أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

درس فاغنر:

كيف يُعزز الفيلق الإفريقي نفوذ روسيا في القارة السمراء؟

27 مايو، 2024


تعمل روسيا على الحفاظ على إرث إنجازات مجموعة فاغنر شبه العسكرية وما حققته من اختراق في العديد من دول القارة الإفريقية، وتحديداً مع نجاح موجة الانقلابات العسكرية السابقة في دول الساحل الإفريقي، ووصول نخب عسكرية صديقة لموسكو؛ مما يُعطى الأخيرة مزايا استراتيجية مثل الحصول على قواعد عسكرية ومحطات استخبارات لدعم نفوذها ومصالحها المتعددة هناك.

وفي مقابل هذه الفرص والمكاسب، من المتوقع تصاعد احتمالات الاحتكاك بين روسيا والعديد من القوى الغربية وخاصةً فرنسا التي خسرت جزءاً كبيراً من مواقعها ونفوذها التقليدي في منطقة الساحل، وكرد فعل تفكر باريس في الضغط المضاد في الساحة الأوكرانية بإرسال قوات فرنسية هناك، هذا بالإضافة إلى توقع الاحتكاك مع الولايات المتحدة كالوضع الراهن في القاعدة العسكرية 101 في النيجر.                                                   

إعادة هيكلة واسعة:

بعد وفاة قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، في أغسطس 2023، عقب عملية تمرد ضد الكرملين، جرت عملية إعادة هيكلة للمجموعة بتشكيل الفيلق الإفريقي الجديد، ليكون ذا مرجعية عسكرية ويتبع بشكل مباشر لوزارة الدفاع الروسية تحت إشراف نائب وزير الدفاع، يونس بك يفكوروف. وتتوزع قوات الفيلق في خمس دول إفريقية هي: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وليبيا المركز الرئيسي للفيلق، والتي يأتي اختيارها لتحقيق أهداف جيوسياسية في المقام الأول؛ إذ تُسهل على سبيل المثال خطوط الإمداد اللوجستية لمناطق الانتشار الروسي في إفريقيا. ويُشكل مقاتلو فاغنر السابقون العمود الفقري لأفراد الفيلق الإفريقي، ويشغلون مناصب قيادية، ويتمتعون بمزايا وأولوية أثناء عملية التجنيد. 

وفي يناير 2024 تم نشر 100 عسكري في بوركينا فاسو لحماية الرئيس المؤقت، إبراهيم تراوري، من محاولات الاغتيال، وسينضم إلى الوحدات 200 آخرون. ووصلت قوات من الفيلق الإفريقي إلى النيجر في 12 إبريل 2024. كما نشرت قناة "روسيتش"، المحسوبة على فاغنر، على "تليغرام" في 17 إبريل 2024، عدة صور ومقاطع فيديو تظهر شحنة من المركبات والأسلحة تابعة للفيلق الإفريقي، وتم تسليم المعدات بواسطة السفينتين إيفان غرين وألكسندر أوتراكوفسكي إلى ميناء طبرق في ليبيا.

أهداف متنوعة:

جاء تشكيل الفيلق الإفريقي الجديد لتوسيع نفوذ روسيا في القارة الإفريقية وتحقيق مجموعة متنوعة من الأهداف، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- انتقائية التجنيد والتوظيف: سبقت تشكيل الفيلق الإفريقي حملة تجنيد واسعة، أُجريت عبر شبكات التواصل الاجتماعي في المقام الأول عبر موقع فكونتاكتي، وقنوات تليغرام المختلفة المرتبطة بالجيش الروسي أو الشركات العسكرية الخاصة. وركزت حملة التوظيف بشكل كبير على المتخصصين، فعلى سبيل المثال، نشرت قناة الفيلق الإفريقي على تليغرام إعلاناً لتجنيد مجموعة واسعة من المهنيين العسكريين في قطاعات المدفعية، ومشغلي الطائرات من دون طيار، والمتخصصين في الحرب الإلكترونية، وقوات الهجوم، وذوي الخبرة القتالية في الدبابات، ومشغلي محطات الرادار "P-18". ويقدم القائمون على التجنيد للمرشحين المحتملين عقداً مدته ستة أشهر، وراتباً قدره 240 ألف روبل (أكثر من 3330 دولاراً)، وتأميناً على الحياة. وخفض الكرملين عملية التعبئة الأولى للتجنيد التي كان يستهدف بها 40 ألف جندي إلى النصف في أعقاب دمج عمليات مجموعة فاغنر في أغسطس 2023، إلى 20 ألفاً فقط بحلول نهاية عام 2023. 

2- تأمين المصالح الروسية ومناهضة الوجود الغربي في إفريقيا: يهدف الفيلق الإفريقي إلى مناهضة الوجود الغربي، والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الموارد والأصول في الساحة الإفريقية. على سبيل المثال، تشير تقديرات دولية إلى أن موسكو استحوذت على عدد كبير من مناجم الذهب في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى من خلال مجموعة فاغنر في السنوات الماضية وبالتالي ستُحال هذه الأصول إلى الفيلق الإفريقي، الذي بدأت قواته بالفعل في تأمين السيطرة على مناجم الذهب، على نحو ما فعلت في منجم إنتاهاكا (Intahaka) شمال مالي الذي تمت السيطرة عليه بالتعاون مع الجيش في فبراير 2024، مع الأخذ في الاعتبار انتشار العديد من المناجم غير القانونية صغيرة الحجم في تلك المنطقة، والتي غالباً ما تفتقر إلى الرقابة. وقد لا يكون الذهب المورد الوحيد الذي يستهدفه الفيلق الإفريقي في مالي، فهناك تقارير تربط ما بين الهجوم العسكري بدعم روسي على مدينة كيدال والوجود المحتمل لاحتياطيات كبيرة من اليورانيوم في الشمال الشرقي. وفي أكتوبر 2023، التقى ممثلون عن شركة "روساتوم" النووية مسؤولين في مالي؛ لمناقشة تطوير البنية التحتية النووية والطاقة في البلاد، وتقديم الدعم لمرافق البحث المحلية وتدريب الموظفين.                

3- توفير خدمات الأمن والتدريب للحكومات الإفريقية: يقدم الرئيس الروسي، بوتين، نفسه من خلال الفيلق الإفريقي كحليف أمني وحامٍ للنظم في دول الساحل الإفريقي، وتحديداً تحالف دول الساحل الإفريقي (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو)، وإفريقيا الوسطى، وليبيا، مع حاجة هذه الدول للمساعدة الأمنية في ظل انسحاب قوات مكافحة الإرهاب، وتراجع مستويات الدعم العسكري الغربي والفرنسي، والضغوط والتحديات الأمنية غير المسبوقة الناتجة عن حالات عدم الاستقرار السياسي، وتنامي نشاط الإرهاب، وتفاقم حدة الصراعات المسلحة والحروب الأهلية في هذه المنطقة.                                                                

4- تفادي تكرار تمرد فاغنر: يهدف الانتقال من الاستقلال النسبي لمجموعة فاغنر إلى الإشراف المباشر من الكرملين على الفيلق الإفريقي، إضافة إلى امتلاك أداة عسكرية أكثر انضباطاً من خلال تقنين نشاطها؛ إلى تجنب حدوث تمرد داخلي من قِبل نجل قائد فاغنر، بافيل بريغوجين، الذي سيطر في البداية على الآلاف من مرتزقة فاغنر بعد وفاة والده، ومن غير الواضح إلى أي مدى لا يزال منخرطاً في قيادة مجموعة أصغر من المقاتلين الذين ما زالوا أوفياء لذكرى والده، ووفق تقارير من المرجح أن يكون مسؤولاً عن بعض القوات في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي. وبالتالي من المتصور أن هناك اتفاقاً جديداً من جانب الكرملين أو الاستخبارات العسكرية الروسية مع بافيل، لعدم تكرار ما فعله والده، وفي الوقت ذاته عدم سيطرة الأخير على المجموعة بالكامل.  

5- تبييض صفحة العمليات الأمنية الروسية في إفريقيا: كثيراً ما أشارت تقارير دولية، بغض النظر عن مدى صحة ذلك من عدمه، إلى تورط فاغنر في ارتكاب انتهاكات هائلة في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، من أعمال قتل، وهجمات على المدنيين، وأعمال نهب، وإعدام جماعي. وبحسب تقارير فرنسية، تورطت المجموعة الروسية جنباً إلى جنب مع الجيش المالي في قتل عدد كبير من المدنيين في سياق عمليات مكافحة الإرهاب خلال مذبحة "مورا" بوسط مالي في مارس 2021؛ ومن ثم يحاول الفيلق الروسي الجديد تحسين سمعة موسكو ورسم صورة جديدة لدورها في إفريقيا. 

فرص وقيود:  

ثمة مجموعة من الارتدادات والانعكاسات الممتدة لوجود قوات الفيلق الإفريقي، يمكن توضيح أبرزها كما يلي:

1- تسهيل ربط الشبكات اللوجستية للقوات الروسية: سيعزز وجود قوات الفيلق الإفريقي في النيجر سد الفجوة الجوية بين مواقعها في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. ومن شأن استيلاء الفيلق الإفريقي على القاعدة الأمريكية في أغاديز أن يضع القاعدة الروسية على بعد 1100 ميل أو أقل من القواعد الجوية التي تسيطر عليها روسيا في ليبيا مثل قاعدة الجفرة التي تُعد بمثابة محطة توقف قبل التوجه جنوباً إلى الدول الإفريقية، وعلى بعد ما يزيد قليلاً عن نفس المسافة من القواعد الروسية الرئيسية في عاصمة مالي إلى الغرب وعاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب الشرقي. 

2- تهديد أمن حلف "الناتو" من ناحية الجنوب: زار نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكوروف، ليبيا في ديسمبر 2023؛ لتعزيز أجندة الفيلق الإفريقي ومناقشة استخدام مدينة طبرق الساحلية شرق ليبيا كقاعدة للسفن البحرية الروسية. وقال الرئيس السابق للقوات المسلحة الإيطالية، فينشينزو كامبوريني، في فبراير 2024، إن روسيا يمكنها أيضاً تسيير غواصات نووية هناك، مثلما أرسل الاتحاد السوفيتي السابق صواريخه إلى كوبا عام 1962، وقد يؤدي هذا السيناريو إلى تقويض البنية الأمنية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، وقد تستخدم موسكو موانئ سرت ورأس لانوف كقاعدة بحرية لتوسيع نفوذها في المنطقة.  

3- امتلاك موسكو أدوات ضغط على الأمن الأوروبي: سيترتب على تنامي النفوذ الروسي والوجود العسكري في النيجر، قدرة موسكو على التحكم في المزيد من أدوات التهديد تجاه أوروبا. فمن شأن حصول روسيا على رواسب اليورانيوم في النيجر مقابل الدعم العسكري، زيادة حصتها في سوق الطاقة النووية؛ إذ تُعد النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم. ومن المُرجح أيضاً أن تستخدم موسكو مواقعها في شمال النيجر لاستغلال طرق تهريب المهاجرين عبر الصحراء لزيادة تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، في ظل تحذير وكالة حرس الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي والعديد من المسؤولين الأوروبيين من أن روسيا تحاول إثارة تدفقات أكبر للاجئين من إفريقيا لزعزعة استقرار أوروبا، والتأثير في الانتخابات، وتقويض الدعم العسكري لأوكرانيا. وأشارت الوكالة إلى أن 380 ألف مهاجر حاولوا العبور إلى أوروبا من ليبيا عام 2023، وهو أكبر عدد من المهاجرين بشكل غير شرعي منذ 2016، وإن كان لا يُعتقد أن روسيا بإمكانها السيطرة على كل هذه العمليات، لكن التقارير الأوروبية تحاول تحميل موسكو مسؤولية المهددات كافة في الساحة الإفريقية تقريباً.

4- الاحتكاك بين قوات الفيلق الإفريقي و"أفريكوم": من المُحتمل حدوث احتكاكات بين القوات الروسية والأمريكية في النيجر، فقد أفادت تقارير ميدانية مؤخراً بأن قوات الفيلق الإفريقي دخلت مناطق القوات الأمريكية في النيجر. وعلى الرغم من أنه لم يحدث اختلاط أو اشتباك بين القوتين الروسية والأمريكية، وأن كلاً منهما يستخدم منطقة منفصلة في القاعدة الجوية 101، المجاورة لمطار ديوري هاماني الدولي في العاصمة نيامي؛ فإن من شأن هذه الخطوة أن تضع القوات الأمريكية والروسية على مقربة من بعضها، والمُحتمل في هذه الحالة؛ إما أن تحدث عملية إزاحة لأي من القوتين في القاعدة، أو توقع السيناريو الأسوأ حال بقيتا كجارتين.

5- توظيف روسيا التوترات الإقليمية: تتنافس الجزائر والمغرب للنفاذ إلى منطقة الساحل الإفريقي من خلال تقديم كليهما مجموعة من المبادرات التنموية في مجالات التجارة والبنية التحتية العابرة للحدود، ويحاول المغرب استغلال تراجع نفوذ الجزائر في هذه المنطقة بعد التوترات الأخيرة مع مالي وانهيار اتفاق الجزائر للسلام في شمال مالي. ومن هذا المُنطلق، قد تعمل موسكو على تحسين علاقات تحالف دول الساحل مع الجزائر التي تتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو من أجل خدمة مصالحها الحيوية من خلال الاستفادة من الموانئ الجزائرية مروراً بدول الساحل للوصول إلى القاعدة العسكرية الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى.      

مرحلة جديدة:

إن محصلة ما سبق تشير إلى أن وجود الفيلق الإفريقي يُعد كشفاً لأوراق روسيا بشكل علني بعد فترة من نشاط فاغنر غير الرسمي، ويُمثل هذا التحول مرحلة جديدة في استراتيجيتها الأمنية في إفريقيا، وتحول مركز ثقل العمليات الروسية من جمهورية إفريقيا الوسطى إلى منطقة الساحل وليبيا.

لكن تُواجه قوات الفيلق الإفريقي معضلة استراتيجية في إعادة توظيف فاغنر لتحقيق أجندتها الخاصة دون تقويض عوامل فعاليتها وانتشارها؛ مما يزيد الأمور تعقيداً، ولاسيما في ظل حقيقة أن التعاون مع الجيش الليبي - على سبيل المثال - يظل متعارضاً مع الجهود المبذولة للحفاظ على العلاقات مع الحكومة الليبية في طرابلس وتحديداً لعمل الشركات الروسية في مجالات النفط والطاقة.     

وربما يتمكن الفيلق الإفريقي من تحقيق اختراق مرحلي من خلال الوجود في العديد من دول الساحل، لكن لا يعني ذلك بالضرورة كسب معركة البقاء والاستقرار هناك مقابل الوجود الأمريكي بشكل حاسم. فالمرحلة لا تزال تشهد سيولة عالية من التقلبات في المنطقة، ولا يُعتقد أن واشنطن سوف تستسلم بسهولة قبل أن تحصل على البدائل المناسبة أو إبرام صفقة لا تبعدها كثيراً عن الميدان.