أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

حرب التكنولوجيا:

حملة واشنطن لحظر "تيك توك" بين الردع وتسييس القيم

07 أبريل، 2023


تتصاعد الحملة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل حظر تطبيق "تيك توك" لمقاطع الفيديو القصيرة الذي تملكه شركة "بايت دانس" الصينية، وبالرغم من مثول الرئيس التنفيذي للتطبيق، شو زي تشو، للإدلاء بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي وتأكيداته منح الأولوية لسلامة المستخدم ومنع أي تدخل حكومي، فإن تلك الكلمات لم تكن كافية لتهدئة الحملة الموسعة ضد المنصة، والتي عقّبت عليها الصين بالرفض الصارم لأي محاولات للبيع القسري أو الحظر، بعد أشهر من اتهامها لواشنطن بممارسة الإرهاب التكنولوجي ضدها، في دفاع لا يخلو من المفارقة باستخدام المصطلحات ذاتها التي طالما استعانت بها الولايات المتحدة في هجومها ضد ممارسات "أعداء الإنترنت".

ممارسات متشابهة:

يُعد تطبيق "تيك توك" هو السادس عالمياً من حيث أعداد المستخدمين النشطين، إذ يأتي في المقدمة وفق إحصاءات يناير 2023 تطبيق "فيسبوك" بإجمالي 3 مليارات مستخدم تقريباً، يليه "يوتيوب" بـ2.5 مليار، ثم "واتس آب" و"إنستجرام" بملياري مستخدم لكل منهما، و"وي تشات" الصيني 1.3 مليار، ومن بعدهم "تيك توك" بـ1.1 مليار مستخدم. أي أن شركة "ميتا" الأمريكية وحدها تستحوذ على ثلاثة من أكثر التطبيقات استخداماً، إلا أن "تيك توك" يتمتع بمزايا نوعية تتعلق بمدة الاستخدام، حيث يأتي في المركز الأول عالمياً بمتوسط 24 ساعة شهرياً، ومتقدماً على "يوتيوب" 23.2 ساعة، والذي ظل لسنوات محتكراً صدارة المحتوى الرقمي البصري، ثم "فيسبوك" 19.4 ساعة. كما أن "تيك توك" هو الأعلى من حيث استخدامه لأغراض التسلية والترفيه مقابل استخدامات أكثر جدية للتطبيقات الأخرى، ما يمنحه فرصاً أسرع للانتشار والرواج.

وعلى صعيد الولايات المتحدة، كان "تيك توك" التطبيق الأكثر تحميلاً في البلاد خلال عامي 2021 و2022، وسط توقعات بأن تتجاوز أرباحه من الإعلانات في الداخل الأمريكي 11 مليار دولار بحلول العام 2024. كما تُعد الولايات المتحدة الأعلى عالمياً من حيث عدد المستخدمين النشطين لهذا التطبيق، حيث يصل عددهم فيها إلى 150 مليون بنسبة 15% من إجمالي المستخدمين حول العالم وهي نسبة كبيرة للغاية بالنسبة لدولة واحدة، تليها إندونيسيا والبرازيل والمكسيك وروسيا وفيتنام والفلبين وتايلاند وتركيا والسعودية على الترتيب، ما يجعلها الدولة الغربية الوحيدة ضمن قائمة الأعلى استخداماً للتطبيق الصيني.

كما تُظهر الإحصاءات أن الأمريكيين يستخدمون "تيك توك" للحصول على الترشيحات لما يقدمه من محتوى مختصر وسريع. فقد أجرت مؤسسة "جوجل" للمعرفة والمعلومات استطلاعاً لآراء الشباب الأمريكي بين 18 و24 عاماً، وتوصلت إلى أن 40% من المُستطلعة آراؤهم يبحثون على "تيك توك" أو "إنستجرام" عند رغبتهم في البحث عن مكان لتناول الغداء وليس خدمات الخرائط أو محركات البحث، كما أنهم كانوا أكثر اهتماماً بالأشكال الغنية بصرياً للبحث والاستكشاف.

والحقيقة أن الاتهامات الموجهة للتطبيق الصيني هي ذاتها الموجهة لتطبيقات التواصل الاجتماعي كافة، التي تعمد إلى الاستحواذ على بيانات المستخدمين واستغلالها لأغراض إعلانية، فضلاً عن اتهامها بضعف قدرتها على ضبط المحتوى الضار، وهو ما استند إليه الرئيس التنفيذي للتطبيق زي تشو في رده على الاتهامات الموجهة له في جلسة الاستماع لشهادته أمام الكونغرس، حيث ذكر أن الشركات الاجتماعية الأمريكية ليس لديها سجل جيد فيما يتعلق بخصوصية البيانات وأمن المستخدم، مشيراً بشكل واضح إلى فضيحة "كامبريدج أناليتكا" و"فيسبوك"، قائلاً إنها مثال واحد فقط على ذلك.

وقد نشرت منظمة "كونسيومر ريبورت" لأبحاث الإنترنت، في 29 سبتمبر 2022، نتائج دراسة أجرتها بالتعاون مع الشركة الأمنية "ديسكونيكت"، على 20 ألف موقع إلكتروني، بهدف البحث عن برمجيات "تيك توك" للتتبع والمعروفة بـ"بكسيلز" Pixles التي تجمع بيانات المستخدمين حتى لو لم يكونوا من مستخدمي التطبيق، بما في ذلك البروتوكول وأرقام الهوية والصفحات التي يتم زيارتها وما يتم الضغط عليه أو كتابته. وكشفت الدراسة عن زراعة التطبيق لتلك الآليات في المواقع الألف الأعلى زيارة، وعلى مواقع تعليمية وحكومية ومؤسسية، وأن مئات المنظمات تسمح بمشاركة البيانات مع "تيك توك" بما في ذلك إدارة أريزونا للأمن الاقتصادي والتي تتضمن معلومات عن زيارات صفحاتها للعنف المنزلي والمساعدات الغذائية، وقد أشارت الشركة إلى أن "جوجل" و"ميتا" يستخدمان التقنية ذاتها، إلا أنها عدت النتائج صادمة نظراً لدرجة الانتشار وكثافته والتي ترى أنها لا تتناسب مع عمر التطبيق الذي يُعد حديثاً نسبياً.

اختبار للقيم:

لم تقتصر الحملة الأمريكية ضد تطبيق "تيك توك" على شن هجوم إعلامي مكثف بشأن انتهاكه لحقوق المستخدمين وتهديداته للأمن القومي، وإنما تضمنت حظر استخدامه بالأجهزة الرسمية في الكونغرس والبيت الأبيض والقوات المسلحة وأكثر من نصف الولايات الأمريكية، وهو الإجراء الذي اتبعته دول أخرى بما في ذلك الدنمارك وكندا وبريطانيا ونيوزيلندا والنرويج وبلجيكا وكذلك المفوضية والبرلمان الأوروبيين ومجلس الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى حظر حلف شمال الأطلسي (الناتو) "تيك توك" من أجهزة موظفيه يوم 31 مارس 2023، وهو ما يأتي عقب اتهامات للتطبيق الصيني بالتجسس والإضرار بخصوصية المستخدمين.

ولا يقتصر الحظر على الدول الغربية فحسب، إذ سبق أن أعلنت الهند حظراً على "تيك توك" ضمن عشرات التطبيقات الصينية الأخرى في عام 2020 بعد وقت قصير من اشتباك بين القوات الهندية والصينية على حدود الهيمالايا المتنازع عليها. كما أصدرت باكستان وأفغانستان قرارات متعاقبة بالحظر على التطبيق لأسباب أخلاقية، وحظرت تايوان هي الأخرى التطبيق وتطبيقات صينية أخرى من الأجهزة الحكومية في شهر ديسمبر الماضي.

وعلى الرغم من تلك التحركات الجماعية لحظر "تيك توك"، فإنه في حال إقرار تشريع أمريكي لحظره على المستوى القومي سيُعد ذلك سابقة هي الأولى من نوعها لممارسات لطالما أدرجتها واشنطن ضمن ما سمته "السياسات القمعية للدول المُعادية للإنترنت"، ولطالما استخدمت عصا التصنيف ضد الدول التي تسلك إجراءات المنع ذاتها. ولعل ذلك ما دفع 12 منظمة للحقوق المدنية وحرية التعبير، بما في ذلك الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، إلى التوقيع على رسالة احتجاج تعارض فرض حظر شامل على "تيك توك"، ووصف هذا الأمر بأنه "سابقة خطرة" لتقييد حرية التعبير. كما قال المدير التنفيذي لمعهد نايت للتعديل الأول بجامعة كولومبيا أن الدستور يحمي حق الأمريكيين في الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي التي يختارونها، وأن تقييد الوصول إلى منصة للتواصل يستخدمها ملايين الأمريكيين يومياً سيشكل سابقة خطرة لتنظيم المجال العام الرقمي.

كذلك أعلن نواب أمريكيون تقدميون عن معارضتهم حظر المنصة الرقمية، ووصفوا، في مؤتمر صحفي يوم 22 مارس 2023، مخاوف الأمن القومي بأنها "هستيريا مُعادية للأجانب"، وأنه إذا كان الكونغرس يريد إجراء حوار صادق حول جمع بيانات المستخدمين، فينبغي أن يركز ذلك على قانون الخصوصية الوطني الذي يستهدف جميع شركات وسائل التواصل الاجتماعي وليس "تيك توك" فقط.

ويبدو أن الشركات التكنولوجية الأمريكية تجد في تسييس تشريعات حماية البيانات لدوافع الصراع مع الصين، مخرجاً جيداً لممارساتها ذاتها، فقد اجتمعت بعض الشخصيات الأكثر تأثيراً في صناعة التكنولوجيا، بينهم عضو مجلس إدارة "فيس بوك" السابق، بيتر ثيل، مع المشرعين في مكتبة الكونغرس قبل ساعات من جلسة الرئيس التنفيذي لتطبيق "تيك توك" أمام المجلس، للتحذير من مخاطر السباق التقني مع بكين وانعكاسات ذلك على الأمن القومي الأمريكي.

حرب تكنولوجية:

اتبعت شركة "بايت دانس" سياسات حثيثة لدرء المخاوف الغربية والتجاوب بفعالية مع الانتقادات الموجهة إليها، ويأتي على رأسها مشروع تكساس الذي ترصد له 1.5 مليار دولار بغرض نقل بيانات المستخدمين الأمريكيين إلى خوادم محلية تملكها وتديرها شركة "أوراكل" للبرمجيات، وبحيث تتم إدارة الوصول إليها من قِبل موظفين أمريكيين عبر كيان منفصل يحمل اسم "أمن بيانات تيك توك أمريكا"، ويعمل به 1500 شخص ويتم تشغيله بشكل مستقل عن "بايت دانس" ومراقبته من قِبل مراقبين خارجيين، ما يجعلها "بيانات أمريكية مخزنة على أراضٍ أمريكية من قِبل شركة أمريكية يشرف عليها موظفون أمريكيون"، وفق تصريحات الرئيس التنفيذي للتطبيق أمام الكونغرس يوم 23 مارس 2023. وقد تزامن ذلك مع حملة علاقات عامة موسعة تضمنت إعلانات بالشوارع ومقابلات بين مؤثرين على التطبيق ونواب أمريكيين، هذا بخلاف تأكيد الشركة طابعها العابر للجنسيات، وأنها بالرغم من تأسيسها في بكين عام 2012 فإن 60% من الشركة الأم "بايت دانس" مملوكة لمستثمرين مؤسسيين عالميين مثل مجموعة "كارلايل"، و20% مملوكة لأصحاب المشاريع الصينيين الذين أسسوها والباقي من قِبل الموظفين، كما أن مقر الشركة الرئيسي يقع في لوس أنجلوس وسنغافورة، ولديها 7 آلاف موظف في الولايات المتحدة.

ومن جانبها، عقّبت المتحدثة باسم وزارة التجارة الصينية، يوم 23 مارس 2023، على التحركات الأمريكية ضد "تيك توك"، بأن بكين ستعارض بحزم أي محاولات للبيع الإجباري للتطبيق أو حظره وأن تلك الإجراءات تضر بشكل خطر مستثمرين من عدة دول، من بينها الصين، كما أنها تضر بالثقة في الاستثمار بالولايات المتحدة، إلا أنها لم تشر إلى ما قد تفعله بكين، وما إذا كان هناك احتمالات لحظر صيني مضاد ستكون له آثار بالغة على الشركات الأمريكية والتي لها استثمارات هي الأخرى في الصين.

وعلى الرغم من تلك المواقف، تصر الحملة التي تقودها الولايات المتحدة على تعزيز المخاوف بشأن ملكية الشركة الصينية واحتمال أن تنتهي بيانات المستخدمين في أيدي حكومة بكين واستخدامها للترويج لروايات مواتية للسلطات الحاكمة في البلاد أو بث الأخبار المضللة، وأنه يوجد قانون استخبارات وطني صيني من شأنه أن يجبر الشركات على إرسال البيانات إلى الحكومة لأي أغراض تراها تتعلق بالأمن القومي. 

والحقيقة أن التشكيك في نزاهة المنظومة التقنية الصينية هو جزء من الصراع التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة، وترويج الأخيرة لمقولات مضادة تتهم بكين بتوظيف تقنياتها للترويج للتجسس والإضرار بأمن الدول. وقد تضمن تقييم "معهد بروكينجز" لدور الصين العالمي في عام 2021، تحذيرات من التأثير القيمي للتكنولوجيا الصينية، وذكر أن "الخوف التقليدي من صادرات التكنولوجيا الصينية هو أن بكين لن ترسل تقنيتها إلى الخارج فحسب، بل سترسل نموذج الحوكمة الخاص بها أيضاً، وأن الصين تقوم بتطوير وتصدير التقنيات التي تتيح المراقبة والقمع". وقد ارتبطت بعض العقوبات التي فرضتها واشنطن بمنظومة القيم تلك، إذ وضعت 14 شركة صينية وكيانات أخرى في "القائمة السوداء" في يوليو 2021، بسبب مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان.

كما يأتي الحظر ضمن مشروع قانون أقرته لجنة الشؤون الخارجية التي يقودها الجمهوريون في مجلس النواب الأمريكي باسم "ردع الخصوم التكنولوجيين لأمريكا" (DATA)، والذي يدخل تعديلات على قوانين سابقة تمنع الحكومة من تقييد التدفق الحر لمحتوى الترفيه المرئي الأجنبي عبر إضافة استثناء يتعلق بـ"البيانات الشخصية الحساسة". ويمكن النظر إليه باعتباره استكمالاً لسلسلة من التشريعات الأمريكية المناهضة للتقدم التقني الصيني، فوفقاً لدراسة أجراها معهد التنمية الصيني تم إصدار 209 مشروعات قوانين وأوراق سياسات وتقارير في الولايات المتحدة خلال الفترة من يناير 2017 إلى يونيو 2021 تتضمن عقوبات ضد تلك الشركات ولوائح بشأن التقنيات المتطورة الرئيسية، وقيوداً على تدريب مواهب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

وتأتي مساعي حظر تطبيق "تيك توك" أيضاً بالتزامن مع دعوة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الكونغرس للموافقة على تمويل بقيمة 150 مليون دولار لإعادة عضوية الولايات المتحدة إلى "اليونسكو" للحد من هيمنة الصين على المنظمة الأممية وانفرادها بوضع قواعد الذكاء الاصطناعي، وهي التحركات التي لا يمكن تناولها بشكل جزئي، حيث تعكس في مجملها مساعي أمريكية لتقويض التفوق التكنولوجي الصيني الذي بات يستخدم ذات الأدوات الأمريكية. وفي المقابل، يبدو أن واشنطن لن تتورع عن اتباع كافة السُبل لردع هذا التفوق الصيني، حتى وإن تضمن ذلك معايير مزدوجة للحريات من أجل حماية الأمن.