أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

عواقب غير متوقعة:

لماذا لا تقود الابتكارات أحياناً إلى جودة الحياة؟

21 أغسطس، 2023


عرض: عبدالله عيسى الشريف

ثمة تصور عالمي سائد حول ارتباط تحقيق جودة الحياة في المجتمعات الحديثة بالقدرة على الاختراعات والابتكارات. إلا أنه بينما قد تستطيع تلك الاختراعات حل مشكلات موجودة في الواقع، لكن قد ينجم عنها عواقب غير متوقعة ليس من السهل التعامل معها في المستقبل. لذلك، يطرح كتاب فاكلاف سميل، المُعنون بـ:"الاختراع والابتكار: تاريخ موجز للدعاية والفشل" الذي صدر خلال العام 2023، منظوراً نقدياً للاختراعات من زاوية اجتماعية. ويُعد سميل، الأستاذ الفخري في جامعة "مانيتوبا" واحداً من أفضل 100 مفكرين عالميين، وفقاً لمجلة "فورين بوليسي".

يُلمح الكتاب في بدايته بأنه لا يدور حول العديد من الاختراعات الحديثة المميتة أو غير المرغوب فيها بقدر ما يتبنى نهجاً أكثر عمومية للإخفاقات الابتكارية، من خلال التركيز على حقيقة أن تدفق الاختراعات الناجحة التي أوجدت حضارة حديثة خلال 150 عاماً الماضية، صاحبه نقص محبط في التقدم في العديد من المجالات الرئيسية، فالنجاح أو الفشل هما نتيجة الاختيار الاجتماعي.

تأريخ الاختراعات:

يرى الكاتب أن تطور الجنس البشري هو تعبير عن تاريخ التغيرات الجسدية والسلوكية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنتائج الاختراع. ثم يحدد أربع فئات رئيسية للاختراع الذي يراه مظلة واسعة تشمل، أولاً، مجموعة متنوعة من "العناصر اليدوية البسيطة"، وثانياً، "الآلات"، وثالثاً، "المواد الجديدة" التي كانت علامة على تقدم الحضارة، والتي بدأت بالبرونز وانتقلت إلى الحديد والصلب والألومنيوم وغيرها، أما الفئة الرابعة، فتتمثل في طرق جديدة للإنتاج والتشغيل والإدارة، مؤتمتة وقائمة على جمع ومعالجة البيانات.

وعلى الرغم من تداخل معنى الاختراع والابتكار، لكن الكاتب يرى أنه من الأفضل فهم الابتكار على أنه عملية تقديم وتبني وإتقان مواد ومنتجات وعمليات وأفكار جديدة، ثم يجادل بأن التقدم التقني ليس مستقلاً، لأنه يتأثر بشدة بالظروف والسياقات الاجتماعية، وأن كل حل لمشكلة مُعقدة، وكل ابتكار يعد بأداء أفضل أو أرباح أعلى، يتراوح مدى انتشاره وشدته من الآثار الجانبية التي يُمكن التنبؤ بها ويُمكن تحملها والتحكم فيها، إلى عواقب غير متوقعة، لكنها مُحتملة الخطورة وليس من السهل التعامل معها.

يستدعي هنا الكتاب أمثلة عديدة من مواد مخترعة لتطوير حياة البشر لكن لها عواقب غير متوقعة، مثل، الـ"دي.دي.تي" كمبيد حشري، الذي يُعد تأثيره التراكمي مستمراً وفي نطاق واسع، إذ أصبحت تلك المادة واحدة من الآفات العضوية التي يجب التخلص منها. وفي عام 1971، بدأ التراجع عن استخدام تلك المادة في السويد، ثم جاء الحكم الوقائي الصادر عن وكالة حماية البيئة لمنعها في الولايات المتحدة في عام 1972، وبحلول عام 2001، تصدّر المُركب قائمة الاثنتا عشرة مادة كيميائية التي تم وضع علامة عليها في اتفاقية ستوكهولم للإزالة.

مبردات أم احتباس حراري؟

كمثال آخر، يرى الكاتب أن التبريد وتكييف الهواء مثالان مثاليان للتقنيات التي تُعد ضرورية لاستمرار الحضارة الحديثة. فقبل ظهور التبريد الحديث، اقتصرت خيارات حفظ المواد الغذائية والمشروبات على قطع الثلج ونقله وتخزينه. وجاء الاختراع الحقيقي للتبريد في عام 1834 عندما حصل بيركنز، على براءة اختراع لآلة ميكانيكية تستخدم سائلاً متطايراً، وهو "الإيثيل الإيثيلي" كمبرد، وقد أصبحت دورة بيركنز، أساساً لمشروعات التبريد التجريبية الصناعية الجديدة. 

في عام 1855، ظهر أول مصنع لصنع الثلج في كليفلاند، وفي عام 1861 تم إنشاء أول مصنع لتجميد اللحوم في سيدني. وقد أصبحت النماذج الأولى من ثلاجات الطعام الصغيرة متاحة في الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى مباشرةً. ثم بعد ذلك انتشرت الثلاجات المنزلية في أوروبا واليابان بعد الحرب، وبدأت ملكية الثلاجات في الانتشار في العائلات الحضرية الميسورة في البلدان منخفضة الدخل.

أدى انتشار المبردات في العالم إلى زيادة هائلة في إنتاج مركبات الكربون الكلورية فلورية، حيث ارتفع الإنتاج العالمي السنوي للمركبين "CFC-11، CFC-12" من أقل من 550 طناً في عام 1934 إلى أكثر من 50 ألف طن في عام 1950، ثم 813 ألف طن في عام 1974. وفي أعقاب ذلك، ربط العالم شيروود رولاند، الكلور الموجود في مركبات الكربون الكلورية فلورية بتدمير الأوزون مباشرةً. 

لذلك، جاءت اتفاقية فيينا لحماية الأوزون في عام 1985، ثم تبعتها مفاوضات بشأن معاهدة دولية مُلزمة للحد من مركبات الكربون الكلورية فلورية، ودعا بروتوكول مونتريال في عام 1987 إلى خفض الإنتاج بنسبة 50%. وجاءت تعديلات لندن للبروتوكول للتخلص التدريجي من مركبات الكربون الكلورية فلورية واستبدالها بمركبات الكربون الهيدروكلورية فلورية ذات التأثير المحدود في الأوزون، وإن كانت تأثيرات الأخيرة تتسبب في مشكلة بيئية أكثر صعوبة، وهي الاحترار العالمي.

بالنظر إلى الوراء، يبدو الآن أن البحث عن المبردات المثالية قد عاد بنا إلى الوضع الذي كان سائداً في أواخر عشرينيات القرن الماضي، ففي حين أعطانا الجيل الثاني من المبردات الأمان والقدرة على الاعتماد، لكن المركبات المستخدمة كانت تهدد بتدمير الأوزون، في حين أدى الجيل الثالث من المبردات إلى تقليل مشكلة الأوزون ولكنه أسهم في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

مخاطر الطاقة النووية: 

يتساءل الكاتب حول سبب قرار الولايات المتحدة بناء أول محطة لتوليد الطاقة النووية، فخلال أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ساد الحديث عن تخفيف الشعور بالذنب على هيروشيما، وأن التطور السلمي للانشطار ضروري لتوفير الراحة النفسية التي طال انتظارها بالإضافة إلى الأمل والفرص لتحقيق تقدم تقني جديد. 

لكن هذا الشعور كان فقط أحد العوامل التي غيرت النظرة النووية، حيث اتفق الرئيس أيزنهاور، آنذاك مع وزير خارجيته جون دالاس، على ضرورة لحاق الولايات المتحدة بركب الاتحاد السوفيتي وبريطانيا في ذات الأمر. إذ تم تغليب الاعتبارات السياسية على نظيرتها الاقتصادية، في السعي الأمريكي لتوليد الكهرباء النووية. وعلى الرغم من شكوك العلماء النوويين؛ استخدمت الولايات المتحدة مساعيها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية كأداة للحرب الباردة للتأثير في الدول المحايدة.

وقد أثر الدور الريادي للولايات المتحدة في تطوير الانشطار النووي على الاتجاهات العالمية، ففي عام 1973 كان هناك 132 مفاعلاً تُولد حوالي 173 تيراواط/ ساعة من الكهرباء. بعد 15 عاماً، وتحديداً في 1988 كان هناك أكثر من 3 أضعاف عدد المفاعلات التي تعمل في جميع أنحاء العالم بواقع 416. مع ذلك، أخذ هذا الاتجاه ركوداً في الدول الغربية، ففي عام 2020 كان لدى العالم 443 مفاعلاً عاملاً فقط، أي أكثر من 6% فقط قبل 3 عقود، ففي اليابان الخالية من النفط والغاز المحلي، والتي شرعت في التوسع في توليد الطاقة النووية، تسبب انهيار 3 مفاعلات في مارس 2011 في وقف المزيد من التوسع النووي. 

بالنظر إلى هذه الإخفاقات، فقد كان العلماء والمهندسون على دراية بتحديات المفاعلات النووية؛ من مخاطر الإشعاع، والخوف من الحوادث، والحاجة إلى اليقظة الدائمة، والمخاوف الأمنية، بما في ذلك الهجمات الإرهابية على المحطات النووية وانتشار الأسلحة.

أحلام النقل السريع:

يجادل الكتاب بأنه غير مهتم بسرد الأشياء المرغوبة عالمياً مثل القضاء على السرطان أو إطالة عمر الإنسان بشكل جذري لأن مثل هذه الأهداف تستند إلى مقدمات خاطئة. ففي الولايات المتحدة، كان القانون الوطني للسرطان لعام 1971، والذي أُطلق عليه "الحرب على السرطان" مجرد بداية لوضع أهداف مشكوك فيها، فبعد أكثر من نصف قرن من الزمان لا يزال السرطان هو ثاني أكبر سبب للوفاة في الولايات المتحدة.

ولا ينبغي أن يُنظر إلى الفشل في تحقيق أي تمديد جذري لعمر الإنسان على أنه وعد لم يتم الوفاء به، لأن معظم دول العالم حققت بالفعل امتداداً مثيراً للإعجاب لمتوسط عمر ما قبل الصناعة، حيث ضاعفته من حوالي 40 عاماً في عام 1800 إلى حوالي 80 عاماً بحلول عام 2000.

على النقيض من هذه الأهداف التي يتعذر تحقيقها، فقد ركز الكتاب على تراجع الإنجاز لبعض الاختراعات، مثل البحث الذي مضى عليه أكثر من قرنين من الزمان عن النقل السريع للأشخاص والبضائع داخل الأنابيب المفرغة، والاختراع الثاني الذي لم يتحقق بعد؛ وهو جعل نباتات الحبوب "القمح والأرز والذرة" تعمل كبقوليات وتأمين معظم احتياجاتها من النيتروجين عن طريق التكافل مع البكتريا بدلاً من الحاجة إلى جرعات كبيرة من الأسمدة الاصطناعية.

وفيما يتعلق بالسفر في فراغ "الهايبرلوب" "hyperloop alpha" باعتباره وسيلة نقل فائقة السرعة تعتمد على دمج أنابيب منخفضة الضغط وخالية من الهواء، فقد أعلن عنه إيلون ماسك، في أغسطس 2013 باعتباره وسيلة النقل الخامسة للركاب والبضائع، بخلاف الطائرات والقطارات والسيارات والمراكب.

لكن الكتاب يرى أن السجل التاريخي يُظهر أنه لا يوجد جديد حول هذه الأفكار، لأن النقلة الخامسة للنقل كانت موجودة منذ أكثر من 200 عام في كتابات المخترع الإنجليزي جورج ميدهيرست، وأنه خلال هذه الفترة وصولاً لعام 2013، تم تقديم العديد من براءات الاختراع، والمقترحات التفصيلية، ومع ذلك لم يتم الانتهاء من مشروع واحد للنقل السريع للغاية، ولم تسفر أي من هذه المساعي عن أي نتائج عملية.

هنا، يجادل الكتاب بأن تصريحات ماسك، بشأن بناء مشروعات "هايبرلوب" غير دقيقة، فأي شخص على دراية بالاستعدادات والتقييمات والمفاوضات المُعقدة التي تؤدي إلى الموافقة على أي مشروع بمليارات الدولارات، لا يصدق إمكانية التعاقد مع شركة ليس لديها خبرة وليس لديها سجل بالمشروعات المُنجزة، قادرة على بناء نفق بطول 600 كيلومتر لقطار بسرعة 1000 كيلومتر في الساعة، وما يؤكد أن مخططات النقل الجديدة هذه ليست وشيكة بأي حال من الأحوال، بل هي ضرب من الخيال، أنه بعد أكثر من 200 عام من أحلام النقل السريع، لا تزال البشرية تنتظر.

ختاماً، يشير الكاتب إلى أن أحد أهداف هذا الكتاب تتمثل في التذكير بأن النجاح ليس سوى نتيجة واحدة من نتائج السعي الدؤوب للاختراع، وأن الأحلام الجريئة للهيمنة على السوق قد تظل غير مُحققة، وأنه حتى بعد أجيال من الجهود فقد لا نكون أقرب إلى التطبيقات التجارية التي تم تصويرها لأول مرة منذ عقود، وما ينطبق على الماضي، من المُرجح أن يتكرر في المستقبل.

ويطرح الكاتب بعض المواقف التحذيرية بشأن التطورات التقنية الحديثة، حيث يحمل كل تقدم كبير في طياته مخاوف مُتأصلة فيه؛ سواءً تم تقديرها بشكلٍ فوري أو ظهورها بعد ذلك بوقتٍ طويل، كما أنه قد لا يكون التسرع في تأمين الأسبقية التجارية أو نشر التقنية هو الأكثر ملاءمة والوصفة طويلة المدى للنجاح، ولا يمكن الحكم على القبول النهائي، والملاءمة المجتمعية، والنجاح التجاري لاختراع معين خلال المراحل الأولى من اختراعه.

المصدر:

Vaclav Smil, Invention and Innovation: A Brief History of Hype and Failure, The Massachusetts Institute of Technology (MIT) PRESS, 2023.