عرض: منى أسامة
تشغل العملات الرقمية جزءاً مهماً من نقاشات مجموعة العشرين في الوقت الحاضر، ففي فبراير 2023، اقترحت الهند – الرئيس الحالي للمجموعة - السماح بإطلاق وتداول العملات الرقمية في إطار الأنظمة المالية المحلية، من أجل درء المنافسة وضبط السوق الرقمي، وكانت ردود الفعل على هذا الاقتراح متباينة ما بين مؤيد ومعارض. فما زالت غالبية الحكومات تنظر إلى العملات الرقمية بنظرة شك بسبب اتهامات استخدامها في غسيل الأموال والاحتيال، مما يمثل تهديداً للاقتصاد العالمي، في المقابل، قوبل الاقتراح الهندي بدعم من قبل صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة.
في هذا الإطار تناقش الباحثة الهندية انتارا فاتس، في ورقة بحثية بمركز (ORF) للأمن والاستراتيجية والتكنولوجيا، صدرت في العام 2023 جهود تطوير وتحديد معايير التشغيل البيني للعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، من أجل ضمان توافق القيمة بين اقتصادات الدول أعضاء مجموعة العشرين. والجدير بالذكر أن هناك 105 دول في جميع أنحاء العالم في المراحل الأولى من استكشاف العملات الرقمية للبنوك المركزية، بل وهناك ما يقارب من 50 دولة منها بالفعل في مرحلة تطوير عُملتها، بينما أطلقت 10 دول تلك العملات بالكامل.
ونظراً لأن عملات البنوك المركزية الرقمية في مرحلة التطوير والتجريب إلى حدٍ كبير، ترى الباحثة ضرورة العمل من أجل المواءمة بين النماذج الجديدة للمدفوعات عبر الحدود من ناحية، وأنظمة الدفع الوطنية الحالية من ناحية أخرى؛ لتجنب نقاط الضعف في البنية التحتية، والاحتيال، وغسيل الأموال والهجمات الإلكترونية.
التحول نحو العملات الرقمية:
تتميز العملات الرقمية للبنوك المركزية بأنها مهيأة لتعزيز الوصول إلى الخدمات المالية خاصة للمستهلكين ممن لا يتعاملون مع البنوك، وأيضاً تسهيل تكامل أسواق الاقتصادات الناشئة، حيث يمكنها العمل حتى في المناطق التي تفتقر إلى الوصول المستمر إلى الإنترنت، كما توفر نهجاً فعَّالاً من حيث التكلفة لتسهيل المدفوعات عبر الحدود عن طريق تقليل تكلفة الحفاظ على أنظمة مالية معقدة متعددة. وعلى عكس العملات المشفرة، تمنح العملات الرقمية للبنوك المركزية القدرة على تنفيذ السياسات النقدية لضمان الاستقرار ومراقبة التضخم.
وتفترض الورقة البحثية أن دعم البنوك المركزية للعملات الرقمية يجعلها مصدر ثقة للمستخدمين، لكن في المقابل، قد تتسبب في تجزئة الأنظمة المصرفية المحلية ما لم يتم دمج معايير التشغيل البيني في المراحل الأولية، وتشمل هذه المعايير اعتبارات فنية وتجارية وتنظيمية؛ إذ تضمن المعايير الفنية المواءمة بين البروتوكولات والتنسيقات عبر العملات المختلفة، فيما تضمن المعايير التنظيمية الاتساق في الإرشادات حول الأمان وإخفاء الهوية. كما يجب مراعاة مبادئ التصميم، بما في ذلك الخصوصية والمرونة والإنجاز وحيادية البائعين والتوافر والنهائية وإمكانية التنبؤ.
وأخيراً، تضمن العملات الرقمية للبنوك المركزية قدرة الأخيرة على مراقبة التضخم والسياسات النقدية، كما تُمثل فرصة لإعادة تصور الأنظمة المالية ومعالجة القضايا التي تجهد الاقتصاد والتجارة الدوليين من خلال خيارات البرمجة القائمة على الكفاءة والمرونة وضمان التعايش والتشغيل البيني والإدماج المالي وغياب الضرر.
في هذا السياق، تشير الورقة البحثية إلى تجربة مشروع "الجسر" للعملات الرقمية المتعددة للبنوك المركزية "mBridge"، والذي يهدف إلى تسريع المدفوعات عبر الحدود، وضمت التجربة بنك الصين الشعبي (PBOC) والسلطات النقدية في كلٍ من هونغ كونغ والإمارات وتايلاند، جنباً إلى جنب مع مركز الابتكار التابع لبنك التسويات الدولية (BIS). وانتهت التجربة في أكتوبر 2022، وقد خلصت إلى أنه يُمكن لمنصات عملات البنوك المركزية المتعددة أن تعزز كفاءة المدفوعات، وتدعم العملات المحلية للمدفوعات الدولية، وتقلل من مخاطر التسوية.
وفي ديسمبر 2022، اقترحت الهند مناقشة الآثار الاقتصادية للعملات الرقمية للبنوك المركزية وحالات استخدامها كأولوية في جدول أعمال مجموعة العشرين. وكان البنك المركزي الهندي قد أصدر في نوفمبر من العام الماضي مذكرة مفاهيمية تتضمن رؤية الهند ودوافعها في هذا الشأن. وبالفعل تم إجراء الاختبار التجريبي للعملات الرقمية للبنوك المركزية لتداولات السوق الثانوية في الأوراق المالية الحكومية، بإجمالي 275 كرور روبية هندية بين تسعة بنوك عبر أربع مدن - نيودلهي ومومباي وبنغالورو وبوبانيسوار - باستخدام آلية قائمة على الرموز.
تعزيز المدفوعات عابرة الحدود:
في عام 2020، تضمن بيان قادة قمة مجموعة العشرين بالرياض ترحيب الحكومات الأعضاء بخارطة الطريق المقدمة من مجلس الاستقرار المالي لتعزيز ترتيبات المدفوعات العالمية عبر الحدود لتكون عمليات الدفع أسرع وأقل تكلفة وأكثر شمولاً وشفافية، ويتضمن ذلك الحوالات المالية. وقد ركزت خارطة الطريق على أهمية استخدام الابتكارات التكنولوجية والشراكات بين القطاعين العام والخاص لمعالجة الثغرات مع توخي الحذر من المخاطر من خلال تأمين معايير التشغيل البيني واليقين القانوني وآليات الرقابة.
وفي يوليو 2020، قدَّم بنك التسويات الدولية تقريراً تقنياً إلى شركات السلع الاستهلاكية، وسلَّط التقرير الضوء على 19 عنصراً أساسياً عبر خمسة مجالات تركيز لتحسين أوجه القصور في أنظمة الدفع الحالية عبر الحدود، وهي: مواءمة رؤية القطاعين العام والخاص بشأن تعزيز المدفوعات عبر الحدود، وتنسيق الرقابة والأطر التنظيمية، ومعالجة الثغرات الموجودة في البنية التحتية القائمة، وتحسين جودة البيانات وممارسات السوق، واستكشاف دور البنية التحتية الجديدة للدفع في تطوير خيارات الترابط وتمكين المدفوعات الفعَّالة عبر العملات. وبذلك تُعد العملات الرقمية للبنوك المركزية أحد محاور اهتمام مجال التركيز الخامس.
في أكتوبر 2021، دخلت إيطاليا (رئيس مجموعة العشرين وقتها) في شراكة مع بنك التسويات الدولية في مشروع (Nexus) لربط أنظمة الدفع الفوري المماثلة من أجل تحسين الشفافية وتقليل تكاليف المعاملات، وعلاوة على ذلك، أكد إجنازيو فيسكو، محافظ بنك إيطاليا المركزي، أن العملات العالمية المستقرة والعملات الرقمية للبنوك المركزية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً ومتكاملتان في كثير من الأحيان.
وخلال الرئاسة الإندونيسية لمجموعة العشرين في 2022، تم إدراج العملات الرقمية للبنوك المركزية كأولوية ضمن جدول الأعمال في إطار المسار المالي. لذلك، رحب قادة المجموعة بمخرجات مبادرة (G20 TechSprint 2022) بالتعاون مع بنك التسويات الدولية في هونغ كونغ (BISIH)، والتي ركزت على تطوير حلول ذات جدوى لمختلف جوانب الشمول المالي وقابلية التشغيل البيني، كما قدم بنك التسويات الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقريراً مشتركاً إلى مجموعة العشرين حول "خيارات الوصول وإمكانية التشغيل البيني للعملات الرقمية للبنوك المركزية للمدفوعات عبر الحدود" في يوليو 2022.
تحديات أساسية:
أحد أهم التحديات التي تواجه أنظمة الدفع العابرة للحدود والعملات الرقمية هو اختلاف نهج الدول ودوافعها في اتخاذ قرارات السياسة النقدية لديها؛ مما يؤدي إلى عرقلة التنسيق بين هذه الدول. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي مساعي الصين لتعزيز مكانتها فيما يتعلق بتداول العملات الرقمية عبر الحدود إلى فقدان الولايات المتحدة نفوذها الرائد على البنية التحتية للمدفوعات العالمية. فعلى سبيل المثال، أقرت ورقة العمل الصادرة عن صندوق النقد الدولي في مارس 2022، بأن هناك تحولاً في الاستثمارات العالمية من الدولار الأمريكي نحو اليوان الصيني الرقمي.
بناءً عليه، ترى الورقة البحثية أنه على الولايات المتحدة إعادة النظر في الاستثمارات في العملات الرقمية للبنوك المركزية، من أجل الحفاظ على الهيمنة العالمية للدولار. وفي سياق متصل، قد تستخدم بعض الدول العملات الرقمية للتحايل على العقوبات الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، أعلنت روسيا عن خطط للتجارة مع الصين باستخدام الروبل الرقمي بحلول عام 2023، للالتفاف على حظرها من قبل نظام (SWIFT).
على جانب آخر، تُعد البنية التحتية السليمة للدفع عبر الحدود أمراً بالغ الأهمية للتجارة الدولية والأنشطة الاقتصادية، لكن هناك تحديات أمام ذلك أهمها: التكاليف المرتفعة، ومحدودية الوصول، والسرعة المنخفضة والهياكل الغامضة. ومن أجل معالجة هذه التحديات، لا بد من التعاون بين القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص للاستثمار في البنية التحتية في مجال التكنولوجيا المالية، ولاسيما فيما يتعلق بالعملات الرقمية للبنوك المركزية. في هذا السياق، تعمل المؤسسات الدولية مثل بنك التسويات الدولية وصندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي، كجهات فاعلة رئيسية في المناقشة الجارية حول الأمر، كما تشارك مؤسسات القطاع الخاص بشكل وثيق في إنتاج واقتراح الحلول وتبادل الخبرات والتجريب المشترك.
دوافع القيادة الهندية:
منذ عام 2015، تعمل الهند على تعزيز مبادراتها الخاصة بالحوكمة الإلكترونية من خلال غرس قابلية التشغيل البيني في إطار عمل يتكون من ثلاث طبقات أساسية: المؤسساتية (مواءمة العملية بين المؤسسات المتعددة) المعلوماتية (دعم تبادل المعلومات بين الكيانات بطريقة هادفة) والتقنية (دعم تبادل البيانات). بناءً عليه، تؤكد الهند قدرتها توجيه المبادرة في مواءمة اقتصادات مجموعة العشرين مع التشغيل البيني في العملات الرقمية للبنوك المركزية بدعم تقني من المؤسسات الدولية. في هذا السياق، تتضمن دوافع الهند لقيادة هذه الجهود النقاط التالية:
- السيادة النقدية: في مايو 2022، أعرب مسؤولون في البنك المركزي الهندي عن مخاوفهم من "دولرة" الاقتصاد الهندي وحذروا من أن انتشار "الدولرة" من خلال العملات المشفرة سيؤثر سلباً في المصالح السيادية للهند ويهدد استقرار النظام المالي. هذا بالإضافة إلى أن "الروبية الرقمية" الهندية ستؤدي بالضرورة إلى إبعاد المواطنين عن إغراء العملات المشفرة الخاصة، فعادة ما ينتج عن إطلاق عملات رقمية وطنية انخفاض أنشطة التشفير.
- التجارة الدولية بالروبية: أسهمت السياسة الروسية لمواجهة عقوبات نظام (SWIFT) في إحياء اقتراح الهند بالتداول بالروبية الهندية. وهنا ترى الورقة البحثية أن التداول بالعملة المحلية للهند سيجعل التجارة أسهل وسيحمي احتياطيات النقد الأجنبي وسيولد طلباً أكبر على الروبية. وفي هذا الإطار، تبحث الهند حالياً الدخول في اتفاقيات مثل ميثاق الروبية والروبل مع دول جنوب آسيا، ومن شأن هذه الاتفاقيات دفع مجتمع التجارة العالمي إلى الاهتمام بالروبية وكذلك تيسير التجارة مع تلك الدول.
- زيادة التحويلات: سجلت التحويلات إلى الهند رقماً قياسياً جديداً في عام 2022، حيث وصلت إلى 8.183 تريليون روبية هندية مقارنة بـ7.3 تريليون روبية هندية في عام 2021. تأتي التحويلات في الغالب من الهنود المقيمين في دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. الجدير بالذكر، أن تكلفة إرسال التحويلات انخفضت في العقد الماضي إلى 6.3% أي أن أكثر من 3 تريليونات روبية هندية تم تحويلها من المتلقين الفعليين، بما في ذلك الأسر ذات الدخل المنخفض.
- استكمال واجهة المدفوعات الموحدة (UPI) في المدفوعات الدولية: تساعد واجهة المدفوعات الموحدة في تحويل النقود بسهولة بين الحسابات المصرفية أو المحافظ الرقمية، كما تساعد البنوك المركزية الرقمية في المعاملات بين الكيانات الخاصة والشركات والأفراد. والجدير بالذكر أن واجهة المدفوعات الموحدة هي نظام دفع وليست كالعملات الرقمية للبنوك المركزية (نظام عملة رقمية). ومنذ يوليو 2021، وسعت شركة المدفوعات الوطنية في الهند (NPCI) استخدام هذا النظام إلى عشر دول من خلال السماح لمنصة واجهة المدفوعات الموحدة بإدخال أصحاب الحسابات غير المقيمين. ويمكن أن تساعد ترتيبات العملات الرقمية للبنوك المركزية للبيع بالتجزئة في تطوير المدفوعات عبر الحدود وتكمل التقدم الذي أحرزته (NPCI).
تختتم الباحثة الورقة بأنه من الصعب أن تصل الدول إلى نهج واحد يناسب الجميع فيما يتعلق بالعملات الرقمية للبنوك المركزية، لكن في المقابل يجب بناء نهج قائم على مبادئ التصميم بشأن تطوير واستخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية. والهدف من ذلك هو تجنب المزيد من التجزئة في البنية التحتية الدولية للمدفوعات. وتضيف الباحثة، أنه في ظل رئاسة الهند لمجموعة العشرين، يُمكن تكليف مؤسسات مثل: بنك التسويات الدولية (BIS)، وصندوق النقد الدولي (IMF)، ومجلس الاستقرار المالي (FSB) لعمل أبحاث هادفة لتقييم كفاءة وفعالية اعتماد نهج قائم على المبادئ.
المصدر:
Antara Vats, Beyond the Hype: Developing Interoperability Standards for Digital Currency at the G20, ORF, 2023.