رغم تصاعد حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران مع بداية تولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامها في البيت الأبيض في 20 يناير 2017، إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران ربما تتجه، في مرحلة ما، إلى محاولة تأسيس قنوات خلفية تستطيع من خلالها الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة حول الملفات الخلافية المتعددة، وهو ما يرتبط بالمحددات التي تضبط حدود تعامل طهران مع الضغوط التي تفرضها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ قيام الثورة في عام 1979، فضلا عن سعيها بشكل دائم، وعلى عكس ما تدعي، إلى "تطويع" أيديولوجيتها لتحقيق مصالحها في حالة اقتراب الخطر من حدودها.
لكن ذلك في مجمله لا ينفي أن هذا الاحتمال يبقى مجرد "فكرة" دون أن تكون هناك مؤشرات حول سعى إيران إلى اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيلها. وبعبارة أخرى، فإن اتجاه إيران بالفعل لترجمة هذه "الفكرة" إلى إجراء على الأرض لا يضمن تنفيذها في النهاية، في ظل صعوبة استشراف ردود فعل إدارة ترامب إزاءها، حيث يبدو أنها ما زالت في مرحلة تقييم الخيارات المتاحة أمامها، على الساحتين الداخلية والخارجية، قبل تنفيذ سياساتها المعلنة.
مستويات التصعيد
وبالتوازي مع ذلك، يمكن القول إن احتمال اتجاه طهران إلى البحث عن محاور توافق محتملة مع إدارة ترامب لا ينفي في الوقت ذاته أنها سوف تواصل تبني مواقف تصعيدية تجاه الخطوات التي تتخذها إدارة ترامب، سواء من خلال مسئوليها أو عبر حلفائها من الميليشيات المسلحة الموجودة في دول الأزمات.
ومن هنا ربما لا يمكن فصل التصريحات التي أدلى بها أوس الخفاجي أمين عام ميليشيا "أبو الفضل العباس"، وهى من أبرز الميليشيات العراقية المسلحة الحليفة لإيران، في 11 فبراير 2017، والتي هدد فيها بـ"ضرب البوارج الأمريكية في السواحل اليمنية"، ردًّا على القرار الذي اتخذه ترامب بمنع دخول مواطني سبع دول بينها العراق وإيران إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عن التصعيد الحالي بين الأخيرة وإيران، حيث يمكن ربط ذلك بتلميح مسئولين أمريكيين إلى احتمال تصنيف الحرس الثوري باعتباره تنظيمًا إرهابيًّا.
لكن هذا التصعيد المحتمل من جانب إيران سوف يعتمد في المقام الأول على الخيارات التي سوف تتبناها الإدارة الأمريكية، أو بمعنى أدق "السقف" الذي يمكن أن تصل إليه التهديدات الأمريكية الحالية. إذ إن تلميح ترامب، على سبيل المثال، إلى إمكانية الاستناد إلى الخيار العسكري في التعامل مع إيران يمثل "خيارًا كارثيًّا" بالنسبة لإيران، سوف تسعى إلى احتوائه أو تجنب التعرض له، بأدوات مختلفة لن تقتصر في تلك الحالة على التصعيد، وإنما سوف تمتد أيضًا إلى محاولات التفاهم سعيًا إلى إنشاء قنوات خلفية من أجل تقليص حدة التوتر، إن لم يكن لتسوية الخلافات العالقة، وبالتالي تجنب الدخول في حرب مباشرة مع ما تسميه "الشيطان الأكبر".
متغيرات رئيسية
وهنا، ربما يمكن القول إن ثمة عوامل عديدة يمكن أن تدفع إيران إلى تبني هذا الخيار خلال المرحلة القادمة، وتتمثل في:
1- الخبرة التاريخية: رغم حرص القيادة العليا في إيران، ممثلة في المرشد علي خامنئي، على تأكيد صعوبة تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ومواصلة إبداء شكوكها في التعويل على الصفقة النووية لتحقيق هذا الهدف؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران سعت خلال مراحل تاريخية مختلفة إلى الوصول إلى تفاهمات مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
وهنا، فإن إيران استفادت من الديناميكية الخاصة التي تأسس عليها نظام الجمهورية الإسلامية منذ البداية، والتي مكنته من التعامل بأكثر من صيغة، أو بمعنى أدق "التحدث بأكثر من لسان" مع الأطراف الخارجية. وحتى خلال وجود الخميني في السلطة (1979-1989)، أجرت إيران محادثات سرية وعلنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار اللقاء الذي جمع رئيس وزراء إيران الأسبق مهدي بازركان مع زبيجينيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بالجزائر في نوفمبر 1979.
وحتى في أحلك مراحل التوتر والتصعيد بين الطرفين، خلال فترة احتلال السفارة الأمريكية في طهران (من 4 نوفمبر 1979 وحتى 20 يناير 1981)، عقد مسئولون إيرانيون محادثات سرية مع فريق المرشح الجمهوري آنذاك رونالد ريجان في مدن أوروبية مثل برشلونة ومدريد وأمستردام. وكان لافتًا أن إيران أطلقت سراح الرهائن في 20 يناير 1981، الذي كان يوافق اليوم الأول للرئيس ريجان في البيت الأبيض، إلى درجة أن بعض الكتابات أشارت إلى أن هذا التوقيت تحديدًا لم يكن مصادفة، بل كان جزءًا من اتفاق ضمني بين إيران وفريق ريجان. وكانت قضية "إيران كونترا" هى أحد أبرز النماذج التي أشارت إلى التفاهمات التي جرت بين طهران وواشنطن في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وقد استمرت تلك التفاهمات حتى خلال المرحلة التي سيطر فيها اليمين المتشدد على السلطة في كلٍّ من واشنطن وطهران، وتحديدًا في العقد الأول من القرن الحالي، فرغم تصاعد حدة التوتر بين إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش وإيران في عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بسبب إصرار الأخيرة على مواصلة تطوير برنامجها النووي، فإن ذلك لم يمنع إجراء مباحثات بين الطرفين حول بعض الملفات الإقليمية، وعلى رأسها الملف العراقي.
2- الحرب بالوكالة: تبدو إيران حريصة على تبني سياسة تصعيدية في مواجهة الضغوط والتهديدات الأمريكية، وتأكيد جهوزيتها لأية خيارات قد تستند إليها واشنطن في التعامل معها، بما فيها الخيار العسكري؛ إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أنها تسعى بجدية إلى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، خاصة في حالة ما إذا كانت مع القوة العظمى الأولى في العالم. إذ إنها تفضل بشكل دائم سياسة الحرب بالوكالة، من خلال تكوين ودعم ميليشيات مسلحة حليفة لها في مناطق مختلفة بالإقليم، تسعى إلى تحقيق أهدافها بما يخدم طموحاتها في دعم دورها الإقليمي، وفرض ضغوط على خصومها في المنطقة. ومن هنا ربما يمكن تفسير مغزى التوقيت الذي أطلق فيه أوس الخفاجي أمين عام ميليشيا "أبو الفضل العباس" تهديداته لإدارة ترامب، والتي لا يمكن فصلها عن التوتر المتصاعد بين الأخيرة وإيران، رغم أن أوس الخفاجي حرص على ربط تهديداته بقرار إدارة ترامب منع مواطني سبع دول، منها العراق وإيران، من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. وربما يلي ذلك تهديدات أخرى من ميليشيات حليفة لإيران تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في إطار التصعيد المستمر بين الطرفين خلال المرحلة الماضية.
3- تطويع الأيديولوجيا: تدعي إيران دائمًا أنها تلتزم بثوابت أيديولوجية في تفاعلاتها مع التطورات الإقليمية والدولية المختلفة، لكن ذلك لا ينفي أنها، في كثير من الأحيان، تحرص على تطويع تلك الثوابت من أجل تحقيق مصالح محددة، مرتبطة برؤيتها لمسارات التفاعل مع الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أشار المرشد علي خامنئي إلى هذا المتغير تحديدًا في تفسيره لأسباب إقدام إيران على إجراء مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية دعمت فيما بعد فرص الوصول إلى تسوية لأزمة برنامجها النووي في يوليو 2015، حيث قال، في 9 يناير 2014: "كنا قد أعلنا من قبل أننا إذا شعرنا أن المصلحة تغلب على قضايا بعينها فسنتفاوض مع الشيطان لدرء شره".
وثمة دلائل عديدة تؤكد حرص إيران على تبني سياسات مناقضة للثوابت الأيديولوجية التي تدعي الالتزام بها لتحقيق مصالح معينة، على غرار المواقف التي اتخذتها في التعامل مع بعض التطورات الإقليمية في المنطقة.
وفي النهاية، ربما يمكن القول إن التصعيد سوف يبقى الاحتمال الأكثر ترجيحًا لمسارات التفاعل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل حرص الأخيرة على تأكيد أن الخلافات مع طهران لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تمتد أيضًا إلى ملف دعم إيران للإرهاب، لكن دون أن ينفي ذلك احتمال أن تفكر إيران في خيارات أخرى أكثر مرونة وبراجماتية للتعامل مع اقتراب الخطر الأمريكي من حدودها.