تواجه روسيا حرباً اقتصادية مفتوحة مع الغرب وحلفائهم حول العالم، وبدأت تلك المعركة مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والذي كان يعاني معدلات نمو منخفضة نتيجة لتأثيرات كوفيد - 19 وتباطؤ التعافي من الجائحة، بالإضافة إلى عبء العقوبات المفروضة منذ ضم شبه جزيرة القرم منذ 2014.
ويكشف استخدام ديميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي للكرملين، لتعبير "حرب اقتصادية أمريكية مفتوحة" ضد موسكو عن وجود أدوات روسية للرد أو للدفاع عن نفسها في خضم هذه الحرب الاقتصادية "الشرسة" لضمان مصالحها الخارجية ومكاسب انفتاحها الاقتصادي والتجاري على العالم.
إجراءات روسية مضادة:
تتلخص الإجراءات التي اتخذتها، أو قد تلجأ إليها موسكو مستقبلاً للرد على العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب في التالي:
1- تسديد الديون بالروبل الروسي: أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً بقرار وجه فيه الحكومة بتأكيد أحقية الشركات الروسية مديونياتها لجهات مالية غربية بتسديد مستحقاتها المالية بالعملة المحلية، وليس بالدولار الأمريكي. ويلاحظ أن الروبل قد انخفضت قيمته بحوالي خمسين بالمئة هذا العام، جراء العقوبات الأمريكية، وهو ما يعني أن الدول والشركات الغربية سوف تتضرر من جراء انخفاض قيمة الروبل أكثر بسبب العقوبات الأمريكية. كما أن هذا الإجراء من شأنه أن يقلل من السحب من احتياطات روسيا من العملات الأجنبية.
2- وضع قائمة بالدول غير الصديقة: أقرت موسكو قائمة من الدول التي اتخذت إجراءات "غير ودية" ضد المواطنين الروس، ومن المتوقع أن تشهد تلك الدول عقوبات اقتصادية واسعة النطاق متدرجة، وفقاً للخطوات التي اتخذتها كل دولة ضد موسكو، في خطوة تصعيدية روسية.
وعلى الرغم من عدم إعلان روسيا بعد قائمة تفصيلية بهذه العقوبات، فإنه من الملحوظ أن هذه الخطوة تأتي لردع الدول غير الغربية عن التجاوب مع العقوبات الأمريكية.
3- الالتفاف على الهيمنة المالية الأمريكية: قامت روسيا على مدار السنوات بتطوير الروبل الرقمي؛ حيث قد تلجأ الشركات لتمرير عملياتها المالية من خلال تقنيات البلوك تشين، نظراً لصعوبة تحديد تلك العمليات لوجودها خارج نطاق النظام المصرفي الرسمي العالمي، وخارج سيطرة الدول الغربية.
وقد سجلت التحركات الروسية في البلوك تشين زيادة قدرها 3 مرات منذ بداية فبراير هذا العام. وقد يساعد إطلاق الصين عملتها الرقمية (E-CNY) على الحفاظ على الاحتياطي النقدي الأجنبي الروسي واستخدامها في تعاملاتها مع الصين.
4- تقييد الصادرات الروسية: أصدرت روسيا قرارات بتقييد تصدير السلع الزراعية والمواد الأولوية، مثل القمح للدول التي تمنع رسو السفن الروسية في موانئها حيث تساهم روسيا بنصيب كبير جداً من تجارة المواد الغذائية والحبوب التي تشكل حجر زاوية سلة غذاء العالم، خصوصاً للدول الأفقر، وبالتالي قد تستخدم روسيا هذا السلاح، كما أن الصراع المسلح الجاري في أوكرانيا، قد يفاقم من ارتفاع أسعار تلك السلع، خاصة أن الأخيرة تعد منتجاً محورياً للعديد من السلع الزراعية الرئيسية، وجود مخاوف من عجزها عن تصديرها.
كما تصدر روسيا نسبة كبير من واردات الدول الأوروبية من مواد أولوية ومعادن نادرة مهمة، ومنها النحاس والبلاديوم والألمنيوم وغيرها، وقد تتضرر الصناعات الأوروبية، خصوصاً التكنولوجية، إذا قررت الحكومة الروسية منع تصدير تلك المواد الخام حتى نهاية 2022 بهدف الرد على الدول "غير الصديقة" لروسيا الاتحادية.
5- ارتفاع أسعار النفط والغاز: تعتمد دول منطقة اليورو على روسيا للحصول على 30 – 40% من وارداتها من الغاز الطبيعي، وحوالي ربع احتياجاتها من النفط؛ ونتيجة لذلك توجد توقعات بحدوث معدلات تضخم قد تصل إلى 4% بنهاية مارس 2022؛ نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز.
كما توجد توقعات في حالة استمرار الحرب، بانكماش الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بين 0.3% و1.5%، خاصة مع ارتفاع التضخم إلى 5.8% في فبراير الماضي، وقد يزداد تدهور هذه المؤشرات الاقتصادية مع استمرار الحرب.
6- وقف التعاون الفضائي مع أوروبا: اتجهت روسيا خلال تلك الأزمة إلى استخدام تفوقها الفضائي وزيادة أنشطتها الفضائية عن منافسيها؛ حيث ألغت وكالة الفضاء الاتحادية الروسية جميع عمليات إطلاق الصواريخ للشركة البريطانية (One Web) رداً على عقوبات لندن على موسكو، كما قررت الوكالة إيقاف مهمة مشتركة مع أوروبا كانت مخططة للمريخ هذا العام.
وقررت روسيا قطع إمداداتها للولايات المتحدة من المحركات الخاصة بالسفن الفضائية، والتي تستفيد منها الولايات المتحدة وحصلت على 180 منها منذ تسعينيات القرن الماضي، كما أن لوكالة الفضاء الاتحادية الروسية "روسكوسموس" دوراً مهماً في الحفاظ على سيران محطة الفضاء الدولية في مدارها وتفادي النفايات الفضائية، وبالفعل هددت روسيا بالانسحاب من المحطة.
تطورات استراتيجية داعمة:
تعول موسكو على بعض المتغيرات الدولية الاقتصادية والجيوسياسية في صدامها مع الغرب، والتي يمكن أن تساندها في مواجهة الحرب الاقتصادية الغربية، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- الدعم الصيني الاقتصادي والسياسي: أكدت الصين رفضها التدخل العسكري الروسي ضد أوكرانيا، كما أكدت أهمية المحافظة على سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، غير أنها، في الوقت ذاته، عبرت عن رفضها التام العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا عدة مرات.
وأفادت تقارير برغبة صينية في الاستثمار في قطاع الطاقة الروسي من خلال شراء حصص في الشركات العاملة في مجال الطاقة الروسية. كما ستقوم البنوك الروسية الواقعة تحت العقوبات الاقتصادية باستخدام خدمات "يونيون باي" (UnionPay) الصينية المتوفرة في 180 دولة حول العالم كبديل لماستر كارد وفيزا.
وجدير بالذكر أن العلاقات بين موسكو وبكين تتسم بالثقة المتبادلة؛ حيث تشير التقارير الغربية إلى أن موسكو سحبت معظم قواتها الموجودة على الحدود الصينية لدعم عملياتها العسكرية في أوكرانيا؛ ويرجع المحللون ذلك إلى تفاهم صيني – روسي واسع بخصوص أهمية إعادة رسم خريطة القوى الدولية، وتعطيل الهيمنة الأمريكية على السياسة الدولية.
2- اللعب على الانقسامات الأطلسية: يظهر الغرب، الآن، موحداً ضد روسيا، ولكن الوضع لم يكن كذلك قبل بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير؛ حيث كانت توجد مواقف أوروبية أكثر تميزاً عن واشنطن، وكان أبرزها التفاوض من خلال صيغة نورماندي، والمساعي الفرنسية – الألمانية لإيجاد حل أوروبي للأزمة.
ويرجع ذلك في جانب منه إلى اختلاف طبيعة الترابط الاقتصادي بين روسيا من جانب، وكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الجانب الآخر، فالتصعيد الأوروبي سيتوقف عند واردات الغاز والنفط. كما تعول موسكو على أنه مع انتهاء الحرب الأوكرانية ستعود الدول الأوروبية للتعامل مع روسيا بصورة برجماتية، خاصة أنه ليس هناك أية بدائل رخيصة للغاز الروسي.
3- النيران الصديقة للعقوبات الاقتصادية: يعاني الاقتصاد الروسي حتماً بسبب قسوة العقوبات الاقتصادية الغربية التي تقارب العقوبات الأمريكية على إيران وكوريا الشمالية، كما أنه من المتوقع ظهور فعالية العقوبات اقتصادياً على المدى القصير.
وفي المقابل، فإن هناك آثاراً سلبية مؤكدة على الدول الفارضة للعقوبات الاقتصادية، نظراً لحجم موسكو في التبادلات الاقتصادية العالمية، وانكشاف العديد من الدول الغربية على الواردات الروسية، خصوصاً على المواد الأولية والمنتجات الروسية عالية التقنية.
4- امتلاك فيتو بلا نهاية: تتمتع روسيا بحق الفيتو في مجلس الأمن الدولي؛ وبالتالي لديها إمكانية تعطيل أي قرار دولي من مجلس الأمن ضدها أو حتى يدين خطواتها العسكرية في أوكرانيا، الأمر الذي يكبل الأمم المتحدة في هذا الشأن وستكون الأمم المتحدة قادرة فقط على إصدار بيانات شجب وتنديد من جمعيتها العمومية والتي لا تعدو إلى أن تكون مجرد بيانات إعلامية لا يوجد لها تطبيق على أرض الواقع.
5- الردع النووي والدمار المتبادل الكلي: تعول موسكو كثيراً على ترسانتها النووية لردع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي عن التدخل بشكل مباشر في الصراع الأوكراني؛ بسبب وجود إدراك بين القوى النووية في العالم بأن حدوث حرب بين طرفين نوويين قد يعني دماراً كاملاً للطرفين، وهو ما يجعل للدعم الأمريكي لأوكرانيا سقفاً لا تتجاوزه، وذلك على غرار إعلان واشنطن رفضها مقترح بولندا بإمداد أوكرانيا بمقاتلات روسية قديمة.
6- التفاوض هو الحل في النهاية: لجأت موسكو للتدخل العسكري في أوكرانيا بعد نفاد صبرها من رفض واشنطن عدم إعطاء ضمانات أمنية موثوقة لموسكو بعدم توسع حلف الأطلسي، فضلاً عن تلويح الرئيس الأوكراني في فبراير الماضي بإمكانية امتلاك بلاده السلاح النووي.
وتبقي موسكو على باب المفاوضات مفتوحاً إلى جانب استمرار العمليات العسكرية، وذلك للتأكيد على استعدادها لوقف إطلاق النار في أي وقت تتم فيه الاستجابة لمطالبها، والتي تتضمن حيادية أوكرانيا، ونزع سلاحها، والاعتراف بانفصال الدونباس والقرم.
7- تأمين موسكو ضد العقوبات: عمل الكرملين خلال السنوات الماضية على بناء درع واقية يمكن الاتكاء عليها حالة فرض عقوبات اقتصادية ضده، تتمثل في وجود احتياطي من العملات الأجنبية المتنوعة (رابع أكبر احتياطي نقدي في العالم)، والحفاظ على معدلات منخفضة من الدين العام والخاص، وزيادة التجارة مع الشرق الآسيوي، خصوصاً مع الهند والصين، مع الابقاء على الاعتمادية الأوروبية على واردات الطاقة الروسية.
وفي الختام، من الواضح أن موسكو ستستمر في توظيف المقاربة العسكرية للصراع الأوكراني، ولن تردعها العقوبات الاقتصادية الغربية عن وقف العمليات العسكرية، كما يأمل الغرب، إذ لاتزال روسيا تصمم على تنفيذ كامل أهدافها، التي دفعتها لإعلان الحرب على أوكرانيا، إما سلماً، أو حرباً.