بينما تستعد الولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب عسكريًا من سوريا، ثمة توجه نحو إعادة تموضع قواتها في العراق. وربما لم يكن من المحتمل أن يفرض ذلك أزمة بين الدولتين، حيث تتواجد القوات الأمريكية في العراق منذ 16 عامًا، إلا أن المبرر الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهذا التوجه، وهو "مراقبة إيران"، دفع العلاقات بين واشنطن وبغداد إلى هذا المسار، لا سيما أن ذلك اقترن بعملية اختيار موقع في الأنبار ليلاءم عملية الحد من انطلاق إيران تجاه سوريا عبر الأراضي العراقية، على نحو وضع بغداد في مأزق بين حلفائها الأعداء.
وبخلاف العديد من السوابق التي شهدتها العراق خلال الأعوام الماضية، فإن المواجهة الحالية تبدو أكثر تعقيدًا، باعتبار أن الهدف الأساسي من التوجه الأمريكي، في رؤية بعض القوى العراقية، يكمن في استهداف إيران من داخل العراق.
وقد ساهمت الزيارة المفاجئة التي قام بها القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكى باتريك شاناهان إلى بغداد، في 12 فبراير 2019، في إثارة الجدل حول مستقبل الوجود الأمريكي في العراق وأهدافه. فعلى الرغم من الجهود التي تبذل لاحتواء الأزمة الحالية، لا سيما في ظل تحرك بعض القوى السياسية داخل البرلمان العراقي لوضع صيغة لمستقبل الوجود الأمريكي في البلاد، إلا أن نتائجها، على ما يبدو، لم تتبلور بعد، وهو ما يعزز من احتمال تصاعد حدة التوتر بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.
جدل واسع:
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 3 فبراير الجاري، عن نيته سحب القوات العسكرية من سوريا وأفغانستان مع الإبقاء عليها في قاعدة "عين الأسد" في العراق بهدف "التمكن من مراقبة إيران"، حتى يمكنها "العودة سريعًا جدًا" إلى سوريا "إذا كان ذلك ضروريًا". كما ألمح إلى أن هدف مراقبة ايران هو التعرف على مساعيها لمواصلة بناء مشروعها النووي. لكن هذا الإعلان خالف واقع التحركات الأمريكية التي تهدف، واقعيًا، إلى الحد من تحركات ايران إلى سوريا عبر العراق بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا.
إذ تهدف الخطة الأمريكية إلى البحث عن بديل لقاعدة على الحدود السورية- العراقية، سواء من خلال تعزيز التواجد في قاعدة "عين الأسد" الجوية التي تعد ثاني أكبر القواعد الجوية في العراق، والتي زارها ترامب فى مطلع العام الحالي، أو عبر بناء قاعدة عسكرية إضافية، وهو ما كشفت عنه العديد من التقارير التي رصدت تحركات أمريكية في مواقع أخرى منها قاعدة "الصينية" في بيجي بمحافظة صلاح الدين وقاعدة أخرى في منطقة الفتحه وثالثة في كركوك، مشيرة إلى أن شركات أمريكية سوف تباشر عملها في إعادة بناء البنية التحتية لمحافظة صلاح الدين.
وقد اعتبرت الحكومة العراقية وبعض القوى السياسية والدينية أن رهن مستقبل الوجود الأمريكي في العراق بمراقبة ايران يخالف الصيغة المتفق عليها، على غرار المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي أعلن أن العراق "لن يكون منطلقًا لتوجيه أذى لأى بلد آخر"، وهو ما شكل نقطة انطلاق للتصعيد ضد الوجود الأمريكي في الاتجاه ذاته، حيث تشير كتلة "الفتح" بزعامة هادي العامري إلى توصلها لتوافق مع كتلة "سائرون" التي يقودها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حول إنهاء وجود القوات الأمريكية، فيما يعارض تيار آخر صيغة "الإنهاء"، بينما يبحث تيار ثالث عن صيغة حل وسط، حيث يرى أنه لا تزال هناك حاجة للإبقاء على الوجود الأمريكي في صيغته التقليدية، في ظل بروز مخاوف من تجدد حضور "داعش" في العراق، وهو ما يعني أن البرلمان قد يشهد خلافات واسعة بين القوى السياسية المختلفة.
محاولات مستمرة:
لكن يبدو أن ثمة محاولات لاحتواء الأزمة المتصاعدة في العراق، في إطار محصلة النتائج التي أسفرت عنها زيارة القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي باتريك شاناهان إلى بغداد، حيث أعلن رئيس الحكومة عادل عبد المهدى رفضه إقامة أية قواعد عسكرية فى العراق، مشيرًا إلى أهمية تقيد الدولتين بـ"الاتفاقات الأساسية وهى محاربة الإرهاب وتدريب القوات العراقية ولا شىء آخر"، فيما حاول شاناهان الاقتراب، نسبيًا، من هذا التصور خلال لقاءه عبد المهدي، حيث أوضح أن "مهمة القوات الأمريكية تتمثل في محاربة داعش وتوفير التدريب الذي تحتاج إليه القوات العراقية"، وهو ما اعتبرته اتجاهات عديدة إشارة تتضمن التراجع عن الصيغة المطروحة، لكنها لم تقلص من حدة الجدل حول الخطوات الإجرائية التي قد يتخذها البرلمان العراقي، دون أن ينفي ذلك أن محاولة أخرى في الاتجاه نفسه قاما بها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وزعيم تيار "الحكمة" عمار الحكيم لإفساح المجال أمام إجراء حوار سياسي بين الكتل السياسية في إطار تعزيز الموقف الحكومي.
مساران محتملان:
وعلى ضوء ذلك، ربما يتجه الجدل الحالي إلى أحد مسارين: يتمثل الأول، في تفادي تطور الأزمة، من خلال تعزيز فرص محاولات الاحتواء التي يقوم بها رئيس الحكومة ورئيس البرلمان الذي أشار بدوره إلى أن المقترح الذي تبناه بعض النواب وتسلمته رئاسة البرلمان يهدف إلى تحديد مهام وجود الأمريكيين وطبيعة عملهم ومدة بقائهم في العراق. لكن يظل هذا التوجه مجرد محاولة لتجاوز الخلاف، إذ سيعتمد في المستقبل على الموقف الأمريكي خاصة من التحركات الإيرانية، لا سيما أن الرئيس ترمب لا يزال مصممًا على أهمية الوجود العسكري في العراق.
فيما ينصرف الثاني، إلى استمرار موجة التصعيد، وربما تحولها، في رؤية اتجاهات مختلفة، إلى عمليات مضادة للوجود الأمريكي، وهو ما يمكن أن يفرض عواقب وخيمة على الميليشيات التي تلوح بذلك، في ظل التحذيرات التي وجهتها واشنطن من تداعيات محاولات استهداف مصالحها.
وفي النهاية، يمكن القول إن الأزمة العراقية الراهنة تمثل إحدى انعكاسات متغيرات الأوضاع الأمنية في الإقليم، لا سيما في إطار المواجهة الأمريكية – الإيرانية، على نحو يشير إلى أن المرحلة القادمة ربما تشهد ضغوطًا أكبر على بغداد، في ظل تزايد احتمالات تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران.