أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

المصري اليوم:

هدير مصطفى تكتب: مقايضة الخصوم: لماذا تُفرج واشنطن عن أموال مُجمدة لإيران وفنزويلا؟

01 أكتوبر، 2023


أتمت الولايات المتحدة، يوم 18 سبتمبر 2023، صفقة مع إيران، تم بموجبها تبادل سجناء بين البلدين وتحويل 6 مليارات دولار من أرصدة إيرانية كانت مُجمدة لدى كوريا الجنوبية. وتزامن ذلك مع كشف مصادر دبلوماسية، يوم 8 سبتمبر الجارى، عن صفقة تبدو مماثلة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، حيث سيسترد بموجبها نظام الرئيس نيكولاس مادورو 3 مليارات دولار من الودائع المُجمدة فى الخارج خلال الأسابيع القليلة المقبلة، والتى يوجد قسم كبير منها فى المصارف الأمريكية.

وقد أثارت هاتان الصفقتان التساؤل حول أسباب إقدام واشنطن على إبرامهما سواءً مع طهران أو كاراكاس، خاصةً أن الأخيرتين لديهما علاقات متوترة قد تصل إلى حد التصعيد مع واشنطن وتُصنفان ضمن أعدائها أو خصومها، فضلًا عن أن هذه التطورات تأتى قبل نحو عام على انعقاد انتخابات الرئاسة الأمريكية والتى يسعى خلالها الرئيس جو بايدن للفوز بولاية ثانية فى مواجهة الجمهوريين.

ملابسات الصفقتين:

مرت صفقة تبادل السجناء والإفراج عن الأموال المُجمدة بين واشنطن وطهران، وكذلك الصفقة الأمريكية المُنتظرة مع كاراكاس، بتفاصيل من المهم التعرف عليها، لفهم الدوافع وراء كل منهما، كالتالى:

1- الصفقة الإيرانية: فى خطوة نادرة من التفاهم بين واشنطن وطهران، أكدت الأولى، يوم 11 سبتمبر، موافقتها على نقل 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية إلى حساب خاص فى قطر، فى إطار تسوية مالية أُعِلَن عنها فى 10 أغسطس الماضى، ضمن صفقة بوساطة قطرية لتبادل السجناء بين واشنطن وطهران، شملت إطلاق سراح خمسة من السجناء الأمريكيين المحتجزين لدى طهران، مقابل عدد مماثل من السجناء الإيرانيين لدى واشنطن. وكإجراء تكميلى، كشفت الإدارة الأمريكية عن توقيع وزير الخارجية أنتونى بلينكن قرارًا لإعفاء المصارف المشاركة فى عملية التحويل للأموال الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية من العقوبات الأمريكية، بعدما تسببت هذه العقوبات فى إحجام العديد من الدول الأوروبية عن المشاركة خوفًا من العقوبات التى قد تطالها.

وفى تنفيذ فعلى لهذه الصفقة، وصلت، مساء يوم 18 سبتمبر الماضى، طائرة قطرية تقل 5 أمريكيين كانوا محتجزين لدى السلطات الإيرانية إلى مطار حمد الدولى فى الدوحة بموجب الصفقة التى تضمنت أيضًا الإفراج عن 5 سجناء إيرانيين فى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى وصول الأموال الإيرانية المُفرج عنها من كوريا الجنوبية إلى الحسابات الإيرانية المسجلة فى مصرفين قطريين.

وبحسب المُعلن عنه، ستبقى الأموال الإيرانية المُفرج عنها لدى الدوحة، حيث سيتم استخدامها للأغراض الإنسانية. وفسر الرئيس الإيرانى، إبراهيم رئيسى، هذا المصطلح فى سؤال وُجِّه إليه بشأن ما إذا كانت الأموال الإيرانية المُفرج عنها ستُستخدم لأغراض أخرى غير الاحتياجات الإنسانية، قائلًا إن «الإنسانية تعنى كل ما يحتاجه الشعب الإيرانى». وقد دفع ذلك منتقدى الصفقة إلى التشكيك فى مدى قدرة الولايات المتحدة على التيقن من عدم التفاف طهران على مصطلح «الأغراض الإنسانية»، ولاسيما فى ظل خبرات النظام الإيرانى فى التحايل على العقوبات، علاوة على أن الأموال المُفرج عنها سيتم إيداعها فى قطر باليورو، الأمر الذى قد يعوق قدرة الولايات المتحدة على مراقبة التحويلات البنكية عن كثب على عكس المعاملات بالدولار.

من ناحية أخرى، أثارت التسوية المالية بين واشنطن وطهران انتقادات واسعة من قِبل الجمهوريين فى الولايات المتحدة، والذين اعتبروا أن الأموال الإيرانية المُفرج عنها ليست سوى «فدية» مُتفق عليها من جانب إدارة الرئيس بايدن وإيران لتمرير صفقة تبادل السجناء. وذهب تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» إلى حد ترجيح أن تكون إدارة بايدن خصصت مبلغ 1.2 مليار دولار كفدية عن كل رهينة أمريكية. وفى ضوء ذلك، ساق الجمهوريون عدة حجج للبرهنة على خطورة التداعيات التى قد تترتب على الصفقة، فى مقدمتها إغراء الحرس الثورى الإيرانى بجدوى احتجاز المزيد من الرهائن الأمريكيين كورقة ضغط ناجحة فى مواجهة واشنطن، فضلًا عن إعطاء دفعة للاقتصاد الإيرانى المتدهور، ودعم مواصلة تطوير البرنامج النووى الإيرانى، وتمويل الأنشطة المزعزعة للاستقرار فى الشرق الأوسط عبر وكلاء طهران فى الإقليم.

فى المُقابل، أكد وزير الخارجية الأمريكى، بلينكن، فى مقابلة مع شبكة تلفزيون «إن بى سى» الأمريكية، يوم 20 سبتمبر الماضى، أن الأموال الإيرانية المُفرج عنها ضمن صفقة لتبادل السجناء «كانت غير خاضعة للعقوبات»، قائلًا: «من المهم للغاية أن نفهم أن الأموال التى تم الإفراج عنها هى أموال إيرانية حصلت عليها طهران من بيع النفط وكانت محتجزة فى أحد البنوك، وتم إعفاؤها من عقوباتنا منذ اليوم الأول».

ومن بين المُلاحظات البارزة التى تؤخذ على هذه الصفقة، هى عدم تطرقها إلى النقاط الخلافية فى العلاقات بين واشنطن وطهران، ولاسيما ما يتصل بالبرنامج النووى الإيرانى، والأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار فى المنطقة. ومع ذلك، فثمة تقارير تُرجح أن تكون طهران قد اتخذت خطوات للحد من أنشطتها لتخصيب اليورانيوم، فى إطار اتفاق «غير مكتوب» مع إدارة بايدن، تلتزم بموجبه بعدم تخصيب اليورانيوم بنسب تتخطى 60%، مقابل الإفراج عن الأصول الإيرانية. وفى نفى ضمنى لهذه الترجيحات، أكد رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، محمد إسلامى، فى 27 أغسطس الماضى، أن تخصيب إيران لليورانيوم مستمر على أساس «قانون إطار العمل الاستراتيجى».

2- الصفقة الفنزويلية: بعد أشهر من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية العام الماضى، بدأت العلاقات الأمريكية الفنزويلية تشهد نوعًا من الانفراج، عندما طرحت واشنطن أن تكون كاراكاس أحد المصادر البديلة لتعويض مصادر الطاقة الروسية فى ظل العقوبات المفروضة على موسكو. وبلغ هذا الانفراج مرحلة متقدمة عندما التقى مسؤولون كبار من الطرفين فى قطر منتصف مايو الماضى، حيث جرى البحث فى تبادل سجناء.

واستمرارًا لهذا التحسن فى العلاقات الأمريكية الفنزويلية، أكدت مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى، فى 8 سبتمبر، أن نظام الرئيس مادورو سيسترد مبلغ 3 مليارات دولار من الودائع الفنزويلية المُجمدة فى الخارج، والتى يوجد قسم كبير منها فى الولايات المتحدة التى تحتفظ مصارفها بأصول كبيرة تابعة للبنك المركزى الفنزويلى، على أن يتم صرف هذه الأموال لصالح صندوق اجتماعى تحت تصرف الأمم المتحدة، التى بدورها ستتولى الإشراف على نفقاته، بحيث يتم استثمارها فى مشروعات تستهدف الارتقاء بجودة حياة الفنزويليين، مثل: التعليم، والرعاية الصحية، وإصلاح البنية التحتية.

وكان الإفراج عن الودائع الفنزويلية بندًا رئيسيًا ضمن اتفاق تم التوصل إليه فى إطار محادثات جرت فى المكسيك بين الحزب الحاكم فى فنزويلا وزعماء المعارضة فى نوفمبر 2022، غير أن تخوف الأمم المتحدة من الديون الخارجية الضخمة المستحقة على الحكومة الفنزويلية، والتى تصل إلى مليارات الدولارات، والتى قد تدفع الجهات الدائنة للمطالبة بمستحقاتها فور الإفراج عن الودائع المُجمدة، تسبَّب فى تعليق تنفيذ الاتفاق. بيد أن مفاوضات سرية جرت بين واشنطن وكاراكاس خلال الأشهر الأخيرة، أعطت دفعة لهذا الاتفاق.

وسبق أن أبلغت إدارة الرئيس بايدن، فى مايو الماضى، الأمين العام للأمم المتحدة أنها ستضمن الحماية الدبلوماسية للأموال الفنزويلية من مطالب الدائنين. كما أكد وزير الخارجية الفنزويلى، إيفان خيل، فى يوليو الماضى، أن الودائع المُجمدة ستكون قريبًا تحت تصرف الحكومة الفنزويلية باعتبارها من حق شعبها.

مُحفزات دافعة:

يمكن القول إن ثمة مُحفزات ربما تقف وراء الموافقة الأمريكية على الإفراج عن أموال مُجمدة لصالح كل من إيران وفنزويلا، ويمكن توضيحها على النحو التالى:

1- تهدئة التوترات الأمريكية الإيرانية: يمكن تفسير قرار الإفراج الأمريكى عن الأصول الإيرانية المُجمدة لدى كوريا الجنوبية باعتباره «خطوة محسوبة» من إدارة الرئيس بايدن لتهدئة التوترات المتزايدة مع طهران فى ظل تعثر الوصول إلى اتفاق نووى. فبعد ثمانى جولات على الأقل من المحادثات بوساطة قطرية بين واشنطن وطهران منذ مارس 2022، والتى خُصِّصَت لمناقشة ملف تبادل السجناء لدى البلدين بجانب قضايا أخرى خلافية مثل البرنامج النووى الإيرانى، يبدو أن المفاوضين ربما أدركوا أن المباحثات النووية وصلت إلى «طريق مسدود»، مما دفعهم إلى التركيز بشكل أكبر على ملف السجناء، الذى كان من السهل إحراز تقدم ملموس بصدده مقابل قدر يسير من التنازلات. وهو ما اتضح بالفعل فى ضوء الزخم الذى اكتسبته المباحثات حول هذا الملف منذ يونيو الماضى، والتى تُوِّجَت بالصفقة التى تم تنفيذها بين الجانبين فى سبتمبر الجارى.

2- توفير بدائل لإمدادات الطاقة الروسية: كان للتقلبات التى شهدتها سوق الطاقة العالمية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، تأثيرها فى دفع الإدارة الأمريكية لفتح الباب أمام المساعى الدبلوماسية للتقارب مع كاراكاس، والمُضى قُدمًا نحو الإفراج عن الأموال الفنزويلية؛ وذلك بالنظر إلى كون فنزويلا تمتلك أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام حول العالم، وهى ثروة ضخمة ستؤدى بطبيعة الحال دورًا لا يُستهان به فى تعويض الحظر المفروض على إمدادات الطاقة الروسية.

3- الحد من تقارب منافسى واشنطن: لا شك أن القرار الأمريكى بتيسير الإفراج عن الأموال الفنزويلية يأتى مدفوعًا برغبة واشنطن فى قطع الطريق أمام تقارب كاراكاس مع منافسى الولايات المتحدة، ولاسيما فى ضوء ما برز من مؤشرات عدة فى هذا الصدد، على رأسها الطلب الرسمى الذى تقدمت به فنزويلا للانضمام إلى مجموعة «بريكس» فى أغسطس 2023، كجزء من جهودها للانضمام إلى آليات تجنبها التداعيات السلبية للعقوبات المفروضة عليها من جانب واشنطن. فضلًا عن المساعى الفنزويلية للتقارب مع الصين بعد سنوات من فتور العلاقات، وذلك كخطوة لتأمين دعم مالى من حكومة الرئيس شى جين بينج قبيل الانتخابات الرئاسية فى فنزويلا. وتجلى ذلك بوضوح فى زيارة مادورو إلى بكين خلال الفترة من 12 إلى 14 سبتمبر الماضى، وهى أول زيارة يقوم بها إلى الصين منذ 2018، والتى شهدت الإعلان عن رفع مستوى العلاقات بين البلدين الى «شراكة استراتيجية قادرة على الصمود»، وهو مستوى يُعد الأعلى فى العلاقات لدى الدبلوماسية الصينية، وتحظى به دول قليلة جدًا، مثل باكستان وروسيا وبيلاروسيا.

4- التوظيف الانتخابى للصفقات: لا يمكن فصل السياق الزمنى للإعلان عن تمرير الصفقات الأمريكية مع إيران وفنزويلا، والذى يأتى قبل عدة أشهر من انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024، عن الدوافع التى قد تكون وراء رغبة إدارة بايدن فى إتمامها، وعلى رأسها بالطبع تعزيز الموقف الانتخابى لبايدن، والذى «أعاد المواطنين الأمريكيين إلى وطنهم»، مع اقتراب موعد الانتخابات. وفى نفس التوقيت، حرصت إدارة بايدن على فرض عقوبات على طهران للحد من انتقادات الجمهوريين لها بعد الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية. وفى هذا الإطار، أصدرت واشنطن، يوم 19 سبتمبر الماضى، عقوبات جديدة استهدفت 7 أفراد و4 كيانات فى إيران وروسيا والصين وتركيا، قالت إنها سهلت الشحنات والمعاملات المالية لشركة صناعة الطائرات الإيرانية وجهودها فى مجال الطائرات المُسيّرة والطائرات العسكرية.

ومن ناحية فنزويلا، يبدو أنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة دستوريًا فى عام 2024، برز قدر من التلاقى بين حماس البيت الأبيض لاتخاذ خطوات جادة لدفع المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة، وتحفيز العملية الانتخابية فى فنزويلا، وتطلعات الرئيس مادورو للفوز بولاية رئاسية ثالثة وتعزيز موقفه الانتخابى عبر تنفيذ مشروعات تنموية تُسهم فى تحسين صورته لدى الناخبين، وهو ما لا يُمكن تحقيقه سوى من خلال الأموال المُفرج عنها، بالنظر إلى التردى الذى تشهده الأوضاع الاقتصادية فى فنزويلا منذ سنوات.

ختامًا، على الرغم من المسوغات الواضحة لقرارات الإفراج الأمريكى عن ودائع مُجمدة لدول تعدها واشنطن خصومًا لها، والتى ارتبطت فى قدر كبير منها بتحقيق مصالح أمريكية مباشرة أو غير مباشرة؛ ليس ثمة شك أن مثل هذه القرارات قد تكرس مزيدًا من تراجع هيبة الولايات المتحدة ومكانتها على الساحة الدولية، وذلك لدى حلفائها وخصومها على حد سواء، ولاسيما أنه قد يُنظر إلى «صفقات المقايضة» على أنها رضوخ لمطالب الخصوم. ومن شأن هذه القرارات أيضًا أن تُثبت أنه لا يزال لدى بعض الدول أوراق للضغط على واشنطن لتنفيذ مطالبها، وأن تُقلل من قدرة الأخيرة على إنجاح آلية العقوبات ضد خصومها.

* باحثة متخصصة فى الشؤون الدولية

*لينك المقال في المصري اليوم*