حقق حزب "الحرية" اليميني المتطرف في هولندا، والذي يتزعمه خيرت فيلدرز، فوزاً استثنائياً في الانتخابات البرلمانية، والتي عُقدت في 22 نوفمبر 2023، إذ حصد 37 مقعداً من أصل 150 مقعد، وذلك بخلاف التوقعات التي رجّحت فوز تحالف العمل وحزب الخضر.
يحمل هذا الفوز تأثيرات مُختلفة سواءً على صعيد الموقف الهولندي من موضوعات بعينها مثل الهجرة والأقليات والحرب الأوكرانية، أم على صعيد تمدد اليمين المتطرف في أوروبا واحتمالات وصوله للسلطة في دول كبرى.
أسباب دافعة:
أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الهولندية حصول حزب اليمين المتطرف "الحرية" (PPV) على 37 مقعداً بزيادة أكثر من ضعف ما حصل عليه بانتخابات 2021، وليصبح بذلك أو حزب يميني متطرف يحصد المركز الأول بالانتخابات البرلمانية الهولندية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في حين حصل تحالف حزب العمل والأحزاب الخضراء على حوالي 25 مقعداً وذلك مقارنة بحوالي 17 مقعداً حصلوا عليها بالانتخابات السابقة، أما حزب اليمين الوسط "الشعب للحرية والديمقراطية" فقد عانى من خسارة حادّة إذ حصل على 24 مقعداً أقل بعشرة مقاعد عن الانتخابات الماضية.
من الملاحظ أن مكاسب حزب "الحرية" –اليميني المتطرف– جاءت بشكل أساسي من خسارة حزب يميني آخر –يمين وسط– لعدد كبير من مقاعده، وهو ما يعني ضمناً ميلاً كبيراً لكتلة اليمين الكلية تجاه اليمين المتطرف، وهناك عدد من الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج، أهمها ما يلي:
1. الخطاب السياسي لحزب اليمين المُتطرف: ركّز البرنامج الانتخابي لحزب "الحرية" على معرفة الاتجاهات العامة للجماهير ومُخاطبتها بشكل واضح ومباشر، شمل ذلك، اتخاذ موقف مناوئ لمسائل الهجرة وللمسلمين، ومعارضة استمرار الدعم لأوكرانيا، والتخفيف من الضرائب وانتهاج سياسة عقابية وأمنية أشد قسوة –تحدث عن زيادة لعدد أفراد الشرطة وضم 10 آلاف لقوتها، وعن محاكمة المراهقين وكأنهم بالغين- والتعهد بتعديل سياسات التحول لاقتصاد بيئي، وذلك للتخفيف من الأعباء المالية المرتبطة بذلك، بالإضافة إلى طرح مسألة عضوية هولندا بالاتحاد الأوروبي للاستفتاء وتقليص الأعباء المالية المرتبطة بتلك العضوية.
2. أحداث غزة: أسهمت أحداث غزة في تعميق المد اليميني الذي يجتاح أوروبا والذي لم يعد يخشى الحدّة في التعبير عن رفضه للهجرة ولوجود جاليات مُسلمة مُؤثرة وكبيرة العدد، وهو ما وظّفه الحزب للحصول على التأييد الكامل لهذه التيارات.
3. المزاج الأوروبي العام: أصابت الناخب الأوروبي حالة من الملل من الاختيارات ما بين يمين الوسط ويسار الوسط، خصوصاً مع تقارب برامجهم بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وذلك بالتزامن مع طغيان خطابات الهوية، والخوف من المهاجرين والنزعات الوطنية، يدعم ذلك في الحالة الهولندية بقاء الحكومات الوسطية في سدة الحكم لمدة تجاوزت 11 عاماً، وهو ما أثار الرغبة في التغيير في نفوس الناخبين.
التأثيرات الداخلية:
ثمّة تأثيرات داخلية، قد يُسفر عنها صعود اليمين المُتطرف في الانتخابات الأخيرة في هولندا، ويمكن إلقاء الضوء عليها على النحو التالي:
1. التشدد إزاء الأقليات والهجرة: يُعد خطاب حزب الحرية ناقداً لوجود أعداد كبيرة من المسلمين بهولندا، كما أنه شديد الدعم لتقليص أعداد المهاجرين بها. ويشتهر فيلدرز، بخطاباته ووعوده السابقة التي أشار فيها إلى منع القرآن ومنع دخول المحجبات إلى المؤسسات الحكومية. وفي هذا السياق، فقد أشار في خطاب سابق له إلى أهمية تقليص أعداد المواطنين المغاربة، كما تعهد بمنع ما أسماه "تسونامي اللجوء" الذي يضرب بلاده، وهو ما سينعكس بالضرورة على سياساته حال نجاحه في تشكيل الحكومة. وقد يشمل ذلك تقليص أعداد الطلاب الدوليين الذي يدرسون في هولندا، أو وضع قيود على إلحاق أسرهم بهم، بالإضافة إلى التشدد في استقبال لاجئين جدد، ومزيد من الدعم للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس"، التي تعنى بمراقبة الحدود في منطقة شنغن الأوروبية، بالتنسيق مع قوات حرس الحدود والسواحل الوطنية.
2. تقليص الإنفاق الاجتماعي وتخفيض الضرائب: من المُتوقع أن يسعى فيلدرز، حال نجاحه في تشكيل ائتلاف حاكم، لتطبيق بعض الخطوات المرضية اقتصادياً لناخبيه، وقد يشمل ذلك التوسع في الإنفاق الاجتماعي وبالأخص الرعاية الصحية، وتخفيض الضرائب، وزيادة الاستثمار العام، وهي مسائل قد تؤدي إلى عجز بالموازنة الهولندية، وهو ما يعني ضمناً صداماً مُبكراً مع الاتحاد الأوروبي في ظل القواعد الأوروبية التي تنص على عدم تجاوز عجز الموازنة نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
3. زيادة موازنة التسليح والحد من الدعم المقدم لأوكرانيا: من المُتوقع حال نجاح حزب الحرية في تشكيل الحكومة أن يشرع في زيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى نسبة 2% التي يضغط حلف الناتو على دوله الأعضاء للوصول إليها، إلا إن دافعه لذلك يرتبط بالأساس برغبته في مزيد من الدوريات ومعدات ضبط الحدود لتقليص حركة المهاجرين.
وفيما يتعلق بتقديم الدعم لأوكرانيا، فربما يستمر الدعم المقدم لأوكرانيا تحت ضغط حلفائه أو في أطار حلف الناتو، لكن على الأرجح سيكون بوتيرة أقل من ذي قبل، إذ على الأرجح سيتراجع المجهود الهولندي الخاص بإمداد أوكرانيا بطائرات "أف 16"، يدعم ذلك موقف فيلدرز، عندما قرر عدم حضور خطاب الرئيس الأوكراني زيلينسكي، في البرلمان الهولندي في مايو 2023، بالإضافة إلى ظهور تسريبات تُشير إلى أن الكرملين قد بدأ في بناء علاقات وثيقة مع حزب "الحرية" منذ عام 2013، وهو ما دعمته زيارة قام بها فيلدرز نفسه للبرلمان الروسي في 2018 إذ نادى بوقف ما أسماها "روسيا فوبيا"، كما جاء موقفه رافضاً للعقوبات الأوروبية على روسيا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، مُعتبراً إنها أضرت الشعب الهولندي بوتيرة أكبر من روسيا.
4. القيود المفروضة على حرية حركة الحزب: سيواجه الحزب عدداً من القيود في طريق تطبيق برنامجه وأفكاره، يبدأ ذلك بصعوبة الوصول إلى ائتلاف حاكم، إذ تفرض عليه القواعد الانتخابية الحصول على 76 مقعداً لتشكيل الحكومة، وهو أمر صعب في ظل رفض غالبية الأحزاب الوسطية الاشتراك في حكومة يرأسها الحزب.
بالتوازي مع ذلك، فإنه حتى في حال تمكنه من تشكيل ائتلاف بمُشاركة أحزاب أخرى، فإن ذلك أيضاً سيُجبره على التخفيف من لهجة خطابه، بل وربما التنازل عن بنود رئيسية في برنامجه، مُدفوعاً في ذلك بمراعاة حلفائه المُحتملين، وعدم تعريض استمرارية حكومته للخطر، ولعل أبرز مثال على ذلك إعلان رئيس الحزب أنه سيضع موقفه من الإسلام "في الثلاجة"، وذلك قبل الانتخابات بأيام، الأمر الذي يؤشر على تراجعات أخرى مُحتملة بعد النتائج النهائية.
التأثير في الخارج:
تمكن الإشارة إلى أبرز التأثيرات الداخلية لفوز اليمين المتطرف في هولندا، على النحو التالي:
1. احتمالات تكرار النمط في الدول الأوروبية الكبرى: هناك عدد من المؤشرات التي تُشير إلى استمرار الصعود الاستثنائي لليمين المتطرف، بل وتهديده للتحالفات القائمة ببعض الدول الأوروبية الكبرى، فقد أفرزت الانتخابات المحلية الألمانية في مُقاطعتي "بافاريا"، و"هيس" نجاحات استثنائية لحزب "البديل لألمانيا" اليميني المُتطرف، ففي حين تمكن التحالف الحاكم من الفوز بالمقاطعتين، حصل "البديل لألمانيا" على 18% من الأصوات في "هيس"، و15% في "بافاريا" ليصبح ثاني أكبر الأحزاب حصولاً على أصوات في المقاطعتين، وتنبع أهمية هذه النتائج من عدة عوامل أهمها أن المقاطعتين إحداهما في الجنوب الشرقي والأخرى في الغرب، في حين أنه من المعتاد أن تكون مساحة اليمين بالشرق الألماني وليس غربه، بالإضافة إلى وجود مجتمعات متجانسة من المهاجرين بالمقاطعتين، ومن ثم كان من المنطقي أن تصوت المنطقتان باتجاه مخالف لليمين المتطرف.
هناك أيضاً فرنسا، إذ استطاعت رئيسة حزب "جبهة الإنقاذ الوطني" الحصول على 41% من الأصوات في آخر انتخابات رئاسية عام 2022 مقارنة بـ34% من الأصوات في انتخابات عام 2017، ووضعاً في الاعتبار أن الدستور الفرنسي يمنع الرئيس الحالي ماكرون، من الترشح لولاية ثالثة، مع ضعف الأحزاب التقليدية يميناً ويساراً تبرز مخاوف من ارتفاع حظوظ لوبان، في الانتخابات القادمة.
2. إجراء هولندا استفتاءً حول العضوية بالاتحاد الأوروبي: من المُتوقع أن يكون لهذه النتائج آثار مُرتبطة بالمواقف الهولندية تجاه الاتحاد الأوروبي، إذ وعد فيلدرز بإطلاق استفتاء حول عضوية هولندا في الاتحاد الأوروبي (NEXIT) على غرار الخروج البريطاني، وهو الأمر الذي سوف يحمل العديد من الدلالات منها دلالات رمزية من حيث كون هولندا إحدى الدول الست المؤسسة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب 1952 والتي عدت بمثابة نقطة انطلاق لتكوين الجماعة الأوروبية لتصير لاحقاً الاتحاد الأوروبي.
توجد أيضاً دلالات أخرى عملية مُرتبطة بطريقة اتخاذ القرارات داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فوفقاً لنظام الأغلبية المُؤهّلة الذي تؤخذ به غالبية قرارات مجلس الوزراء الأوروبي، فإن هولندا ضمن الـ 7دول ذات الثقل الأكبر وذلك لأن هذه الطريقة تأخذ في اعتبارها عدد سكان الدولة المصوّتة، بالإضافة إلى ذلك، سبق ودعا فيلدرز إلى تقليص الالتزامات المالية المُرتبطة بعضوية هولندا بالاتحاد الأوروبي وإلى استخدام الحق المكفول للدول في استبعادهم من بعض قرارات الاتحاد (opt out)، كما أنه رافض لفكرة انضمام أعضاء جدد للاتحاد، وهو ما سيُسهم في تعقيد المضي قدماً في عدد من السياسات الإصلاحية والتوسعية بالاتحاد.
3. التأثير في السياسات الأوروبية: إن تحقيق اليمين المتطرف لنجاحات متتالية قد يكون له آثاره على سياسات الحكومات الأوروبية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فمن جهة من المعروف أن اليمين أكثر تقارباً مع بعض القوى الإقليمية دون غيرها، على سبيل المثال هو دائماً ما يميل للمواقف الإسرائيلية. ومن جهة أخرى فإن نجاح الخطاب اليميني الخاص بتقليص الهجرة قد يدفع بعض القوى الأوروبية الوسطية الموجودة بالحكم إلى تبنيه أو الاقتراب منه بهدف الحفاظ على قواعدها الجماهيرية، ومن ثم وضع أولوية لمسألة الحد من الهجرة على ما عداها وما يوفره ذلك من مساحات حركة وتفاوض للدول المتوسطية وعلى رأسها تركيا.
وفي التقدير، يمكن القول إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا إلى سدّة الحكم، سواءً بشكل كامل أم جزئي، بات ظاهرة ليست فقط أوروبية، وإنما قد تكون عالمية أيضاً، وهو ما قد يدفع بالعديد من التداعيات سواءً الداخلية أم الخارجية، والتي يتمثل أبرزها في تهديد تماسك الكتلة الأوروبية وتزايد النزعات المتطرفة داخل الاتحاد، خاصة في ظل تنسيق الأحزاب اليمينية المتطرفة في البلدان التي حققت فيها انتصارات في الانتخابات، وما قد يسفر عنه ذلك من سياسات أكثر حدّة تجاه الأقليات والمهاجرين، وسياسات خارجية أكثر تبايناً.