أعلن الرئيس دونالد ترامب المواجهة مع إيران وأذرعها الداخلية والخارجية. ولم يتأخر الرئيس حسن روحاني في الرد. حدد ساحة الحرب إذا وقعت، فلم يكتف بالمشرق العربي ومنطقة الخليج نفوذاً أو حضوراً ميدانياً لبلاده، بل ذهب بعيداً إلى شمال أفريقيا! الرئيس الأميركي وضع الجمهورية الإسلامية في رأس أهدافه. شرح بالتفصيل بعض نتائج سياساتها فرجع إلى دفاتر قديمة، إلى بدايات «الثورة الإسلامية». إلى إحتجاز موظفي السفارة الأميركية في طهران عام 1979 طوال 444 يوماً. وإلى تفجير مقر قوات المارينز في بيروت العام 1983. ولكن ما لم يشرحه في استراتيجيته هو كيف سيواجهها وأي الوسائل سيعتمد. هناك الحرب المباشرة، أو الحرب على ميليشياتها المنتشرة في طول المنطقة وعرضها، وهناك العقوبات الاقتصادية. اختار حتى الآن الوسيلة الأخيرة. وبدأ الكونغرس بفرض عقوبات على «الحرس الثوري» و»حزب الله». الإدارة ليست في وارد شن عمليات عسكرية. وكذلك طهران التي وجهت تحذيرات إلى الأوروبيين من الانخراط في هذه الاستراتيجية. ولجأ رئيس الأركان محمد باقري من دمشق إلى تهديد إسرائيل من تكرار انتهاكها السيادة السورية. ثمة مخاوف مشتركة من شن حرب، لأنها ببساطة لن تقتصر، إذا وقعت، على هذين الطرفين وحدهما. حدود المسرح معروفة سلفاً. ولكن يستبعد أن تشمل شمال أفريقيا. ثمة مبالغة في قدرة طهران على تفجير الأوضاع في أي من البلدان العربية الأفريقية، من موريتانيا إلى القرن الأفريقي.
حتى الآن لا تبدي إيران أي ستعداد للبحث في برنامجها الصاروخي، أو في تمددها في الشرق الأوسط. هي بالأصل لم تسلّم بتعليق برنامجها النووي بلا مقابل. استعجلت الاتفاق مع الدول الست للتخلص من العقوبات الدولية والأميركية خصوصاً. لكنها كانت في المقابل تستعجل تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية، وتبني نموذج «الحرس الثوري» في كل من سورية والعراق واليمن... وهي القنابل النووية الحقيقية والفعلية بديلاً من القنبلة الذرية التي تعرف أنها لن تستخدمها وإن كانت توفر لها سيفاً من الردع بمواجهة خصومها. لذلك اعتمدت من سنوات الترويج الإعلامي لكل تجاربها الصاروخية، خصوصاً قبل إبرام الاتفاق. اعتمدت هذا النوع من الحملات للترويع عندما كانت واشنطن تردد أن الخيار العسكري لوقف البرنامج النووي مطروح على الطاولة بين خيارات أخرى وعلى رأسها سياسة العقوبات. ودفعت الحوثيين إلى امتلاك قرار اليمن وطرد الشرعية من صنعاء. وعرقلت مساعي حيدر العبادي لإجراء إصلاحات وتغيير في بنية الحكم في بغداد. وأفادت من قيام «داعش» للتعجيل في بناء «الحشد الشعبي». وفعلت الشيء نفسه في سورية. دفعت «حزب الله» إلى أتون الحرب في بلاد الشام، حيث بنت ميليشيات مماثلة من السوريين وخلافهم لحماية النظام والحؤول دون سقوطه. وحولتها هذه الخطوات تالياً رقماً صعباً بين اللاعبين الكبار في الإقليم.
في المقابل، كان الحضور الأميركي في المنطقة يتراجع، كما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية. عوامل عدة معروفة ساهمت في ذلك. لعل أبرزها نقل إدارة الرئيس باراك أوباما ثقل استراتيجيتها إلى الشرق الأقصى، إلى بحر الصين والمحيط الهادىء عموماً لمواجهة النفوذ الصيني. إلا أن الانسحاب العسكري من العراق، ثم إبرام الاتفاق النووي من دون التطرق إلى نفوذ إيران في الإقليم والمواجهة الجدية لبرنامجها الصاروخي، ثم التردد في استخدام القوة ضد نظام الرئيس بشار الأسد بعد تجاوزه «الخطوط الحمر» التي رسمتها واشنطن..,. كلها عوامل خففت من ثقل الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير. وشجعت خصومها من روسيا إلى إيران على القفز سريعاً لملء هذا الفراغ الكبير. وهكذا أصاب ميزان القوى الإقليمي خلل كبير يستدعي إصلاحه جهوداً جبارة من إدارة الرئيس ترامب المنهمكة بأزمة أخرى أكثر خطورة في شبه الجزيرة الكورية.
كثيرون جادلوا في السابق أن سلاح العقوبات التي تستخدمه الولايات المتحدة بمواجهة دول ومجموعات كثيرة لا يثمر عموماً. صحيح أن إيران استعجلت رفع العقوبات في مقابل تجميد برنامجها النووي لنيف وعشر سنوات. أرهقتها حزمات من العقوبات فرضها مجلس الأمن بحزم والتزام. أما الآن فإن إعادة الكونغرس فرضها لا يلقى قبولاً حتى لدى حلفاء واشنطن. فضلاً عن أن روسيا والصين تعترضان وتمانعان. ومثلهما تركيا التي تجنح نحو موسكو بعيداً عن شركائها التاريخيين في الغرب. الأمر الذي يتيح لطهران خيارات لم تكن متوافرة قبل توقيع الاتفاق صيف العام 2015. إضافة إلى هذا العامل، توسع التمدد الإيراني مع تقدم الحرب على «داعش»، والتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية. كما أن التحالف الدولي بقيادة أميركا ساهم في تعزيز «الحشد الشعبي» في العراق وشرعنته. غضت واشنطن الطرف عن مشاركة هذه الميليشيات في الحرب على «تنظيم الدولة»، وإن كانت عززت حضورها مجدداً في هذا البلد، سواء عبر علاقاتها مع حكومة حيدر العبادي، أو عبر تشجيعها إعادة الحرارة إلى علاقة بغداد وبعض القادة الشيعة بالعواصم العربية. كما أنها لم تنجد حليفها الكردي مسعود بارزاني بمواجهة القوات الشرعية و»الحشد» أيضاً. وإن تدخلت أخيراً لمنع تصعيد الحرب بين بغداد وإربيل. والسؤال هل يمكن واشنطن أن تفرض تسوية لقضية كردستان، وتضمن التجديد للعبادي في الأشهر المقبلة، على طريق الحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية في هذا البلد؟ هناك من يعتقد بأن «العودة الأميركية» إلى بلاد الرافدين بمساعدة خصوم إيران وقوى أخرى، هي المفتاح الفعلي لقطع جسور الجمهورية الاسلامية نحو كل من سورية ولبنان، وليس الحدود بين العراق وسورية وحدها.
في ميزان القوى إذاً دور كبير لكل من موسكو وبكين. ربما تحقق شيء من حلم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد الذي لم يكف عن الدعوة إلى تكتل يوازي مجلس الأمن قوة وتأثيراً يضم إلى بلاده روسيا والصين ودول «البريكس». بالطبع لن يتردد الرئيس فلاديمير بوتين من لعب ورقة إيران أداة مساومة مع واشنطن. فهو يطمح إلى ترسيخ أقدام بلاده قوة دولية كبرى وليست «دولة إقليمية كبرى» كما وصفها يوماً الرئيس باراك أوباما. علماً أن الأخير هو من أتاح لسيد الكرملين تحقيق طموحاته بإخلاء ساحة سورية له لأداء دور نشط. والحال مختلف الآن مع إدارة ترامب. فعلى رغم كل التصريحات التي تتحدث عن تنسيق بين القوتين الكبيرتين في بلاد الشام، لا تشي المواقف الأخيرة بهذا الواقع. موسكو تتهم واشنطن بالتعاون مع «داعش» شرق بلاد الشام. وهذه تتهمها بدعم «طالبان» في أفغانستان. واستعاد وزير الخارجية ريكس تيلرسون حديثاً قديماً بقوله إن عائلة الرئيس بشار الأسد لن يكون لها دور في مستقبل سورية. في وقت وجهت لجنة التحقيق الدولية اتهامات صريحة إلى نظام الأسد باستخدام غاز السارين في خان شيخون. وثمة مطالبات باستخدام البند السابع لمعاقبته. خلاصة القول إن روسيا التي تتجه لتخفيف علاقاتها مع حلف «الناتو» بعد فشل اجتماعات «مجلس روسيا الأطلسي»، لن تكون مستعدة للمجازفة بعلاقاتها مع طهران من دون ثمن كبير من واشنطن. والحال ينطبق إلى حد ما على بكين التي تحرص على علاقات تفاهم أعمق مع الإدارة الأميركية. أما تركيا التي لم تلتزم سابقاً العقوبات على الجمهورية الإسلامية، فستكون في طليعة رافضي أي عقوبات جديدة. الدعم الذي يلقاه أكراد سورية من أميركا يدفعها أكثر فأكثر نحو حضن روسيا.
في الجبهة الأخرى تقف إسرائيل المرحبة بسياسة ترامب الجديدة حيال إيران، مستعدة لأي مفاجأة عسكرية. بل تتوقع دوائر في تل أبيب أن تلجأ الحكومة اليمينة المتطرفة لنتانياهو إلى مغامرة عسكرية على جبهتي جنوب لبنان والجولان وربما غزة أيضاً، إذا كان لا بد من إطاحة المصالحة الفلسطينية وتجنب ما سيحمله مشروع ترامب لتسوية إسرائيلية - فلسطينية. الجيش الإسرائيلي أجرى أكبر مناورة في الشمال وأعاد تنظيم ترسانته وعسكره، لكن إيران وحلفاءها راكموا ترسانة كبيرة من الصواريخ. أما الدول العربية وعلى رأسها السعودية التي تبني شراكات استراتيجية مع الصيين وروسيا والدول الآسيوية الكبرى، فلها حسابها في ميزان القوى الإقليمي. فهي لا تقف سداً بوجه المشروع الإيراني في اليمن فحسب. بل تتقدم نحو دور في العراق وسورية. ولا يمكن روسيا أن تتجاهل مثل هذا الدور. بل تحتاج إليه، مثلما تحتاج دور مصر، إذا كانت تخشى أن يصيبها في سورية ما أصاب الولايات المتحدة في العراق على يد إيران.
كل هذه الوقائع تجعل ميزان القوى في المواجهة بين واشنطن وطهران رهن حسابات لا تقتصر على المسرح الميداني. ولا يمكن إيران تالياً أن تقيس قوتها بعدد عساكرها وانتشار هذا العسكر على بقعة واسعة من «الشرق الأوسط الكبير». لم تبلغ ما بلغه الاتحاد السوفياتي في عز الحرب الباردة. وتعرف جيداً كيف انتهى. يبقى مآل الصراع رهناً بقدرة الرئيس ترامب وحلفائه العرب على استمالة موسكو والتفاهم معها... وكذلك الصين. وفي غياب مثل هذا التفاهم قد لا تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على موقعها المهيمن في النظام الدولي الذي تسعى كل من موسكو وبكين إلى تغيير وجهه في الشرق البعيد وفي أوروبا الشرقية والوسطى... فضلاً عن الشرق الأوسط.
*نقلا عن صحيفة الحياة