يوحي مؤتمر "بغداد للتعاون والشراكة" بأن العراق مُقبل على تبني اتجاه استراتيجي يرتكز على بناء شراكات اقتصادية وسياسية إقليمية جديدة، بعيداً عن دائرة نفوذ "المحور الإيراني – الصيني"، وهو يبدو اختباراً صعباً للحكومة العراقية الراهنة، حيث تنتشر بالعراق تيارات سياسية وميليشيات عسكرية ولاؤها الأساسي لإيران. وتسعى الحكومة العراقية للتغلب على تلك العراقيل من خلال بناء شراكة ممتدة مع القوى الدولية والإقليمية الساعية لكي يخرج العراق من فلك التأثير الإيراني الواسع.
هيمنة اقتصادية
تنطلق السياسة الخارجية الجديدة للعراق من واقع راهن يستحوذ فيه المحور الصيني – الإيراني على محركات محورية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق، وعلى آليات توفير الخدمات العامة للمواطنين، لا سيما في ملفات الطاقة، والكهرباء، والتشييد والبناء، والسلع الغذائية، ناهيك عن ميزان التجارة الخارجية الذي يحقق عجزاً عراقياً لصالح كل من الصين وإيران. ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- استحواذ تجاري صيني: تشير البيانات الرسمية العراقية الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن الصين هي أكبر مُصدر للسلع غير النفطية للعراق، وبما نسبته 15.8% من إجمالي الواردات العراقية عام 2020، ثم كوريا الجنوبية بنسبة 14.3%، وأوكرانيا بـــ 11.1%، بينما جاءت إيران في المركز الرابع بنسبة 9.2%. وفي المجمل، يعتمد العراق على آسيا في توفير احتياجاته من السلع غير النفطية، وبنسبة كبيرة تصل إلى حوالي 52.4% من إجمالي الواردات العراقية.
وبالنظر إلى هيكل بيانات التجارة الخارجية لما قبل عام الجائحة 2020، نجد أن إيران كانت تحل كأكبر مٌصدر للسلع غير النفطية للعراق بواقع 30.1% من إجمالي الواردات العراقية في عام 2017، ثم تراجعت إلى ثاني أكبر مصدر بواقع 14.3% عام 2019. في حين تقدمت الصين من ثالث أكبر مُصدر للعراق بواقع 11.1% من إجمالي الواردات عام 2017 إلى أكبر مصدر بواقع 27.1% من الإجمالي عام 2019.
2- استثمارات حيوية: تلعب الشركات الصينية والإيرانية دوراً محورياً أيضاً في الاقتصاد العراقي، حيث تشارك في عدد من القطاعات الحيوية، مثل الطاقة والبنية التحتية والتشييد وغيرها. ويبلغ عدد الشركات الإيرانية بالعراق، طبقاً للتصريحات الرسمية الإيرانية، 79 شركة عام 2018، تعمل في قطاعات الطاقة والكهرباء والتشييد والبناء وباستثمارات قدرها 8 مليارات دولار.
أما استثمارات الصين، فقد شهدت في العامين الأخيرين توسعاً لافتاً في السوق العراقي. وحتى عام 2020، وصلت رؤوس الأموال الصينية بالعراق إلى نحو 12.8 مليار دولار وفق مؤشر تعقب الاستثمارات الصينية الصادر عن معهد أنتربرايز الأمريكي، ويتركز أغلبها في قطاعي النفط والغاز الطبيعي. كما تخطط الصين لتوسيع استثماراتها في العراق بأنشطة جديدة بالعراق، وقد أعلنت في العام الماضي عن نيتها ضخ استثمارات صناعية في محافظة المثنى العراقية بقيمة 20 مليار دولار.
اعتبارات عديدة
تسعى الحكومة العراقية لمجابهة النفوذ الاقتصادي الصيني – الإيراني في العراق، من خلال الاتفتاح الاقتصادي الاقتصادي على الدول العربية، لاسيما مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب الأردن. وقد جاء هذا التحرك مدفوعاً بعدد من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية، وأبرزها التالي:
1- تنويع مصادر التمويل: يحتاج العراق لأموال كبيرة لمساعدته في سد فجوة البنية التحتية، وإعادة إعمار المحافظات الشمالية التي تأثرت نتيجة سنوات الحرب الثلاث ضد تنظيم داعش. ويتطلب العراق ما يقارب 88.2 مليار دولار لدعم جهود الإعمار وإعادة تأهيل مرافق الأساسية من طرق وكباري ومستشفيات وغيرها بالمدن الشمالية.
2- الغضب الشعبي من النفوذ الإيراني: شهد العراق احتجاجات شعبية واسعة النطاق منذ أكتوبر 2019، امتدت على مدار أسابيع، والتي عُرفت بــ "احتجاجات تشرين"، وتمثل أحد أسباب الغضب الشعبي في هيمنة الميليشيات العراقية الموالية لإيران على مفاصل السياسة الداخلية للعراق، وبما في ذلك الأنشطة الاقتصادية.
وعليه؛ فإن مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة العراقية الحالية، يسعى لتهدئة الشارع الغاضب من النفوذ الإيراني من خلال إعلاء توجه جديد نحو بناء شراكات استراتيجية عربية.
3- التهديد الإيراني لإمدادت الطاقة: يعتمد العراق على توليد نحو ثلث الطاقة الكهربائية على إمدادات الغاز القادمة من إيران، وذلك بموجب العقد الموقع بين شركة الغاز الوطنية الإيرانية مع وزارة الكهرباء العراقية في عامي 2013 و2015، لنقل الغاز الإيراني إلى أربع محطات كهرباء عراقية. إلى جانب ذلك، يستورد العراق الكهرباء من إيران عبر أربعة خطوط كهربائية.
وقامت إيران بتخفيض صادراتها إلى العراق من الغاز الطبيعي من 47 مليون متر مكعب إلى 25 مليون متر مكعب في الأشهر الماضية، وذلك بدعوى عدم سداد الحكومة العراقية مستحقات الشركات الإيرانية، ما أدى إلى تفاقم أزمة الكهرباء في العراق. ونتيجة تراجع الإمدادات الإيرانية من الغاز، فقدت المنظومة الكهربائية العراقية قرابة 2600 ميجاوات. وزاد من الخسارة توقف صادرات الكهرباء الإيرانية للعراق تماماً منذ شهر مايو الفائت.
4- مواجهة التهديد التركي للمياه: أدى السلوك التركي الخاص ببناء مزيد من السدود على نهري الدجلة والفرات، إلى جانب الاستخدام غير العادل لموارد مياه النهرين، إلى تفاقم أزمة المياه في العراق، واشتداد خطر الجفاف في العديد من المحافظات العراقية.
وهنا، تستخدم تركيا ملف المياه، إلى جانب دورها في نقل النفط العراقي عبر خط أنابيب كركوك – جيهان للضغط على العراق في الملف الكردي. وتطالب تركيا بصفة متكررة العراق بعدم تقديم أي دعم لحزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق، وهي الاتهامات التي تطلقها أنقرة للتغطية على وجود قواعد تركية في شمال العراق مخصصة لمكافحة الحزب، ومن دون موافقة الحكومة العراقية.
مصالح عراقية – عربية متصاعدة
يسعى العراق إلى مواجهة نفوذ الميليشيات والتحالفات الداخلية الموالية لإيران، من خلال الاستعانة برؤوس الأموال والخبرات العربية في المشاريع الحيوية بالعراق، ويتضح ذلك من خلال المؤشرات التالية:
1- تعزيز الربط الكهربائي: يسعى العراق لاستبدال إمدادات الغاز الإيراني في تشغيل محطات الكهرباء، عن طريق الحصول على قدرات إضافية من شبكات الكهرباء بالدول العربية المجاورة. وقد بدأت الحكومة العراقية في السنوات الأخيرة التشاور مع عدة أطراف عربية، مثل دول الخليج والأردن لتعزيز ربط الشبكات الكهربائية العراقية معها. وعلى هذا النحو، وقعت وزارة الكهرباء العراقية في عام 2019 اتفاقية مع مجلس التعاون الخليجي لإنشاء خطين لنقل الطاقة الكهربائية بطول 300 كيلومتر بين العراق والكويت.
كما يعمل العراق على استيراد الكهرباء من مصر عبر الأردن بموجب "مشروع الشام الجديد" عام 2020، والذي يجمع بين مصر والعراق والأردن، ويهدف لتعزيز التعاون الثلاثي بين تلك الأطراف في عدة مجالات للتعاون منها التعاون في نقل النفط والكهرباء.
2- الانفتاح على الاستثمارات العربية: أبدت الحكومة العراقية استعدادها لفتح السوق العراقي أمام الاستثمارات العربية، ويتضح ذلك جلياً في توقيع الجانب العراقي مع نظيره المصري نحو 15 اتفاقية ومذكرة تفاهم في نوفمبر 2020، على نحو يؤسس لشراكة في الأعمال بين الجانبين في مجالات مختلفة، لاسيما في البناء والتشييد.
وعلى جانب آخر، يتطلع العراق إلى الاستعانة بالخبرات الإماراتية في مجالات مختلفة، مثل الاقتصاد الرقمي ورقمنة الخدمات الحكومية على وجه الخصوص، بالإضافة للطاقة المتجددة.
وسوف تقوم شركة أبوظبي لطاقة المستقبل "مصدر" الإماراتية بتطوير مشاريع طاقة شمسية في العراق بقدرة 2 جيجاوات، بموجب اتفاق مع الحكومة العراقية في يونيو 2021. ويأتي ذلك في ضوء تعهدات إماراتية بضخ استمثارات بقيمة 3 مليارات في العراق في المستقبل. وعلاوة على ما سبق، فقد أسس العراق والسعودية صندوقاً مشتركاً للاستثمار في العراق بقيمة 3 مليارات دولار، مما يفتح آفاقاً جديدة للاستثمارات العربية في العراق.
3- المشاركة في إعادة الإعمار: خلفت الحرب على التنظيم الإرهابي داعش دماراً هائلاً في العراق، والذي يسعى إلى مواجهته من خلال جمع تمويلات واستثمارات دولية وعربية لإعادة إعمار المدن الشمالية.
وفي عام 2018، تعهدت دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها الإمارات والسعودية بتقديم مساعدات مالية كبيرة لإعادة إعمار العراق على هامش مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق. وجددت دول المجلس رغبتها للمشاركة في إعادة إعمار العراق وحشد التمويلات اللازمة لذلك، ومن المقرر أن تعقد مؤتمر مخصص لذلك تحت عنوان "مؤتمر الإعمار والاستثمار الخليجي – العراقي" في الفترة القادمة.
حدود الشراكات:
تتوقف مؤشرات توجه العراق نحو تفعيل محور عراقي – عربي اقتصادي على عدد من الاعتبارات، ويمكن استعراضها كالتالي:
1- مساندة المؤسسات الرسمية: قد تسعى التيارات السياسية العراقية الموالية لإيران لكبح توسع العراق نحو بناء شراكات اقتصادية مع محيطه العربي. غير أن القوى المناهضة لإيران كذلك لها تأثيرها على السياسة العراقية، وسوف تعمل على الحد من هذه التداعيات السلبية، إذ إن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، يسعى لتوطين الشراكة العربية – العراقية، لما يمثله ذلك من أهمية حيوية للاقتصاد العراقي والمواطنين.
2- توفير الأمن: يفرض انتشار الميليشيات العسكرية الموالية لإيران، والجماعات المسلحة المختلفة تهديدات أمنية محتملة للمشاريع العربية في العراق. وهذا، ما يمكن استخلاصه من خلال تهديد تلك الميليشات للمصالح الأمريكية بالعراق، على نحو دفع الشركات الأمريكية للخروج من السوق العراقي. ومن ثم، ينبغي على الحكومة العراقية تقديم ضمانات للشركاء العرب، بحماية استثماراتهم ومشاريعهم بالسوق العراقي.
3- تحسين بيئة الاستثمار: تعاني بيئة الاستثمار في العراق صعوبات مختلفة بما في ذلك تباطؤ الإجراءات الحكومية، وانتشار الفساد، إلى جانب عدم توفير حوافز للمستثمرين. وعليه، يتعين على الحكومة العراقية أن تعمل في الفترة المقبلة على إزالة العقبات الاستثمارية كافة أمام المشاريع العربية في المستقبل.
وأخيراً؛ يمكن القول إن العراق يبدو جاداً نحو بناء شراكات اقتصادية واسعة مع المحيط الإقليمي والعربي، بما يدعم الاقتصاد العراقي، ويخدم مصالح الشعب العراقي، غير أن ذلك يتطلب شرطاً رئيسياً يتمثل في توفير بيئة آمنة للاستثمارات العربية.