في مفاجأة لم يتوقعها أحد خرج مستشار الأمن القومي للرئيس الكوري الجنوبي من لقائه مع الرئيس الأميركي ليعلن أنه قبل دعوة الزعيم الكوري الشمالي للقائه بحلول مايو لتحقيق نزع دائم للسلاح النووي. صحيح أن التطورات التي شهدتها الألعاب الأوليمبية الشتوية قد أشارت إلى جديد إيجابي في العلاقة بين الكوريتين لكن أحداً لم يتخيل أن يصل الأمر إلى الحديث عن قمة بين الغريمين اللدودين بهذه السرعة، ويثير هذا التطور عدداً من الملاحظات أختار منها ثلاثاً تتعلق الأولى منها بإحدى آليات حل الصراعات وتتمثل في حدوث تحول داخلي في أحد أطرافها والثانية بجدل الدبلوماسية والقوة في مسار هذا الحل والثالثة بالمسار المحتمل لهذا التطور المهم.
وتكشف أدبيات حل الصراعات عن أن حدوث تحولات داخلية في واحد على الأقل من أطراف صراع ما يمثل آلية مهمة لإنهاء محتمل لهذا الصراع، فلم توقع روسيا معاهدة السلام التي أنهت انغماسها في الحرب العالمية الأولى إلا بعد نجاح الثورة البلشفية، ولم تسلم فرنسا باستقلال الجزائر إلا بعد تولى ديجول السلطة وأدت أفكار السادات إلى عقد معاهدة سلام مع إسرائيل وهكذا، وفي حالتنا فإن التحول حدث في الطرف الكوري الجنوبي بتولي الرئيس «مون جاى إن» الحكم في مايو 2017 وهو المنتمي إلى أسرة من كوريا الشمالية إذ لجأ والداه إبان الحرب الكورية (1950-1953) إلى الجنوب حيث درس القانون وافتتح مكتباً للمحاماة مع «رو مو هيون» الذي انتُخب رئيساً في 2003، وأصبح «إن» من كبار مستشاريه، وفي تلك الفترة امتنعت كوريا الجنوبية عن التصويت في الأمم المتحدة في 2007 على قرار يدين انتهاكات حقوق الإنسان في الشمال، وكان واضحاً بعد انتخابه أن إحدى أولوياته هي البحث عن سبل لتحسين العلاقات مع كوريا الشمالية، وفي أول خطاب له أعرب عن استعداده لزيارة بيونج يانج إذا توفرت الظروف الملائمة، وقال إنه سيفعل كل ما في وسعه لمد جسور السلام في شبه الجزيرة الكورية، ثم وقعت تطورات الألعاب الأوليمبية الشتوية إلى أن وصلنا إلى هذا الإعلان الدراماتيكي عن الاتفاق على قمة الغريمين.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بجدل القوة والدبلوماسية في تطور الصراعات الدولية بمعنى التفاعل بينهما بما يحدد مسارها، فلا يستطيع أي طرف في صراع ما أن يحقق أهدافه أو بعضاً منها على الأقل دون أن يمتلك القوة اللازمة، ووفقاً لميزان القوى بين طرفي الصراع، تتحدد نتيجة هذا الصراع، وفي حالتنا بدت كوريا الشمالية عازمة على تطوير برنامجها النووي وصولاً إلى إعلان أن صواريخها باتت قادرة على حمل رؤوس نووية إلى الولايات المتحدة فيما هدد الرئيس الأميركي بتدمير كوريا الشمالية أصلاً، وقد ألفنا طويلاً سياسات «حافة الهاوية» التي يكون معظم أطرافها واعياً بأنه لن يصل إلى نقطة الانفجار وإنما هو يلجأ إلى التصعيد ويحرص على أن يبدو بمظهر الفاعل «غير الرشيد» الذي لا يقف تهوره عند حد كي يضغط على خصمه باتجاه التسوية، وهكذا شهدنا في التوتر الذي ساد شبه الجزيرة الكورية ألوان التصعيد كافة وتبادل التهديدات والإهانات القاسية، وبينما تخوف البعض من انفجار الموقف كان المحللون الجادون واثقين من أن هذا الانفجار لن يحدث لأن تكلفته سوف تكون باهظة على الجانبين.
وتشير الملاحظة الثالثة والأخيرة إلى مستقبل هذا التطور، فهل تُعقد القمة فعلاً؟ وهل تنجح إن عُقدت؟ يجب أن نتذكر أولاً أن لهذا التطور خصومه على الطرفين كما أن له أنصاره، وقد يُفلح الخصوم في وضع العقبات، كما أن التوصل إلى اتفاق ليس بالأمر السهل لأنه لن يعني أقل من تخلي كوريا الشمالية عن برنامجها النووي العسكري مقابل ضمانات لأمن نظامها، وهي مسألة صعبة وإنْ لم تكن مستحيلة، وتقدم أزمة الصواريخ الكوبية في 1962 نموذجاً على إمكانية النجاح، والمفارقة أن ترامب قد يتوصل إلى اتفاق شبيه بالاتفاق النووي الإيراني، غير أننا يجب أن نتذكر أيضاً أنه قد سبق التوصل إلى اتفاق لإنهاء البرنامج النووي الكوري الشمالي في 1994 لكنه انهار في 2002، فهل يعيد التاريخ نفسه أم يحقق الرئيس الكوري الجنوبي حلمه بقضاء ما تبقى من عمره بقريته في الشمال بعد توحيد الكوريتين سلمياً؟
*نقلا عن صحيقة الاتحاد