عرض: دينا محمود
في يونيو 2022، وصل المرشح اليساري، غوستافو بيترو إلى رئاسة كولومبيا بعدما فاز على منافسه اليميني، رودولفو هيرنانديز، في الانتخابات الرئاسية التي شهدت استقطاباً سياسياً حاداً، إذ حصل بيترو على نسبة 50.4% من الأصوات، مقابل 47.3% لخصمه هيرنانديز. واكتسبت هذه الانتخابات أهمية خاصة في ظل تباطؤ الاقتصاد، وارتفاع التضخم، والعجز الداخلي والخارجي الكبير، ومنذ وصوله للسلطة، بدأ بيترو برنامجاً شاملاً للإصلاح الاقتصادي، وهي الخطوة التي عمد أسلافه إلى تجنبها.
في هذا السياق، يناقش، جان لويس مارتن، في تحليل له على المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في مايو 2023، سياسة بيترو الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب سياسة الطاقة والقيود المالية والاجتماعية، خاصةً بعد مرور عام على الانتخابات الرئاسية، لمعرفة ما إذا كان يمكن تحديد نموذج جديد للتحول الاقتصادي والطاقة في كولومبيا، بالإضافة إلى طبيعة علاقتها بفنزويلا.
إصلاح العلاقات مع فنزويلا:
مع وصول بيترو للحكم في كولومبيا، استعادت الأخيرة علاقتها الدبلوماسية والقنصلية مع فنزويلا، وهو الأمر الذي لا يمكن إرجاعه فقط للتقارب الأيديولوجي بين بيترو ونظيره الفنزويلي، نيكولاس مادورو، لكن لأسباب مصلحية براغماتية، أولها، وجود حوالي 2 إلى 2.5 مليون لاجئ فنزويلي في كولومبيا، وثانيها، حالة الفوضى التي تهيمن على المنطقة الحدودية بين البلدين (مقاطعات لاغواخيرا، سيزار، نورتي دي سانتاندير، أراوكا)، إذ أضحت هذه المنطقة بؤرة خصبة لكثير من الجماعات المسلحة (مثل: حركة راستروجوس، جيش التحرير الوطني، المنشقون عن القوات المسلحة الثورية لكولومبيا)؛ مما يستوجب التعاون بين البلدين من أجل تحقيق درجة من الاستقرار في هذه المنطقة.
ويتعلق السبب الثالث بالجانب الاقتصادي، فحوالي 28% من الصادرات الكولومبية "غير التقليدية" (بعيداً عن النفط والفحم والبن) كانت تتجه إلى فنزويلا خلال الفترة بين عامي 2007 و2008، وقد وصلت هذه الصادرات إلى 6.1 مليار دولار أمريكي في عام 2008، من إجمالي صادرات كولومبيا التي بلغت 36 مليار دولار أمريكي في هذا العام، قبل أن تتراجع صادرات كولومبيا إلى فنزويلا بشكلٍ حاد. فمن إجمالي صادرات بلغ حوالي 41 مليار دولار في عام 2021، انخفضت صادرات كولومبيا إلى فنزويلا إلى 330 مليون دولار أمريكي (أي 0.6%)، وبالتالي، فإن الشركات الكولومبية تعول كثيراً على استعادة العلاقات الطبيعية مع فنزويلا من أجل إعادة فتح أسواقها هناك.
سياسات إصلاحية:
حمل برنامج بيترو خلال حملته الانتخابية تفصيلات فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية (كحقوق المرأة والأقليات وغيرها من الملفات الاجتماعية)، لكنه كان أقل تحديداً فيما يخص القضايا الاقتصادية. ومع توليه السلطة، أعطى بيترو الأولوية لبعض الملفات الاقتصادية، فقد كان الإصلاح الأكثر إثارة للدهشة، من حيث سرعته وتوجهاته، هو الإصلاح الضريبي الذي صوت عليه الكونغرس الكولومبي في 3 نوفمبر 2022 بغية تحقيق هدفين رئيسيين، الأول، تقليل الضغط على المالية العامة (حيث انخفض عجزها قليلاً، لكنه لا يزال مرتفعاً عند 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022)، أما الثاني، فهو العمل لصالح "المساواة والعدالة الاجتماعية".
وفيما يخص الإصلاح الصحي المستهدف لبيترو، فقد استهدف توسيع التغطية الصحية، ولاسيما في المناطق الريفية، من خلال زيادة عدد "مراكز الرعاية الأولية"، واستعادة دور الدولة كوسيط (مالي على وجه الخصوص) بين النظام الصحي والمستخدمين، وهو الدور الذي تؤديه اليوم كيانات تعزيز الصحة (EPS) وهي في الواقع العملي شركات التأمين الصحي الخاصة. لكن تجدر الإشارة إلى أن نظام (EPS) يعاني عيوباً عدة، منها الاهتمام المتواضع بالأشخاص الأكثر احتياجاً، فضلاً عن كونه إطاراً للفساد المالي وعمليات الاختلاس ما استوجب تدخل الحكومة، وهو ما أثار حفيظة العديد من المتخصصين في القطاع الصحي من أن يخلق عودة تدخل الدولة حالة من عدم الكفاءة والفساد وتدهور جودة الخدمات المقدمة إلى المواطنين.
كذا، تستهدف سياسة بيترو تحقيق إصلاح زراعي شامل، ففي أكتوبر 2022، اتفقت الحكومة الكولومبية مع رئيس اتحاد المربين (Fedegan) على شراء ثلاثة ملايين هكتار من هؤلاء المربين للشروع في الإصلاح الزراعي، كما تدرس الحكومة عمليات شراء أراضٍ أخرى، والاندماج في إصلاح الأراضي المصادرة من تجار المخدرات، ورغم أن عملية الإصلاح الزراعي تتقدم ببطء في الوقت الحالي، فإن السلطات الكولومبية تخطط لإعادة توزيع مليون هكتار سنوياً.
وبعد عام من الانتخابات الرئاسية الأخيرة في كولومبيا، كانت معظم المؤشرات الاقتصادية في المنطقة الحمراء. فبعد عامين من النمو القوي (10.7% في عام 2021 و7.5% في عام 2022) والذي مكّن الاقتصاد الكولومبي من أن يصبح الأسرع في التعافي من أضرار وباء "كوفيد19"، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.9% فقط على أساس سنوي في الربع الأخير من عام 2022، ومن المتوقع أن يرتفع بنسبة 1 إلى 1.2% فقط في 2023. ويبدو أن التضخم في طريقه للاستقرار، ولكن عند 13.3% في مارس الماضي، فهو في أسوأ مستوياته منذ عام 1998، وقد عاد معدل البطالة ليبلغ 11.4% في فبراير الماضي، وهو مستوى قريب لفترة ما قبل وباء "كوفيد19" لكن التباطؤ في النشاط الاقتصادي الحالي سيجعله يرتفع مرة أخرى.
لم تتعاف المالية العامة بعد من صدمة الوباء، حيث بلغ العجز 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، ويعاني ميزان المدفوعات من عجز كبير (6.2% من الناتج المحلي الإجمالي)، لذا يبدأ بيترو ولايته في سياق اقتصادي معاكس، وينتقد المعارضون بشكل أساسي هذا الوضع الاقتصادي المأزوم، وهي المشكلة الرئيسية في البلاد بالنسبة لـ39% من الكولومبيين، وفقاً لاستطلاع حديث، إذ حاز انعدام الأمن (16%) والفساد (12%)، وبالتالي يبدو أن الدعم الشعبي للرئيس آخذ في التراجع، حيث انخفضت نسبة التأييد لبيترو إلى 35% في إبريل 2023، مقابل 56% عند توليه السلطة.
فرص وتحديات الطاقة:
يركز النقاش حول سياسة الطاقة في كولومبيا حالياً على نقطتين رئيسيتين، هما وزن قطاعي النفط والفحم في الاقتصاد، وأسعار الكهرباء وذلك على النحو الآتي:
1- الموارد ومزيج الطاقة: يتشكل مزيج الطاقة في كولومبيا من كميات قليلة من النفط، وكمية أقل قليلاً من الغاز، وقليل من الفحم، وإمكانات هيدروليكية كبيرة، بالإضافة لموارد ذات أهمية نسبية من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. إذ تُعد موارد النفط والغاز محدودة، فهي تقدر بحوالي 2 مليار برميل و3 آلاف مليار قدم مكعب على التوالي، وهو ما يمثل أقل من 20% من الاحتياطيات المؤكدة للبرازيل، وأقل من 1% من تلك الخاصة بفنزويلا.
وتبلغ احتياطيات كولومبيا من الفحم حوالي 4550 مليون طن من الفحم عالي الجودة (منخفض الرماد وانبعاثات ثاني أكسيد الكبريت)، ويتم تصدير معظم إنتاج النفط والفحم، بينما يتم استهلاك الغاز بالكامل تقريباً في البلاد. بالتالي، فإن كولومبيا هي خامس دولة مصدرة للفحم في العالم، والذي يتم تصديره بشكلٍ أساسي إلى الولايات المتحدة. وفي عام 2021، أسهم النفط والغاز والفحم بنسبة 36.4% و23.6% و6.9% على التوالي، أي ما مجموعه 67% من الطاقة الأولية المستهلكة في كولومبيا. وتسهم الطاقة الكهرومائية بحوالي 29.7% من الطاقة الأولية المستهلكة، ناهيك عن مصادر الطاقة المتجددة غير التقليدية (الكتلة الحيوية، وطاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الحرارية الأرضية). ويُعد قطاع النقل هو المستهلك الرئيسي للطاقة في كولومبيا، حيث يمثل 37% من إجمالي الاستهلاك.
2- ديناميكية قطاع الكهرباء: تتمتع كولومبيا بسوق طاقة متحررة منذ عام 1995، وتفصل اللوائح خدمات التوليد عن النقل والتوزيع والتسويق، ويعتمد هذا الهيكل على القانونين 142 (قانون المرافق) و143 (قانون الكهرباء) لعام 1994. وتُعد وزارة المناجم والطاقة المؤسسة الرئيسية لقطاع الطاقة الكولومبي. وداخل هذه الوزارة، تتولى "وحدة التعدين وتخطيط الطاقة" (UPME) دراسة احتياجات الطاقة المستقبلية وسيناريوهات التوريد، بالإضافة إلى تطوير خطة الطاقة الوطنية وخطط الطاقة. بينما تتولى "هيئة تنظيم الطاقة والغاز" (CREG) مسؤولية تنظيم السوق وضمان الوصول المجاني إلى الشبكة وتعريفات النقل ومعايير سوق البيع بالجملة، كما تضع اللوائح التي تضمن حقوق المستهلك، وإدراج مبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية، وتحسين التغطية والجدوى المالية للكيانات المشاركة.
ووفقاً لوزارة المناجم والطاقة، كانت سعة توليد الطاقة المركبة أكثر قليلاً من 20 جيجاوات في عام 2022، 65.8% منها متوفرة من مصادر الطاقة المتجددة. وفي عام 2021، تم توفير 73.8% من الإنتاج عن طريق الطاقة الكهرومائية و2.8% من مصادر الطاقة المتجددة الأخرى، وخاصة الكتلة الحيوية. وبالتالي، فإن الطاقة الكهرومائية هي المهيمنة إلى حدٍ كبير. كما يبدو واضحاً أن الإنتاج من الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) يتدخل حتى الآن بشكلٍ رئيسي من أجل تهدئة تقلبات الإنتاج من أصل هيدروليكي في مواجهة الطلب الذي يتزايد بانتظام، بمعدل متوسط يبلغ 2.8% سنوياً لمدة عشر سنوات.
تظل الإمكانات الهيدروليكية كبيرة، ولكن لن يتم استغلالها بالكامل لأن جزءاً من الإمكانات التقنية يقع بعيداً جداً عن مناطق الاستهلاك (Amazonia، Llanos Orientales) ليكون جذاباً اقتصادياً، إضافة إلى صعوبات تشغيل سد كبير مثل سد Ituango (الذي يجب أن تبلغ سعته 2.4 جيجاوات في عام 2025)، والذي يمنع معظم المستثمرين المحتملين من الاهتمام بالمشروعات الهيدروليكية الكبيرة.
مع ذلك، من الممكن أن يعود اهتمام المستثمرين بالوحدات الكهرومائية الكبيرة إلى الظهور لكن على المدى المتوسط فقط، خاصةً أن كولومبيا تُعد الدولة الثانية عشرة في العالم من حيث قدرة إنتاج الطاقة الكهرومائية. ويعزى ذلك إلى الطبيعة المنتظمة لتدفقات الأنهار والأمطار الغزيرة. وفيما يتعلق بمشروعات التوليد قيد المراجعة حالياً من قبل وزارة المناجم والطاقة، نلاحظ هيمنة مشروعات الطاقة الشمسية صغيرة الحجم (196 من إجمالي 278)، ومشروعات طاقة الرياح المتوسطة الحجم.
الاستجابة للقيود الاجتماعية:
منذ بداية عام 2021، ارتفعت أسعار استهلاك الطاقة (الكهرباء، الغاز المنزلي، وقود السيارات) بوتيرة أسرع بكثير من أسعار الاستهلاك بشكلٍ عام. ففي مارس 2023، بلغ ارتفاع هذه الأسعار 20.5% خلال عام واحد، مقابل 13.3% وفقاً للمؤشر العام للأسعار. وكانت هذه الزيادة أقوى في مناطق معينة مثل: ساحل البحر الكاريبي. ويمكن أيضاً أن تتفاقم إذا أدت ظاهرة النينو، ابتداءً من هذا الصيف، إلى خفض احتياطيات المياه في السدود. لذلك، تعتبر الحكومة أن ارتفاع الأسعار يرجع جزئياً إلى عدم كفاية المنافسة، أو حتى إلى الممارسات الاحتكارية.
فيما يتعلق بسعر الكهرباء يمكن التفاوض على الإصلاحات، على سبيل المثال، من خلال مراجعة تأثير مؤشر أسعار الجملة في حساب تكلفة الوحدة، وربما التفرقة في حساب تكلفة هذه الوحدة وفقاً لنمط الإنتاج. لكن هناك خوف من أن الوزارة، التي تنقل مخاوف الرئيس بشأن التأثير الاجتماعي لارتفاع أسعار الاستهلاك، ستختار إجراءات أحادية الجانب. ويمكن أن يساعد تباطؤ التضخم المتوقع خلال الأشهر القليلة المقبلة في تخفيف التوترات، بشرط ألا يؤدي انخفاض هطول الأمطار إلى تجفيف خزانات السدود. فيما يتعلق بتوليد الكهرباء، فالعقبة الرئيسية أمام تطوير الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على المدى القصير تتمثل في معارضة بعض المجتمعات الأصلية في لاغواخيرا لبناء خطوط نقل، لكن هناك حلول سياسية واقتصادية للتغلب على هذه المعارضة.
وثمة جدلية قائمة حالياً في كولومبيا، تتمثل بالأساس في تساؤل رئيس يتعلق بما إذا كان من الضروري أن تقلل كولومبيا من الاعتماد على النفط والغاز والفحم، من أجل "الانتقال من الاقتصاد الاستخراجي إلى الاقتصاد المنتج" وفقاً لسياسة بيترو. وتشير كثير من التقديرات إلى أنه سيتعين على كولومبيا الاستغناء عن الهيدروكربونات بسرعة إلى حد ما، بسبب تواضع احتياطاتها من أجل الحفاظ على البيئة والتنوع البيولوجي.
تأتي هذه التقديرات برغم أن الإيرادات النفطية تمثل حصة كبيرة من الإيرادات العامة (10% في عام 2022)، وتؤثر بشكل أساسي على ميزان المدفوعات، الذي يعاني اليوم من عجز كبير (6.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022) ويعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والفحم، لأن الانخفاض الحاد في هذه الصادرات سيؤدي إلى انهيار العملة (البيزو)، كون هذا الأخير حساس للتغيرات في أسعار النفط وربما سيكون له تأثير تضخمي هائل على الرغم من تقلبها.
ختاماً، من غير المحتمل أن تحدث تطورات كبيرة بحلول نهاية عام 2023 في كولومبيا. فعلى الصعيد السياسي، لن تتقدم مفاوضات الحكومة مع الجماعات المسلحة المختلفة إلا ببطء شديد. وعلى الصعيد الاقتصادي، يمكن للاقتصاد الكولومبي الاستفادة من التقدم في المفاوضات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة؛ مما سيسمح برفع تدريجي للعقوبات الأمريكية وانتعاش تدريجي للاقتصاد الفنزويلي ووارداته من كولومبيا، بالإضافة للإصلاحات الأخرى التي يوجهها بيترو في المجالات الصحية والزراعية والاجتماعية خاصةً في ظل القيود المالية وعجز ميزان المدفوعات، مدفوعاً برغبته في التحول نحو الاقتصاد المنتج والتخلي نسبياً عن الموارد الهيدروكربونية.
المصدر:
Jean-Louis Martin, «La Colombie, nouveau modèle de transformation économique et énergétique en Amérique latine?», Ifri, Mai 2023.