"هل يتغير العالم بوتيرة أسرع من الماضي؟" كان هذا هو السؤال الذي طرحته مجلة "تاريخ العالم" في عددها الثامن الصادر في مارس 2018 ليتصدى للإجابة عليه سبعة من كبار أساتذة للتاريخ بالجامعات البريطانية.
وعلى الرغم من اختلاف تقييماتهم حول سرعة التحولات العالمية الراهنة، اتفق الجميع على أن تاريخ العلاقات الدولية لم يخلُ في أي وقت من تغيرات عميقة وأحداث غير متوقعة كانت تأثيراتها أكثر عنفاً بالمقارنة بالظواهر التي يعتبرها المراقبون "تغييراً هيكلياً" بالمعايير الراهنة.
فعلى مدار القرن الماضي شهد النظام الدولي انتقالاً عنيفاً من التعددية القطبية إلى الاستقطاب الثنائي، ثم إلى الأحادية القطبية، وتخللت المراحل الانتقالية تفجر الحربين العالميتين وتصاعد وتيرة الحرب الباردة، ثم انحسارها، وانهيار دول عظمى مثل الاتحاد السوفييتي وإمبراطوريات مثل الإمبراطورية العثمانية ونظيرتها النمساوية والمجرية وروسيا القيصرية.
كما تغيرت ملامح الخريطة العالمية عدة مرات نتيجة إعادة رسم الحدود بين الدول وسقوط وصعود الوحدات الدولية وما ترتب على موجات التحرر من الاستعمار.
تكشف هذه المعطيات أن التاريخ لا ينفصل بأي حال عن واقع التفاعلات الدولية الراهنة، بل على النقيض فإن السياسات الخارجية للدول تتأثر بصورة جوهرية بالخبرات التاريخية والذاكرة الجمعية للشعوب التي تشكلت على مدار عقود ممتدة.
ولقد شهدت حركة النشر الأكاديمية خلال في الآونة الأخيرة موجة صاعدة يتصدرها عنوان "استدعاء التاريخ" باعتباره إطاراً تفسيرياً للظواهر شديدة التعقيد التي تشهدها العلاقات الدولية، وتعددت المؤلفات التي وظفت خبرات الماضي في تحليل حالة العالم الراهنة، ومن بينها كتاب "لورانس فريمان" الصادر بعنوان "مستقبل الحرب: التاريخ"، وكتاب جرهام أليسون "مقدرون للحرب: هل تتمكن الولايات المتحدة والصين الإفلات من فخ ثيوسيديديس؟"، وما طرحه ستيفين كينج في كتابه "عالم جديد خطير: نهاية العولمة وعودة التاريخ".
واستدلت كتابات أخرى بالتاريخ لفهم التحولات الداخلية والإقليمية مثل كتاب "ماشا جيسين" المعنون "المستقبل هو التاريخ: كيف استعاد السلطويون روسيا؟"، وكتاب "الإمبراطوية المشينة: ما الذي فعله البريطانيون في الهند؟".
وتناولت مؤلفات أخرى التفسيرات التاريخية للسياسات الاقتصادية الأمريكية مثل كتاب "تاريخ 400 عام من الرأسمالية الأمريكية" وكتاب "الصدام على التجارة: تاريخ السياسة التجارية الأمريكية". وفي المقابل، ركز إيان بلاك وآلين لاين على تأثيرات التاريخ في مسارات الصراع العربي الإسرائيلي في كتابهما "أعداء وجيران: العرب واليهود في فلسطين وإسرائيل، 1917 – 2017".
ولم يكن أدل على الاهتمام المتصاعد بالتاريخ من تخصيص مجلة "الفورين أفيرز" الملف الرئيسي لعدد شهري يناير/فبراير 2018 لدراسة موضوع "الماضي الحي: كيف تواجه الأمم شرور التاريخ:"، حيث تضمن موضوعات من قبيل "الخطيئة الأمريكية الأصلية: العبودية وإرث تفوق البيض"، و"كيف استوعبت ألمانيا ماضيها؟"، و"ذاكرة الكتمان: كيف قمعت روسيا الماضي؟" و"التستر الصيني: عندما يعيد الشيوعيون كتابة التاريخ"، كما تعرضت المجلة لتأثيرات التوترات الداخلية على ذاكرة الشعوب في موضوعات حول الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والصراع الأهلي في رواندا.
وتشير بعض الأدبيات إلى أن التفاعل بين الماضي والحاضر تحكمه عدة اتجاهات، يتمثل أهمها في المقاربات (Analogy) عبر استدعاء خبرات الماضي حول ظاهرة حاضرة للاستفادة منها، وتأثير الخبرات الشخصية لصانعي القرار والنخب السياسية على توجهات وسياسات الدولة، والسرديات التاريخية (Narratives) التي تتناقلها الأجيال حول الماضي وتشكل الهوية الجماعية حول الذات والآخر، وأخيراً الرموز التاريخية التي تحدد تفضيلات المواطنين وصانعي القرار تجاه قضايا الحاضر.
وفي هذا الإطار يسعى ملحق "مفاهيم المستقبل" في العدد 25 من دورية اتجاهات الأحداث للإجابة على تساؤل مفاده "كيف يؤثر التاريخ على التفاعلات بين الدول؟" من خلال عدة موضوعات حول "دورات التاريخ" ومدى تكرار الظواهر التاريخية الكبرى، وكيفية تعافي الدول من الخبرات التاريخية الدولية وأسباب تبني الدول توجهات عدوانية وتأثير "عقد التاريخ" على السلوك الخارجي للدول.