تسعى الدول الأوروبية، في الفترة الحالية، إلى إقناع روسيا بالتدخل من أجل تقليص حدة الخلافات المتصاعدة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والتي باتت تهدد استمرار العمل بالاتفاق النووي، في مرحلة ما بعد 12 مايو الحالي.
وفي رؤية تلك الدول، فإن توافق المصالح بين روسيا وإيران، والذي يتجاوز الملف النووي ويمتد إلى الملفات الإقليمية الأخرى وعلى رأسها الملف السوري، قد يساعد الأولى في الجهود التي ربما تبذلها في هذا السياق، خاصة أن دور الوسيط يمكن أن يوجه رسالة إلى إيران بأنها لا تستطيع التعويل بصفة مستمرة على تحول روسيا إلى ظهير دولي لحمايتها، بسبب تزايد الضغوط التي تتعرض لها على خلفية أزمة برنامجها النووي ودورها الإقليمي.
ومع ذلك، فإن هذه الطموحات الأوروبية قد تواجه عقبات عديدة في هذا السياق، يتمثل أبرزها في عدم بروز مؤشرات توحي بأن روسيا قد تقوم بهذا الدور، لاعتبارات ترتبط بعلاقاتها مع إيران وخلافاتها المتعددة مع الدول الغربية حول ملفات مختلفة.
تحركات متسارعة:
يبدو أن باريس ترى أن موسكو قد تستطيع القيام بدور في حلحلة الخلافات العالقة بين واشنطن وطهران، والتي قد تدفع الأولى إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، بعد انتهاء المهلة الحالية التي حددتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 12 مايو الحالي، بشكل سوف يعيد أزمة الملف النووي إلى مربعها الأول من جديد، حيث يتوقع أن تقوم إيران بتنفيذ تهديداتها الخاصة برفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم لتصل إلى ما كانت عليه قبل الوصول للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، وهو 20%.
وفي هذا السياق، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إقناع نظيره الروسي بممارسة هذا الدور، خاصة أن باريس تقود حاليًا الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية لتعزيز احتمالات استمرار العمل بالاتفاق النووي، حيث قام ماكرون بزيارة واشنطن في 23 إبريل الفائت، وكان الاتفاق النووي أحد المحاور الرئيسية في محادثاته مع المسئولين الأمريكيين.
ومع ذلك، فإن روسيا قد لا تتجاوب مع مثل تلك الجهود، وذلك لاعتبارات عديدة، يتمثل أهمها في أنها ما زالت ترى أن الاتفاق النووي يمثل الخيار الأفضل في الوقت الحالي للتعامل مع أزمة البرنامج النووي الإيراني، خاصة أن إيران أثبتت، وفقًا لرؤية موسكو، أنها ملتزمة ببنود الاتفاق، على نحو أكدته تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكثر من مرة.
وهنا، يمكن القول إن إعادة الأزمة النووية الإيرانية إلى نقطة الصفر من جديد لا يتوافق مع مصالح روسيا، خاصة أن ذلك من شأنه تعزيز احتمالات اندلاع حرب جديدة في المنطقة وبالقرب من حدودها، باعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لن تسمحا لإيران بالوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، وهو المسار الذي تدعمه إسرائيل تحديدًا، على نحو بدا جليًا في التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 30 إبريل الفائت، وقدم فيها ما أسماه بـ"الأدلة الموثقة" التي تؤكد امتلاك إيران، في مرحلة سابقة، خطط لإنتاج سلاح نووي.
وتكمن المفارقة أيضًا في أنه حتى لو نجحت إيران في مواصلة تطوير برنامجها النووي دون أن تتعرض لضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيل أو تنخرط في مواجهة عسكرية مباشرة معهما، فإن ذلك لا يتوافق أيضًا مع مصالح موسكو، باعتبار أنها لن تسمح لجارتها الجنوبية، بامتلاك القنبلة النووية، بشكل قد يهدد بإحداث خلل في توازنات القوى في تلك المنطقة، وهو ما يمثل خطًا أحمر بالنسبة لها.
وكان منع وصول إيران إلى المرحلة التي تمتلك فيها الإمكانيات والقدرات اللازمة لامتلاك السلاح النووي أحد الأهداف الرئيسية التي سعت روسيا إلى تحقيقها من خلال الاتفاق النووي، حيث مثلت أحد الأطراف الداعمة للمفاوضات التي أجريت بين إيران والقوى الدولية، والتي مهدت المجال أمام إبرام الصفقة النووية في النهاية.
فضلاً عن ذلك، فإن الخلافات المتصاعدة بين روسيا والدول الأوروبية حول بعض الملفات الأخرى، وخاصة ما يتعلق بتطورات الأزمة في سوريا والتوتر المتصاعد مع بريطانيا حول محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال، في 4 مارس 2018، تضعف من احتمالات قيام روسيا بهذا الدور، حيث تتبنى موسكو سياسة متشددة في التعامل مع الضغوط التي تمارسها الدول الأوروبية باستمرار، وهو ما بدا واضحًا في تعامل موسكو مع المعطيات التي فرضتها خلافاتها مع الدول الغربية حول الأزمة الأوكرانية التي اندلعت في مارس 2014.
ولذا كان لافتًا أن موسكو حرصت على تأكيد أهمية المحافظة على الاتفاق النووي في البيان الذي صدر عقب المحادثة الهاتفية التي أجراها الرئيسان الروسي فيلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، بمبادرة من الأخير، الذي سيزور موسكو في نهاية الشهر الجاري، مع تجاهل التقارير الأخرى التي أشارت إلى أن ماكرون دعا موسكو إلى ممارسة دور بناء لتسوية أزمات الشرق الأوسط، ومن بينها أزمة الملف النووي الإيراني.
خيارات محدودة:
كما أن موسكو قد لا تمتلك خيارات متعددة في حالة ما إذا قبلت القيام بهذا الدور، خاصة في ظل التشدد الذي تبديه إيران فيما يتعلق بإجراء مفاوضات جديدة حول القضايا الخلافية العالقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي الإيراني في المنطقة والتفتيش على منشآتها النووية والعسكرية وغيرها.
وقد كان لافتًا أن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي حرص على الرد على الدعوات التي أطلقتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بالتوقف عن التدخل في الأزمات الإقليمية المختلفة، حيث قال، في 30 إبريل الفائت، أن "من يجب أن ينسحب من غرب آسيا هو الولايات المتحدة الأمريكية وليس إيران".
وتوازى ذلك مع تأكيد بعض المسئولين العسكريين الإيرانيين على عدم الدخول في مفاوضات حول برنامج الصواريخ الباليستية، باعتبار أنها تدخل في إطار القدرات الدفاعية الخاصة بإيران فقط، ولا ترتبط بالاتفاق النووي، وفقًا لرؤية طهران، التي ما زالت تدعي أن صواريخها ليست مصممة لحمل أسلحة نووية، وهو النمط الذي يدعو الاتفاق النووي إلى التوقف عن ممارسة أنشطة خاصة بتطويره، بما يعني أنها تحاول بالفعل الالتفاف على الاتفاق النووي وانتهاك بنوده.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن احتمال قيام موسكو بممارسة دور الوسيط لتقليص مساحة الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ما زال ضعيفًا، خاصة مع اقتراب انتهاء المهلة التي حددتها الإدارة الأمريكية في 12 مايو الحالي، على نحو سوف يُدخل أزمة الملف النووي الإيراني مرحلة جديدة من التوتر والتصعيد.