تعزيز الحضور الأميركي العسكري في سورية بدل المشهد الاستراتيجي في هذا البلد. من المبكر الحديث عن استراتيجية متكاملة واضحة لواشنطن حيال الإقليم. هذا الحضور، وإن ارتفع عدد الجنود على الأرض وأُرسل مزيد من المعدات يبقى رمزياً. لكنه يؤشر إلى سياسة مختلفة عن تلك التي نهجتها إدارة الرئيس باراك أوباما. قد لا يكتفي البنتاغون بألف جندي لإدارة الحرب على «عاصمة الخلافة». قد يعززهم بألف أخرى. وكان وعد بارسال عدد ماثل إلى الكويت ليتيح مرونة أكبر للقيادة العسكرية في تحريك ما يلزم من قوات في إطار الحرب على «داعش» في الموصل والرقة. مثل هذه القرارات يؤكد أن واشنطن تعتمد خيارات مختلفة عن السابق. تريد استعادة دور حيوي ببناء قواعد جديدة للصراع في المشرق العربي، انطلاقاً من الحرب على «تنظيم الدولة» في هاتين المدينتين.
الأموال التي خصصها البنتاغون لفصائل سورية معارضة لم تثمر في بناء جسم عسكري قادر على إمساك مناطق محددة، بخلاف ما فعلته وتفعله إيران طوال السنوات الست الماضية من عمر الأزمة في بلاد الشام. أو بخلاف ما أثمرته العمليات الروسية من تمكين للقوات النظامية من استعادة كثير من المدن والدساكر. لذلك كان لا بد للإدارة الجديدة من أن توقف برنامج المساعدات للمعارضة عموماً. وأن تعتمد خياراً آخر يسهل لها الإمساك بالأرض. عززت قوتها العاملة شمالاً مع «قوات سورية الديموقراطية»، وقد يرتفع عدد جنودها هناك إلى ألفين وأكثر إذا اقتضت الحاجة. وأرسلت مزيداً من المعدات العسكرية. والأهم من ذلك أنها أعلنت بوضوح اعتمادها خيار الإدارة السابقة، أي العمل مع الكرد. يتيح لها هذا بناء منطقة خارجة عن نفوذ باقي اللاعبين في الميدان السوري. لذلك سارعت إلى دخول مدينة منبج رافعة العلم الأميركي على بعد نحو مئتي متر من انتشار قوة روسية، وقريباً من قوات النظام وحلفائه من الميليشيات. وليس بعيداً عن القوات التركية وحلفائها من «الجيش الحر» الذين كانوا ينذرون بالهجوم على منبج. لقد رسمت بوضوح حدودأً لانتشار الآخرين. لا بل رسمت خطاً أحمر لهؤلاء جميعاً. لموسكو وطهران وأنقرة ودمشق. لم يعد ممكناً تجاوز هذا الخط من دون المجازفة بصدام مباشر مع القوة الأميركية.
بات واضحاً أن عودة الولايات المتحدة إلى دور نشط في الإقليم لن يتوافر من دون تدخل عسكري وبناء تحالف قوي مع قوة كردية تحتاج إلى سند دولي لتحقيق أهدافها وإن بحد أدنى من الحكم الذاتي، على غرار ما في كردستان العراق. وهذه لم تكن لترى النور لولا الدعم الأميركي الذي حرم قوات صدام حسين من إعادة إخضاع المنطقة لسلطته كما فعل مع جنوب العراق بعد تحرير الكويت. وتعول إدارة الرئيس دونالد ترامب على هذا الانخراط من أجل تحقيق جملة أهداف. على رأسها بالطبع تفعيل الحرب لإسقاط «عاصمة الخلافة». ثم إطلاق قواعد جديدة لإدارة الأزمة في سورية. والإنطلاق منها لبناء سياسة واعتماد خيارات جديدة لا تقتصر على بلاد الشام بل تتعداها إلى العراق. أي مواجهة النفوذ الإيراني في هذين البلدين. لذلك إن تحويل واشنطن الشمال السوري منصة يمكنّها من الإشراف على جنوب البلاد، وعلى نفطها ومياهها. وعلى جزء من نفط العراق أيضاً. وأبعد من ذلك يمكنها من الإطلال على تركيا، عبر الربط بين «الكردستنانين». ومن ثم توفير خط يصل الرقة بالموصل، ومنها إلى بلاد الرافدين كلها حيث لا يخفي البنتاغون رغبته في تعزيز قواته في هذا البلد بعد تحرير ثاني أكبر مدنه.
يمكن هذه الخطة الأميركية أن تهدد الجسر الذي تقيمه إيران لدعم انتشارها من بغداد إلى شاطىء المتوسط. ولقطع هذا الجسر كلياً والسيطرة على البوابات الحدودية بين العراق وسورية، لا بد من تحريك «جبهة الجنوب» السوري التي تلقت فصائلها دعماً مالياً وتدريباً من البنتاغون ورعاية من الأردن وغيره من قوى عربية. وإذا قدر للأميركيين بالتفاهم مع القوات العراقية وحكومة حيدر العبادي و»البيشمركة» إبعاد الميليشيات عن الموصل، فإن ذلك سيسهل بقاءهم في العراق. ويعزز موقف أهل السنة، الأمر الذي يفاقم الصراع بين مختلف القوى السياسية في بغداد. وهو ما ينهك الجمهورية الإسلامية ويستنزفها. علماً أن قادة «الحشد الشعبي» الموالين لطهران لن يسهلوا للمؤسسة العسكرية استعادة دورها السابق قوة وحيدة في البلاد. بل سيجهدون للحصول على ثمن سياسي. وسيرفضون تسليم سلاحهم بالحسنى. أما في سورية، فإن ما قد يقصر عنه الأميركيون تتولاه إسرائيل، كما فعلت في الغارة الأخيرة وما قبلها. وكان بنيامين نتانياهو واضحاً في زيارته الأخيرة لموسكو: التوكيد على تفاهمات سابقة مع الرئيس فلاديمير بوتين. ومضمونها عدم السماح بتهديد الحدود الشمالية لإسرائيل (الجولان)، وعدم وصول أسلحة نوعية إلى «حزب الله»... ومنع الجمهورية الإسلامية من تعزيز وجودها في بلاد الشام بعد التسوية السياسية. إنها مرحلة جديدة تعتمد فيها الولايات المتحدة الدخول من الأبواب نفسها التي دخلت منها الجمهورية الإسلامية... وبالانخراط الميداني. لا يعني ذلك بالضرورة أنها تعد لمواجهة مباشرة معها. فهي تدرك أن الحرب ستفتح أبواب الجحيم في الإقليم كله، من مياه الخليج إلى مياه المتوسط، مروراً بالمشرق العربي كله. مثلما لا يعني بالضرورة أن طهران راغبة أو قادرة على خوض حرب واسعة في الإقليم، سواء من جنوب لبنان أو في شرق سورية وغرب العراق.
لم تعد الرقة إذاً محور صراع محلي بقدر ما باتت عقدة الصراع الدولي والإقليمي. الموقف الأميركي الجديد سيخلف تغييرات حتمية على الواقع الحالي للأزمة السورية. ويفرض على المعنيين إعادة تموضع. وإلى أن تكتمل تفاصيل المشهد المستجد، من المبكر توقع ثمار من الجولة الثالثة للمفاوضات في جنيف قريباً، وإن أبدت واشنطن تأييدها الصريح لجهود المبعوث ستيفان دي ميستورا. لن يكون حظ هذه الجولة أفضل من اللقاء الأخير في آستانة. هذه المرة لم تثمر الضغوط التركية كما حصل سابقاً. وحتى الغضب الروسي على المعارضة كان ضعيفاً لم يترك أثراً. تبدل المشهد. وهذا ما تدركه قوى في «الائتلاف الوطني» وفصائل على الأرض قد لا ترى أنها ملزمة مثلاً بموقف أنقرة من الكرد الذين على اختلاف قواهم وبينها تلك المنضوية في صفوف «الائتلاف» يرغبون في استقلال إداري لمناطقهم. لذلك اتهمت موسكو طرفاً ثالثاً بعرقلة اجتماع العاصمة الكازاخية قبل أيام، وهي تشير ضمناً إلى واشنطن. حتى تركيا تكاد تسنفد جنوحها نحو روسيا. الرئيس رجب طيب أردوغان كبت حتماً مرارته بعدما دفع الروس قوات من النظام وحلفائه إلى الانتشار في ريف منبج وشرق حلب للحؤول دون تمدد قوات «درع الفرات» جنوباً. بل قد يشعر قريباً بأن موسكو تستغل مواقفه الجديدة وأزمته مع أوروبا ومع واشنطن لتحقيق مآربها. ألم ترسم له هي الأخرى حدوداً لانتشار قواته؟
واشنطن ترسم خطاً أحمر في الرقة قد يمتد بالتأكيد إلى الموصل إذا كان على الرئيس ترامب أن ينقلب على سياسة سلفه التي تركت العراق ساحة لإيران، وسمحت لها بتعزيز حضورها في المشرق العربي كله. إنها الخطوة الأولى، بل الامتحان الأول ولن يكون الأخير. الامتحان الثاني في مواجهة طهران سيكون حتماً في اليمن. لقد أعادت المحادثات التي أجراها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الأميركي الجديد الحرارة إلى العلاقات بين بلديهما. وكان اليمن حاضراً بين كم من التفاهمات. وكان سيد البيت الأبيض بادر إثر تسلمه السلطة إلى تعزيز اسطوله في البحر الأحمر. وعبر عن حرصه على أمن حلفائه في الخليج في وجه تمدد الجمهورية الإسلامية. ولا شك في أن الولايات المتحدة في جنوب شبه الجزيرة تعتمد الآن موقفاً مختلفاً. صحيح أنها معنية بمواصلة حربها على «القاعدة» في هذه المنطقة، لكنها ستكون معنية أيضاً بالتعجيل في تسوية سياسية ترفع يد طهران وحلفائها الحوثيين وشركائهم عن صنعاء. وهذا هو الامتحان الثاني أمام الإدارة الجديدة. أي أن عليها أن ترسم خطاً أحمر مشابهاً لما ترسم في الرقة وربما الموصل.
تأتي هذه الخطوات الأميركية فيما لم يكتمل جهاز الإدارة الجديدة بعد. كما أن الكونغرس لم ينخرط في نقاش يتناول عودة التدخل العسكري في الخارج، مهما كان خجولاً. أي أن الاستراتيجية الخارجية لم تكتمل عناصرها. صحيح أن الرئيس ترامب يدفع نحو سياسة مخالفة ليس لسياسة سلفه أوباما الذي عزف عن التدخل تاركاً لروسيا وغيرها كسب مواقع متقدمة في الشرق الأوسط، بل لسياسة الرئيس السابق جورج بوش و»محافظيه» الذين دمرت حروبهم الاستباقية بلداناً وخلفتها لقمة سائغة للآخرين. كما أن سياسة واشنطن حيال الشرق الأوسط لا تتحدد بما ترسمه هي وحدها. الأمر يتعلق أيضاً بباقي القوى في الإقليم لئلا نقول تلك المنتشرة قي سورية والعراق، ومدى قدرتها على مقاومة التوجه الجديد لواشنطن. فلا يخفى على الرئيس ترامب أن روسيا إذا لم يصلها الترياق المنتظر منه، قادرة على تعزيز تحالف قائم على الأرض اليوم، من إيران إلى العراق وسورية ولبنان. فضلاً عن قاعدة ذهبية خبرتها كل الإدارات السابقة قوامها أن التركيز على الجبهة الداخلية لإعادة تحريك الاقتصاد لا يتيح للولايات المتحدة خوض حروب كبيرة في الخارج، بقدر ما يتطلب الأمر تعاونها مع القوى الكبرى، من الصين إلى روسيا. فهل تصمد الخطوط الحمر لخليفة أوباما؟
*نقلا عن صحيفة الحياة