أخبار المركز
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (أزمات "يون سوك يول": منعطف جديد أمام التحالف الاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة)
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)

هسبريس:

السيادة الرقمية تحوّل "معايير الإنترنت" إلى ساحة صراع أمريكي ـ صيني

16 سبتمبر، 2022


تشكل القواعد والمعايير المتفق عليها حول الإنترنت في دول العالم ضرورة من أجل تمكين الأجهزة الإلكترونية من التفاعل مع بعضها البعض، وتسهيل تبادل المعلومات، وضمان سلاسة التجارة الرقمية والاتصالات، وشفافية وأمان تطبيقات التقنيات، إلا أن هناك تبايناً في وجهات النظر بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين حول المسؤول عن وضع وإدارة هذه المعايير، الأمر الذي قد يؤثر على الأمن العالمي والتجاري، واعتبارات حقوق الإنسان.

لذلك، تناقش ورقة “الجغرافيا السياسية للمعايير الرقمية” للباحثين صوفي أندرسن وليندسي تيميس، الصادرة عن مركز بيلفر للشؤون الدولية في يوليو 2022، ماهية هذه المعايير ومن يحددها ويطورها؟، ثم تقارن بين نهج وضع وتطوير المعايير لكلٍ من الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، وفي الأخير، تطرح توصيات إلى الإدارة الأمريكية من أجل منافسة النهج الصيني، والحفاظ على المعايير الرقمية بما يتماشى مع القيم الديمقراطية وحرية التعبير.

ماهية المعايير

تشير الورقة إلى أن هناك ثلاثة أنواع من المعايير المنظمة للإنترنت، أولها مجموعة من القواعد والمعايير الهادفة إلى “التحكم في الإنترنت”، من خلال تدشين وتطوير البنية التحتية التي تمد الإنترنت بالطاقة من أجل دعم الاتصال بين الأجهزة (بما في ذلك الكابلات النحاسية والألياف الضوئية) والبرامج، ومن أكثر تلك المعايير شيوعاً هو (TCP/IP) والذي يجمع بين بروتوكول الإنترنت (IP) وبروتوكول التحكم بالنقل (TCP)، حيث يعمل على التحكم في كيفية تقسيم البيانات إلى حزم، والتي يتم توجيهها عبر شبكة، ثم إعادة تكوينها بحيث يمكن قراءتها للمستخدم المستلم.

أما النوع الثاني فهو مجموعة من المعايير الفنية التي تحكم شبكة الويب العالمية لضمان إمكانية الوصول إلى المحتوى عبر الأجهزة الموجودة على الشبكة، وتتضمن هذه المعايير لغات البرمجة شائعة الاستخدام مثل، لغة ترميز النص الفائق (HTML) ولغة توصيف النص القابلة للتوسعة (XML)، ويشمل النوع الثالث والأخير معايير الهاتف مثل G5، والتي تتعلق بتطوير شبكات الاتصالات المتنقلة وتكاملها مع مشغلي شبكات الهاتف المحمول.

غالباً ما يتم وضع معايير الإنترنت والهاتف من قِبَل تجمعات مثل، اتحاد شبكة الويب العالمية (W3C)، والمنظمة الدولية للتوحيد القياسي (ISO)، والاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، وهو هيئة متعددة الجنسيات تابعة للأمم المتحدة مكلفة بوضع المعايير التقنية لضمان سلاسة التوصيل بين الشبكات والتكنولوجيا، ويضم ثلاثة قطاعات: قطاع بناء مقاييس الاتصالات (ITU-T)، وقطاع اتصالات الراديو (ITU-R)، وقطاع تنمية الاتصالات (ITU-D).

في هذا السياق، تعد المعايير الرقمية معايير مقبولة وقائمة على الإجماع، فهي بمنزلة أداة تنظيمية للإنترنت في الولايات المتحدة والدول الأخرى، لاسيما أن بعض هذه المعايير إلزامية، لكن في المقابل، ليس هناك آلية رسمية لتطبيق تلك المعايير حول العالم، حيث يتم وضع المعايير الرقمية من قبل مجموعة من منظمات تطوير المعايير (SDO)، والتي تتكون من دول أو من أصحاب المصلحة، كممثلي الصناعة والحكومة والمجتمع المدني والأكاديميين.

وتعد مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت (IETF) مثالاً على ذلك، فهي هيئة دولية رائدة تأسست عام 1986، وتضم عدداً من الباحثين والأكاديميين والمهندسين في مجال تطوير بنية شبكة الإنترنت، وبذلك تتبع هذه المجموعة نموذج أصحاب المصلحة، إذ تعمل على تطوير وتعزيز معايير الإنترنت الطوعية، مثل تلك التي تشكل TCP/IP، كما لعبت المجموعة دوراً أساسياً في تشكيل غالبية بروتوكولات الشبكات الرئيسية للإنترنت.

وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في المشاركة في مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت بنسبة حضور 51.64٪، يليها الاتحاد الأوروبي بنسبة 20.10٪، والصين بـ 6.64٪، كما يساهم خمسة مهندسين أمريكيين بأكبر عدد من المقترحات بنسبة 69.86٪، تليها الصين بـ16.71٪، ويفترض بعض المتخصصين أن المقترحات الأمريكية أكثر سلامة من الناحية الفنية، لذلك تحظى بقبول أكبر في المجموعة، في المقابل، ينتقد آخرين هذا الافتراض ويصفونه بالاستخدام الفوضوي للمصالح السياسية والتجارية.

نهج متباين:

بشكلٍ عام، تتبنى الولايات المتحدة نهجاً لا مركزياً يُشجع جميع القطاعات على المشاركة في وضع المعايير، علاوةً على تثقيف الجمهور بأهمية هذه المعايير، فعلى سبيل المثال، يتألف المعهد الوطني الأمريكي للمعايير (ANSI)، المتخصص في إصدار معايير لغات البرمجة، من مجموعة من الشركات والجمعيات الصناعية، هذا بالإضافة إلى تأكيد استراتيجية معايير الولايات المتحدة السنوية، دائماً على أهمية “الإجماع والانفتاح والشفافية” في نهج التوحيد القياسي.

أما الاتحاد الأوروبي فقد أعلن في فبراير 2022 استراتيجية معايير جديدة تعطي الأولوية لسوق رقمية موحدة للاتحاد الأوروبي، بحيث تضمن تطوير خدمات مستقبلية تعزز القيم الديمقراطية، وعلى عكس النهج الأمريكي الذي يقوده القطاع الخاص، حافظ الاتحاد الأوروبي على الشراكة بين القطاعين العام والخاص (من شركات خاصة ومنظمات غير ربحية والمفوضية الأوروبية)، وتمنح تلك المفوضية للدول الأعضاء ترخيص بإنشاء هيئة معايير واحدة فقط داخل كل دولة، على أن يتم إبطال المعايير الوطنية التي تتعارض مع المعايير الأوروبية، مع ذلك، تعتبر هذه المعايير غير إلزامية، كون السوق هو من يحدد التطبيق النهائي.

في الصين، تستند الاستراتيجية الرقمية على مفهوم “السيادة الإلكترونية”، أي حق الحكومة في السيطرة على الإنترنت داخل حدود الدولة، ومن أجل ذلك، استثمرت الصين بكثافة في المعايير الرقمية على مدى العقد الماضي من أجل تعزيز المشاركة الموجهة من الدولة في وضع المعايير، في هذا الإطار، تدعو وثيقة استراتيجية المعايير الصينية 2035 إلى مواءمة المعايير بين الدول المشاركة في استراتيجية التنمية الإقليمية الصينية “مبادرة طريق الحرير”، مع تعزيز الحوار بشأن المعايير بين دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وترى الورقة البحثية أن التوافق الذي تدعو له الصين عبر المبادرات الإقليمية قد يؤدي إلى جعل التكنولوجيا الصينية هي المعيار الفعلي في دول طريق الحرير وغيرها من دول الجوار الصيني.

وتدعو معايير الصين 2035 أيضاً إلى دور أكبر للصناعة الصينية في دعم تطوير المعايير التي تقودها الدولة، وعليه، يتم إجبار أو تحفيز الشركات الصينية لدعم المقترحات الصينية في الهيئات التي تقودها الصناعة، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في المشاركة الصينية في الأنشطة الدولية ووضع المعايير، ففي الداخل، أصدرت الصين أكثر من 300 من المعايير الوطنية المتعلقة بالأمن السيبراني، وفي الخارج، يُلاحظ تزايد المناصب القيادية الصينية في الهيئات، كالاتحاد الدولي للاتصالات، حيث تتمتع الصين فيه بنفوذ سياسي أكبر من هيئات المعايير الدولية الأخرى مثل، مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت.

الإنترنت البديل:

يعد الإنفاق على معايير البنية التحتية للإنترنت عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية الرقمية للصين، فعلى سبيل المثال، تعمل هواوي Huawei وأصحاب المصلحة الصينيون الآخرون على توحيد بروتوكول الإنترنت البديل، والمعروف باسم IP الجديد، وجدير بالذكر أن التفاصيل حول كيفية عمل بروتوكول بديل للإنترنت لاتزال غير معلنة، مع ذلك يُفترض أن البروتوكول الجديد سيقوم على استبدال النموذج الحالي للإنترنت بنهج جديد، حيث تنشئ كل دولة نسختها الخاصة من الإنترنت الخاضعة للحكومة بضوابط محددة والتي تتطلب من الأفراد التسجيل لاستخدام الإنترنت، بناءً عليه، تعد عملية استبدال جميع البنى التحتية القائمة على (IP) أو تشغيلها بالتوازي مع (IP) الجديد عملية مكلفة كما أنها ستستغرق وقتاً.

وأثارت مسألة قدرة بروتوكول الإنترنت الجديد على توطيد سيطرة الدولة على الإنترنت مخاوف الولايات المتحدة وأنصار نموذج الإنترنت اللامركزي من انتهاك خصوصية المستخدمين، حيث تنظر الصين وغيرها من أصحاب المصلحة، مثل روسيا وإيران إلى البنية التحتية الحالية للإنترنت على أنها غير قانونية.

دوافع تنافسية:

يُرجع البعض الاهتمام الحالي بالمعايير التقنية من قبل الإدارة الأمريكية إلى زيادة مشاركة الصين في هيئات المعايير على مدى العقد الماضي، وهذا ليس مفاجئاً نظراً لدور الصين كلاعب جاد في تطوير التقنيات الناشئة وقوتها السوقية الكبيرة، وتكمن المشكلة – وفقاً للورقة – في أن نموذج الصين المتعلق بسيطرة الدولة على وضع المعايير الرقمية يتناقض بشكلٍ واضح مع النماذج التقليدية التي يقودها السوق وتتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هذا بالإضافة إلى أن النهج الحالي للولايات المتحدة ليس قوياً بما يكفي لمواجهة انتشار النهج الصيني الرقمي الذي قد يُعرِّض الطبيعة المفتوحة القائمة للإنترنت للخطر، بحسب الورقة.

في ضوء ذلك، يستعرض كل من صوفي أندرسن وليندسي تيميس بعض التوصيات الموجهة للحكومة الأمريكية لبناء استراتيجية دقيقة للحفاظ على المعايير الرقمية، بما يتماشى مع القيم الديمقراطية، من أبرزها:

1) أن تضع الإدارة الأمريكية في الاعتبار مخاوف أصحاب المصلحة في القطاع الخاص حول المعايير التقنية، مع الاحتفاظ بمقعد في الاتحاد الدولي للاتصالات جنباً إلى جنب مع الحفاظ على إشراف أصحاب المصلحة على معايير مستوى البنية التحتية من خلال هيئات مثل مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت، أضف لذلك، من المهم زيادة المعرفة التقنية داخل مجتمع صنع السياسات لتمييز المعايير وترتيبها حسب الأولوية عبر مكونات الإنترنت (البنية التحتية والبروتوكولات والتطبيقات).

2) زيادة مشاركة القطاعين العام والخاص في هيئات معايير من أجل مواجهة دور الصين كقائد ومنافس في التكنولوجيا، فعلى الولايات المتحدة تعزيز مشاركتها في هيئات ومنظمات معايير أصحاب المصلحة، بالإضافة إلى دعم العمليات التي تقودها الصناعة في تطوير المعايير المناسبة، ولابد أيضاً من تبني بعض الاستراتيجيات كزيادة التمويل فيما يتعلق بتدريب المهندسين الجدد وتقديم رواتب للمشاركين في المنظمات التطوعية، مثل مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت، وأيضاً تسهيل فرص البحث المشتركة للطلاب من الدول الممثلة تمثيلاً ناقصاً في مؤسسات المعايير.

3) سد ثغرات البيانات من خلال الشراكة مع منظمات وضع المعايير، والصناعة، والحكومات الأخرى، إذ يمكن للولايات المتحدة أن تقود الجهود لبناء قاعدة بيانات تتضمن المعلومات المتعلقة بالمعايير التي يتم اقتراحها وتمريرها واعتمادها وتنفيذها عبر مجالات التكنولوجيا الاستراتيجية، ويساعد سد فجوة البيانات صانعي السياسات على فهم المعايير الفنية التي تقترحها الصين وقد تشكل خطراً على المصالح الأمريكية من خلال انتشارها في الأسواق العالمية.

4) يجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة القيام بدور استباقي في دعم انتشار المعايير الرقمية عالية الجودة من خلال نموذج أصحاب المصلحة مع البقاء على دراية بآفاق التغييرات التي من المحتمل أن تتحقق، فمن ناحية التطبيقات، لابد من التركيز على الاستراتيجية طويلة المدى القائمة على تطوير التقنيات، وعلى مستوى البنية التحتية، يمكن للولايات المتحدة تمكين المشاركة في منظمات وضع المعايير لأصحاب المصلحة من أجل تطوير إنترنت مجاني ومفتوح وديمقراطي، بالإضافة إلى تقليل الحواجز أمام دخول المجتمع المدني والشركات الخاصة الأصغر.

*لينك المقال في هسبريس*