نقترب من منافسات الرئاسة الأميركية لعام 2020، ومنذ بداية العام الجاري، أعلن مرشحون جدد في مناسبات مختلفة عزمهم المنافسة على منصب الرئاسة. وبعض هؤلاء مرشحون مثيرون للاهتمام، في حين أن آخرين يتركون المرء في حيرة من أمره، ويسأل نفسه: «ماذا يفعلون؟ هل حقاً يعتقدون أنهم سيُنتخبون؟».
وأثناء قراءة التقارير حول الاستراتيجيات و«الرؤى» المقترحة من أولئك المتطلعين الجدد للرئاسة، أذهلني تصريحان مهمان لأنهما يحددان نهجان معيبان تماماً في السياسة الأميركية، وكلاهما صحيح إلى حد ما، لكنهما أيضاً وصفتان للهزيمة!
جاء التصريح الأول على لسان «هوارد شولتز»، الملياردير المؤسس لإمبراطورية مقاهي «ستاربكس»، والذي يستكشف الترشح لمنصب الرئاسة كمستقل. وقد وصف «شولتز» فلسفته السياسية باعتباره «ليبرالي اجتماعياً ومحافظ مادياً». وهذه الصيغة هي من الفلسفات التي يتبناها من يُوصفون بـ«الوسطيين» من «الديمقراطيين المعتدلين» و«الجمهوريين الليبراليين». وقد تبنى البعض هذا المبدأ باعتباره «الحكمة المقبولة» لمتطلبات إصلاح السياسة الأميركية. بيد أن المشكلة في هذه «الحكمة» أنها غير حكيمة على الإطلاق. ففشلها مؤكد ولا ترقى إلى تطلعات ملايين الأميركيين من الطبقة العاملة.. أي الناخبين المحتملين الذين يُفترض أن يكونوا الجمهور المستهدف بهذه الرسالة الوسطية.
وقبل عقدين سابقين، أجريت دراسة، استناداً إلى استطلاع رأي أجراه شقيقي «جون زغبي»، بعنوان: «ما الذي تفكر فيه المجموعات الإثنية من الأميركيين حقيقة؟» وكانت المجموعات التي شملتها الدراسة في البداية هي جاليات المهاجرين من أصول أوروبية ومن دول البحر المتوسط وأبنائهم، الذين ظلوا على مدار عقود يهيمنون على ولايات الغرب الأوسط والولايات المطلة على الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
واكتشفنا أن وجهات نظرهم بشأن سلسلة من القضايا السياسية والاجتماعية كانت على النقيض تماماً مما يعتقد الوسطيون. واستنتجت الدراسة أن أولئك الناخبين كانوا فخورين بتراثهم وتقاليدهم. وقد كانوا يؤمنون بدعم أسرهم ومجتمعاتهم، وبقيم العمل الجاد والسلوكيات الملائمة. وفي الوقت ذاته، رأوا ضرورة أن تضطلع الحكومة بدور أساسي من أجل الصالح العام، لاسيما توفير التعليم الجيد للجميع، وتعزيز الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية لكبار السن، وحماية البيئة، وفرض قوانين أشد صرامة على حيازة السلاح، وتأييد حقوق العمال. والعنوان الأبرز كان أن أولئك الناخبين «تقليديون اجتماعياً وليبراليون مادياً».
وعند مقارنة مواقف أولئك الناخبين البيض بمواقف الناخبين السود وذوي الأصول اللاتينية، توصلنا إلى أن هناك تقارب شديد في وجهات النظر. والمقصود أن معظم الأميركيين يريدون الأمور ذاتها لأسرهم ومجتمعاتهم (وظائف برواتب جيدة وتعليم جيد ورعاية صحية وبيئة آمنة) ويعتبرون أن دور الحكومة لابد أن يكون إيجابياً وليس سلبياً في تحقيق تلك الأهداف.
وأما التصريح الثاني فجاء على لسان مستشار رفيع المستوى لشخصية بارزة في الحزب الديمقراطي، أعلن ترشحه مؤخراً للمنافسات التمهيدية على منصب الرئاسة الأميركية. وقد وصف المستشار استراتيجية الحملة الانتخابية بأنها تركز على «قاعدة الناخبين الديمقراطيين». وبالنظر إلى أن المنافسات التمهيدية، من حيث التعريف، تكون من أجل الناخبين «الديمقراطيين»، فلطالما ارتكب المرشحون «الديمقراطيون» الخطأ ذاته بتوجيه رسالتهم وتركيز جهودهم على ما يعتبرونه «قاعدتهم الانتخابية»، والتي تضمنت مجتمعات الأقليات والنساء المتعلمات والناخبين الشباب.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد كبير مع أوباما في 2008 و2012، وكانت عاملاً رئيساً في نجاح «دوغ جونز» في السباق على مقعد مجلس الشيوخ عام 2017 بولاية «ألاباما» التي يسيطر عليها «الجمهوريون». لكن هذه الطريقة التي تركز على فئات بعينها، كاستراتيجية عامة تشكل وصفة لكارثة، لاسيما أنها تقصي آخرين.
ومثلما أشرت في البداية، كان كلا التصريحين صحيحين إلى حد ما. ومن المهم أن نحتوي ونحمي حقوق الجميع، إذا كان ذلك ما قصده «شلوتز» ب«ليبرالي اجتماعياً». لكن ربط ذلك الوصف بـ«محافظ مادياً»، يعني تعجيز أية حكومة تسعى لتحقيق فرص متساوية والوصول إلى الخدمات الضرورية وإقامة شبكة أمان اجتماعي تحمي جميع من يحتاجون إلى المساعدة. لذا أدرك الناخبون أن من يطلقون على أنفسهم وصف «وسطيين» ليسوا كذلك في الحقيقة!
وفي حين من المهم بالنسبة لـ«الديمقراطيين» أن يركزوا مواردهم على الناخبين الذين لطالما كانوا مؤيدين مخلصين، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب التواصل مع المجموعات الأخرى من الناخبين الذين ينبغي استمالتهم إلى المعسكر «الديمقراطي». ولابد أن تدور السياسة حول الاستيعاب وليس الإقصاء. وفي 2016، استفاد ترامب من هذا النهج، فعلى رغم من أنه أوضح أنه سيخفض الضرائب والقواعد الحكومية (التي حمت البيئة والصحة والضمان الاجتماعي وغيرها)، لكنه أطلق وعوداً رنانة للناخبين من الطبقة المتوسطة، فوعدهم برعاية صحية عظيمة ووظائف للجميع، واستعادة هيبة أميركا في العالم. لذا، لكي يفوز «الديمقراطيون»، عليهم أن يكونوا أكثر من مجرد معارضين لترامب، ولابد أن تكون رسالتهم موجهة لمخاطبة تطلعات جميع الناخبين وأن تركز استراتيجيتهم أيضاً على التواصل مع كل الأميركيين.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد