يواصل المسئولون الإيرانيون في الوقت الحالي التركيز على قضية الحضور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا. إذ هاجم الرئيس حسن روحاني الوجود الأمريكي في الدولتين خلال اتصاله الهاتفي مع الرئيس العراقي برهم صالح في 14 أبريل الجاري. كما دعا أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني علي شمخاني، خلال اجتماعه مع مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي قبل ذلك بيومين، إلى الاسراع في تنفيذ قانون البرلمان العراقي بشأن خروج القوات الأمريكية من العراق، وقال أن "خروج القوات الأمريكية من العراق سيساهم في تقوية وتعزيز الاستقرار في المنطقة".
دافعان رئيسيان:
يمكن تفسير حرص إيران على شن حملة ضد الحضور الأمريكي في العراق وسوريا في ضوء عاملين رئيسيين: يتمثل أولهما، في الرؤية التي تتبناها طهران وتقوم على أن الطابع الاستشاري والموافقة الرسمية يغيبان عن الحضور الأمريكي، حيث يزعم المسئولون الإيرانيون أن "الحضور الأمريكي في العراق وسوريا لا يتمتع بنفس الشرعية التي يحظى بها الحضور الإيراني في البلدين"، وأن "إيران تتواجد في سوريا والعراق بصورة استشارية وليست عسكرية".
ويتعلق ثانيهما، بدعوة طهران لواشنطن لـ"الانصياع إلى رغبة الشعبين العراقي والسوري"، إذ ترى الأولى أن "خروج القوات الأمريكية من العراق وسوريا يجب أن يتم استجابة إلى رغبة الشعبين العراقي والسوري"، وذلك في إشارة إلى تصويت البرلمان العراقي في 5 يناير 2020 على قرار ملزم للحكومة بإنهاء الحضور الأجنبي، ومن ضمنه الأمريكي في البلاد. يُضاف لذلك الحديث الإيراني عن أن "الشعب السوري لا يرغب في استمرار تواجد الجيش الأمريكي في البلاد". وبالطبع، فإن ذلك يهدف، في قسم منه، إلى تقليص الضغوط المفروضة على إيران بسبب التداعيات التي تفرضها تدخلاتها الإقليمية المختلفة، والتي أدت إلى إطالة أمد الأزمات الإقليمية وعرقلة جهود تسويتها.
اعتبارات مختلفة:
على الرغم من أن الرفض الإيراني للحضور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا يمثل توجهاً مستقراً تم التعبير عنه بصورة متكررة على لساب كبار المسئولين الإيرانيين، إلا أن وتيرة هذا الرفض تسارعت بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة. ويمكن فهم التصعيد الحالي من جانب المسئولين الإيرانيين ضد الحضور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز الضغوط الإيرانية ضد واشنطن: تعتبر تصريحات المسئولين الإيرانيين الهجومية ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا جزءاً من سياسة الضغوط المكثفة التي تتبعها طهران منذ قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، وذلك من أجل تقليص سقف توقعات وطموحات واشنطن بشأن البرنامج النووي الإيراني. وقد تبنت إيران في هذا الإطار جملة من التدابير التصعيدية التي تستهدف الضغط من خلالها على إدارة بايدن. ويُشار في هذا الصدد إلى أن تصاعد التصريحات الإيرانية ضد الحضور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا يتواكب مع المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران في فيينا بشأن البرنامج النووي.
2- مناوئة الترتيبات الدفاعية الأمريكية في البلدين: من اللافت أن هجوم المسئولين الإيرانيين على الحضور العسكري الأمريكي في العراق تصاعد في أعقاب ظهور مؤشرات تكشف عن حرص واشنطن على اتخاذ جملة من التدابير التي تستهدف حماية وتأمين الحضور الأمريكي في الساحتين العراقية والسورية من المخاطر التي باتت تحدق بهذا الحضور، خاصةً من الميليشيات الموالية لإيران. وتتضح تلك التدابير من خلال التقارير التي رجحت في 3 مارس الماضي أن تقوم الولايات المتحدة بنشر نظام الصواريخ الدفاعية "أفنجر" في سوريا والعراق لحماية القوات الأمريكية في الساحتين من التهديد المتزايد الذي تشكله الطائرات من دون طيار.
يُضاف لذلك التقارير التي برزت في أواخر يناير الماضي، والتي تشير إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" تدرس إمكانية إرسال قواتها التي تنتشر في عموم العراق بموافقة الحكومة المركزية، والمكونة من 2500 جندي، إلى إقليم كردستان العراق.
ويكمن قلق المسئولين الإيرانيين من تلك الترتيبات في أنها قد تقلص من فاعلية الاستراتيجية الإيرانية الجديدة المضادة لواشنطن في العراق، والتي تتمثل في الاعتماد على ما يمكن تسميته بـ"ميليشيات الظل" في مواجهة الحضور الأمريكي. وسبق وأشارت تقارير عديدة مؤخراً إلى أن إيران تستخدم حالياً أكثر من 12 جماعة مسلحة غامضة في العراق للتغطية على قيام الميليشيات الحقيقية المعروفة بهجمات ضد الحضور الأمريكي في العراق.
3- القلق من تجدد الهجمات الأمريكية ضد الأهداف الإيرانية: لا ينفصل تصعيد المسئولين الإيرانيين ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا عن الحرص الأمريكي الأخير على إظهار القوة الرادعة ضد إيران في العراق وسوريا، وبدا ذلك جلياً في الضربات التي قام بها الجيش الأمريكي، في 25 فبراير الماضي، على مواقع ميليشيات عراقية موالية لإيران في شرق سوريا، والتي أدت، حسب تقارير عديدة، إلى مقتل حوالي 17 عنصر على الأقل. وقد تم تنفيذ تلك الضربات في أعقاب الهجوم الذي تعرضت له مدينة أربيل وكذلك القصف المتجدد للمنطقة الخضراء في بغداد.
4- تحريض الميليشيات الموالية لإيران على مواصلة التصعيد: تتضمن تصريحات كبار المسئولين الإيرانيين رسالة تحريض غير مباشرة للميليشيات الموالية لإيران في الساحتين العراقية والسورية لمواصلة التصعيد الكلامي والميداني ضد الحضور العسكري الأمريكي فيهما، وهو الأمر الذي يعني أن إيران عازمة على الاستمرار في مسعاها الحالي للتصعيد عبر وكلائها في العراق وسوريا، خاصةً بعدما أدركت حرص إدارة بايدن على الإبقاء على الحضور العسكري في الساحتين. ولا يبدو أن ذلك ينفصل عن استياء إيران من التفاهمات العراقية- الأمريكية الأخيرة خلال الجولة الثالثة للحوار الاستراتيجي التي عقدت في 7 أبريل الجاري، وذلك لنجاح واشنطن في تثبيت الحضور العسكري الأمريكي في العراق عبر آلية التدريب والاستشارة.
في النهاية، من الواضح أن تصعيد المسئولين الإيرانيين ضد الحضور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا يتوافق مع تزايد قلق طهران من التدابير الدفاعية والهجومية التي لجأت إليها واشنطن في الساحتين منذ قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة، ورؤيتها لمدى محورية الدولتين في خدمة أجندتها الإقليمية. كما أنه يأتي في سياق حرص طهران على مقايضة الملفات مع واشنطن، خاصةً مع مواصلة انعقاد مفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة أمريكية غير مباشرة.