، وهي الفجوة الكبيرة بين الأيديولوجية التي تأسس عليها الاتحاد السوفيتي من جهة، والنطاق الذي سعى لفرض سلطته عليه من جهة أخرى؛ إذ يؤكد أن "ما اعتبره السوفييت مصالحهم "الشرعية" لم يُنظر إليه في المقابل على أنه "شرعي" من قبل أي أحد آخر؛ مما أدى إلى نوع من انعدام الأمن الوجودي لدى السوفييت تم تعويضه بالغرور والعدوانية" من قبل حكام الكرملين، وفقاً للكاتب.

على سبيل المثال، فإن التزام ستالين المتزامن بالثورة العالمية وتأمين الدولة التي يديرها، كان مرتبطاً باعتقاده أن الاتحاد السوفيتي يستحق مكانة مرموقة في الشؤون الدولية، مع ذلك فإن أمنه كان يتطلب ممارسات قمعية مثل: التطهير العشوائي، والتضحيات الهائلة في زمن الحرب العالمية الثانية. هنا يشير الكاتب إلى أن المشكلة تكمن في أن الفرض الأحادي للسياسات لا يضمن الأمان والمكانة والشرعية؛ وهو ما جعل ستالين يسعى إلى تعزيز سمعة الاتحاد السوفيتي الخارجية دون المساس بأمنه الداخلي، مع الحفاظ على شرعيته وشرعية النظام في كلا المجالين.

يُعرّف رادشينكو الشرعية على أنها الرضا بالأمور كما هي، وأن ستالين كان قادراً على القيام بذلك في الأمور التي كان يسيطر عليها بشكل كامل، لكن الكاتب يجادل بأن ستالين لم يقم بذلك بسبب اعتقاده أن الأنجلوساكسونيين، بوصفهم رأسماليين جشعين، سيحاربون بعضهم بعضاً؛ مما يترك الأوروبيين الذين لم يكونوا بعد ضمن الفضاء السوفيتي ليختاروا طواعية الأحزاب الشيوعية لقيادتهم، بما يتماشى مع رغبات موسكو. 

وعندما لم يحدث ذلك ولم تحصل موسكو على الشرعية، لم يكن لدى ستالين سوى الارتجال كملاذ أخير، مثل: التردد في الرد على خطة مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وانقلاب تشيكوسلوفاكيا الذي أثار قلقاً محدوداً، والحصار غير الناجح لبرلين اضطر إلى التراجع عنه، والحملة الفاشلة لإزاحة نظام تيتو الشيوعي في يوغوسلافيا؛ وهو النظام الوحيد في أوروبا الذي كان يتمتع حينها بشرعية محلية. 

الشيوعية تفتت نفسها:

يؤكد رادشينكو أن ستالين، بصفته أوروبياً، لم تكن لديه خطط "لتحويل العالم إلى اللون الأحمر"، لكن خروتشوف كان أكثر طموحاً؛ إذ كان يعتقد أن حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط سوف تتطلع إلى الاتحاد السوفيتي طلباً للقيادة، فبدأ خروتشوف "بخطابه السري" عام 1956، الذي يدين فيه سياسات ستالين أمام المؤتمر العشرين للحزب. ولكن بحسب الكاتب كان الخطاب بلا قيمة، ولكن عندما تم نشره تسبب في فزع داخلي؛ إذ واكبته ثورات في بولندا والمجر، وخيبة أمل بين الشيوعيين الفرنسيين والإيطاليين وحتى الإسكندنافيين، وانعدام الثقة العميق داخل عقل ماو تسي تونغ، الذي بدأ فقط، بعد وفاة ستالين، ينظر إليه كنموذج. 

بالفعل، انتشرت الشيوعية عالمياً، لكن بطريقة أدت إلى تفتيت نفسها على الفور. وربما كان الإطلاق الناجح للقمر الاصطناعي "سبوتنيك" في عام 1957؛ ليعكس هذه الخسائر لو لم يحاول خروتشوف الاستفادة من الموقف من خلال إرسال الاتحاد السوفيتي -في ذلك الوقت- أقماراً اصطناعية إلى المدار، وكذلك شراء سلع كهربائية (مثل الثلاجات كنوع من فكرة تفوق الحزب الشيوعي على نظرائه في كل المجالات بما فيها الإنتاج)؛ ومن ثم فقد رأى الكاتب أن أداة خروتشوف في سعيه لتحقيق شرعية جديدة للاتحاد السوفيتي؛ اعتمدت على تسريع عجلة التاريخ بطرق غير متوقعة؛ مما أدى إلى نتائج معقدة ومتشابكة؛ وهو ما جعل هذه الفترة من التاريخ مثيرة للاهتمام والتفكير العميق حول كيفية تشكيل السياسات والقرارات المصيرية لمستقبل العالم.

الخداع النووي:

على الرغم من الجهود المبذولة من طرف خروتشوف؛ فإنه لم تظهر الكثير من السلع الاستهلاكية والكهربائية في المنازل الشيوعية، وكان ذلك مخيباً للآمال بشكلٍ خاص في ألمانيا الشرقية، فبعد الحرب العالمية الثانية كان ثمة وجود واضح للرأسمالية في برلين الغربية، في المقابل استمرت محاولات خروتشوف في حل الوضع من خلال الاتجاه نحو التظاهر بإنتاج أعداد كبيرة من الصواريخ؛ كمحاولة لإنهاء الحقوق الغربية في المدينة وفرض القيود بتهديدات الحرب النووية، ولكن الطائرات التجسسية الأمريكية والتصوير الفضائي كشفا أن الجيش السوفيتي لم ينتج الصواريخ بأعداد كبيرة كما تباهى خروتشوف بشكل غير حكيم.

وعندما تم كشف خداع خروتشوف، سمح الأخير للألمان الشرقيين ببناء جدار حول برلين الغربية، ثم أذن باختبار نووي جوي لقنبلة حرارية ضخمة غير قابلة للاستخدام، وأخيراً أرسل صواريخ مسلحة برؤوس نووية إلى كوبا تحت قيادة فيدل كاسترو، الواجهة الشيوعية الوحيدة في نصف الكرة الغربي؛ في محاولة لاستعادة الاحترام العالمي من خلال التهديد بالإبادة العالمية. ضاق زملاء خروتشوف في الكرملين ذرعاً بمثل هذه المخاطرات، فعزلوه في أكتوبر 1964؛ مما ترك ليونيد بريجنيف يبدأ تدريجياً في توطيد السلطة التي احتفظ بها لفترة أطول من أي زعيم سوفيتي آخر باستثناء ستالين.

ويكشف لنا هذا الجزء من تاريخ الاتحاد السوفيتي؛ كيف أن محاولات خروتشوف لتحقيق شرعية وسلطة من خلال استعراض القوة النووية والتباهي بقدرات غير موجودة؛ أدت في النهاية إلى سقوطه. كانت تلك الفترة حاسمة في الحرب الباردة؛ إذ تبين أن السياسة المبنية على الخداع والمخاطرة العالية يمكن أن تكون غير مستدامة وتؤدي إلى تداعيات خطرة.

متاعب الشرعية: 

ينتقل الكاتب إلى عهد ليونيد بريجنيف؛ إذ كان الأخير ثابتاً ومطمئناً، حتى بدأت صحته تتدهور في منتصف السبعينيات. وكان دور بريجنيف، خلال بقية عقد الستينيات، هو استبدال خدع خروتشوف بقدرات حقيقية؛ مما خلق توازناً في الأسلحة الاستراتيجية جعل من الممكن التوصل إلى اتفاقيات تحديد الأسلحة في السبعينيات، والتي تعتبر الأولوية الأولى التي حققها بريجنيف. 

أما الأولوية الثانية، فكانت لها علاقة بترسيم حدود المنافسة الدولية؛ بمعنى أن المنافسة في الحرب الباردة ستستمر في بعض المناطق؛ إذ أوضح بريجنيف أن الاتحاد السوفيتي سيواصل دعم "حروب التحرير الوطني" في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، بينما التزمت الولايات المتحدة، بشكل أقل وضوحاً، بخوض ما يمكن أن يسمى "حروب الاحتواء" في نفس تلك المناطق. وفي الوقت نفسه، حاول الاحتفاظ بالوضع السائد في أوروبا في ذلك الوقت، والذي يقسمها إلى شرق شيوعي وغرب رأسمالي.

وتمثلت الأولوية الثالثة لبريجنيف في الدبلوماسية الشخصية، فخروتشوف وستالين لم يحاولا بناء علاقات طويلة الأمد مع القادة الأمريكيين أو الغربيين الآخرين. أما بريجنيف، فقد طارد نيكسون بشغف وخلق علاقة مثلت نقطة قوة لبريجنيف، وكذلك للثورة البروليتارية الدولية، ومع ذلك، يرى الكاتب أن الشرعية يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين. فكما أجبر نيكسون وكيسنجر السوفييت على الخروج من الشرق الأوسط بعد حرب عام 1973، استفاد بريجنيف بعد عامين من هزيمة الأمريكيين في فيتنام بتوسيع الأنشطة السوفيتية في شرق وجنوب إفريقيا. كما أنه من الممكن أن تعكر الأطراف الثالثة التوازنات من خلال إحداث بعض التغييرات، كما فعلت الصين عندما رحبت بنيكسون في بكين عام 1972.

وينتقل رادشينكو إلى آخر زعيم سوفيتي وهو ميخائيل غورباتشوف، الذي كان معلقاً بين كل الشرعيات السابقة لحكام الكرملين إلى درجة أن نهاية مسيرته تزامنت مع تفكك الاتحاد السوفيتي. كان غورباتشوف يهدف إلى إصلاح نظامه بطريقة تقنع الأوروبيين بترحيبهم بعضوية بلاده بينهم، والأمريكيين بالنظر إليه كشريك في تأمين النظام العالمي، والعالم نفسه للاعتراف بتميزه الشخصي باعتباره "الرئيس الاستراتيجي للتغيير"، لكن حجب الشرعية في أرضه أو في الداخل السوفيتي حرم غورباتشوف من الشرعية الأوسع التي كان يأمل في الحصول عليها. 

وختاماً، يعترف رادشينكو بأنه لا يطرح تنبؤات دقيقة، لكن إذا كان المرء يسعى للعثور على الأنماط - التعرف على أوجه التشابه عبر الزمن والمكان والمقياس- فإن هذا الكتاب لديه القدرة على تعديل كيفية تفكير المؤرخين حول الاتحاد السوفيتي، وأيضاً حول التاريخ الروسي الأطول الذي أنتج الآن بشكل غير متوقع، بوتين، القيصر الجديد.

وإذا كان الاستنتاج العام من تاريخ القادة السوفييت في الحرب الباردة أن الأنظمة الاستبدادية تجد صعوبة أكبر في الحفاظ على الشرعية مقارنة بالديمقراطيات؛ فإن هذا التفكير ليس هو الدرس الجوهري للكتاب؛ بل إن تحليل رادشينكو يطرح تذكرة واقعية بأن الجمود، أينما ظهر، يكون قاتلاً، ولكن القدرة على التكيف، على النقيض من ذلك؛ يمكن أن تحول حتى أكثر المواقف هشاشة إلى فرص للنمو والقوة.

المصدر:

Sergey Radchenko, "To Run the World: The Kremlin’s Cold War Bid for Global Power", Cambridge University Press, 2024.