العالم احتار كثيراً في الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووصلت الحيرة التضارب بين رأي وآخر، والتأرجح بين المدح والقدح، والتحالف والخصومة.
مؤسسياً، الولايات المتحدة عضو في حلف الأطلنطي، ولكنه من آن إلى آخر فإن ترمب يلسع الحلف بكلمات يطالب فيها لا بالمشاركة في تكلفة التحالف، وإنما بأن يدفع الحلفاء تكلفة مباشرة للولايات المتحدة لم يقدّرها أحد ولم يضع يده عليها. الأمر ذاته جرى مع الاتحاد الأوروبي، الذي كان الابن الشرعي لمشروع «مارشال» الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية من أجل إنعاش أوروبا بعد الحرب، وطوّرته الحيوية الأوروبية لكي يكون أكبر عملية هندسية للعلاقات الدولية عرفها التاريخ بحيث لا يمنع الحرب بين أعضائه فقط، وإنما يعدهم لدور عالمي يجعل الغرب كله مهيمناً ومسيطراً وقائداً لكوكب الأرض. ترمب لم يترك فرصة إلا وانتهزها لتقويض الاتحاد، وكان واقفاً وراء اليمين البريطاني الذي صمم على «بريكست» حتى نالها في الاستفتاء، ومؤخراً خلق نسخة أخرى من ترمب في شكل بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني. باختصار، لم ينجُ تحالف مستقر وطويل بين أميركا واليابان، أو بينها وبين كوريا الجنوبية، أو حتى أستراليا، إلا ووجد شكلاً من أشكال الانتقاد معها، وعادة فجة وجارحة. ذيوع هذا الموقف وتكراره لم يعد يجعله إهانة حسب تعبير أحد الدبلوماسيين المقدرين بالخبرة والمعرفة، بات الأمر إحدى وقائع العلاقات الدولية التي باتت «العادة الجديدة أو المعتاد الجديد» أو «The New Normal» الذي على العالم أن يتعامل معه. الرئيس يفعل ذلك مع الخصوم، فهو يهدد كوريا الشمالية؛ ثم يعبر حدودها في المنطقة منزوعة السلاح بين كوريا الشمالية والجنوبية. ومؤخراً، وبعد تصريحات تهدد وجود إيران، أضاف إليها عقوبات على جواد ظريف وزير خارجية إيران، الذي ليست له حسابات ولا مِلكية في الولايات المتحدة، وبعدها مباشرةً فإنه يجنب إيران نتائج العقوبات الاقتصادية عليها للمرة الخامسة رغم رفض مستشاره للأمن القومي ووزير خارجيته لهذه الخطوة.
من الصعب أن يكون التاريخ قد تعرض للحيرة إزاء الرئيس الأميركي بهذا الحجم، ولا بد أن دول العالم المختلفة إما أنها لا تزال مصممة على أن الولايات المتحدة في الأول والآخر هي بلد مؤسسات، ومن ثم فإنها تهتدي في علاقاتها الأميركية بما يأتيها من مؤسسات الدفاع والمخابرات والأمن ولجان للعلاقات الخارجية في الكونغرس، وفي الحزب الجمهوري، ومراكز البحوث والدراسات الموالية لترمب من تصورات وتفسيرات؛ وإما أنها استسلمت لفكرة باتت ذائعة وهي انتظار خروج الرئيس الحالي في الانتخابات القادمة أو حتى مع كثير من الصبر إلى الانتخابات التالية لها. في كلتا الحالتين فإن ذلك لا يحل المعضلة التي تخص السياسة الخارجية للدول التي بفعل مصالحها الدولية أو الإقليمية عليها أن تواجه وقائع يومية لا يمكن تجاهلها وعليها أن تكون مطمئنة لموقف الولايات المتحدة إزاءها. ولكن الثابت في الأمر هو أن دونالد ترمب يبدو سعيداً بهذه الحالة من الحيرة؛ وهو مذهب في التعاملات الدولية خصوصاً في أوقات الأزمات يقوم على أن يجعل طرفاً أو الأطراف الأخرى يخمنون، وهي حالة فيها من الشك وعدم اليقين ما يعطي للطرف الفاعل فرصة أعلى عندما يقوم بعرض «الصفقة» التي تُخرج الجميع من الحيرة. والثابت أيضاً أن ترمب ربما يكون متأثراً باثنين من سابقيه في رئاسة الجمهورية أولهما كان ريتشارد نيكسون الذي بات الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة من يناير (كانون الثاني) 1969 إلى أغسطس (آب) 1974؛ وجاء إلى السلطة في خضم الحرب الفيتنامية وجعل في تصريحاته خلال الحملة الانتخابية احتمالاً لاستخدام السلاح النووي ضد فيتنام الشمالية؛ وفي نفس الوقت كان خطابه حاداً إزاء الصين والاتحاد السوفياتي. لم يمضِ وقت طويل له في البيت الأبيض إلا وكان قد سجل اختراقاً بزيارة الصين؛ وأعقبها بسياسة «الوفاق» مع الاتحاد السوفياتي، وخلق فرصة لإنهاء الحرب الفيتنامية. وثانيهما كان رونالد ريغان، الرئيس الأربعين للولايات المتحدة، الذي جعل من الإعلام والاتصال الذي سمي ملكاً له، سلاحاً للدولة لا يُشقُّ له غبار. كان هو الذي صك صفات «إمبراطوريات الشر» على الاتحاد السوفياتي حتى انهار، وانتهت الحرب الباردة.
نيكسون وريغان شكّلا عقلية ترمب، ولكنه أضاف إليها من قدراته الخاصة ما سوف يسجَّل له في التاريخ. الشائع منها تجربته الخاصة كرجل أعمال، ومقاول بصفة خاصة، والذي هو حرفياً يتعامل مع السياسة باعتبارها مجالاً للصفقات التي يكسب منها الجميع، أو هكذا يتصور حتى ولو كان هو الكاسب الوحيد. وإذا كان الرئيس روزفلت هو الذي صك عبارة «الصفقة الجديدة» لإخراج أميركا، وفي الحقيقة العالم أيضاً، من الكساد الرهيب الذي بدأ في عام 1929 وانتهى مع الحرب العالمية الثانية، فإن تعبير «الصفقة» لدى ترمب كان مختلفاً بعد أن بات جزءاً من لغته السياسية الذي يستخدمها في علاقاته الدولية.
استخدم الرئيس الأميركي تعبير «الصفقة» بتوسع، وبمعني اقتصادي مباشر، ومن ثم فإن «الغنى» و«الخروج من الفقر» والظروف الاقتصادية الصعبة بات مقايضاً لسلع استراتيجية وجيوسياسية يظنها أقل أهمية. الوعود المقدمة للصفقة مع كوريا الشمالية تبشّر بسعد ليس له مثيل، وكذلك الحال مع الإيرانيين، ومع الفلسطينيين بالطبع.
بالإضافة إلى «الصفقة» التي جاءت من ثقافة رجل الأعمال، فإن ترمب أضاف إلى «الإعلام» و«الاتصال» أكثر مما فعل وقدم ريغان بكثير. هذا الأخير استخدم الإعلام لكي يوطّد التحالفات ويحدد الحدود مع الخصوم، وكلاهما كان من النظام الدولي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، فالصديق هو حلف الأطلنطي، والعدو هو حلف وارسو، فالمعركة واقعة بين الغرب والشرق، وفي قول آخر أحياناً بين الغرب وبقية العالم. ترمب أولاً اعتبر الإعلام في شكل التشهير نوعاً من أسلحة التدمير الشامل التي استخدمها لتدمير 17 من خصومه في حملة الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري؛ ومن بعدهم جاء الدور على هيلاري كلينتون وحلفائها في الحزب الديمقراطي خصوصاً الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. الإعلام هنا هو نوع من المدفعية الثقيلة التي تحاول أولاً جذب أدوات الإعلام كلها للتركيز على ترمب على مدار الساعة الإعلامية، وفي الأخبار والبرامج كافة بحيث يشعر العالم والناخبون والحلفاء والخصوم أياً كانوا أن العالم يدور حول ترمب وما يقوله وما يفعله. هنا لا توجد سياسة تُرسم في مجالس الأمن القومي أو حجرات وزارة الخارجية والدفاع والمخابرات والأمن القومي؛ وإنما توجد في عقل الرئيس ولا أحد سواه.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط.