أعاد حادث "الفرحاتية" التابعة لقضاء بلد بمحافظة صلاح الدين، الذي وقع في 17 أكتوبر الجاري وأسفر عن مقتل 8 أشخاص فيما لا يزال مصير 4 آخرين مجهولاً، تسليط الضوء مجدداً على هشاشة الحالة الأمنية في المحافظة السنية التي تشهد حضوراً واسعاً للعديد من المليشيات الشيعية، ما جعل الكثير من المراقبين يستدعون مراحل الاقتتال الطائفي التي شهدتها المحافظة، والعراق عموماً، بين عامى 2006 و2007، حيث وجهت العشائر وذوو الضحايا الاتهامات هذه المرة إلى مليشيا "الحشد الشعبي" التي أحالت بدورها تلك الاتهامات إلى تنظيم "داعش"، مشيرة إلى أنها تتعرض لعمليات عنف انتقامي بين الحين والآخر في المنطقة ذاتها من جانب التنظيم، آخرها كان قبل الحادث بيوم، بينما اتجه فريق ثالث إلى إلقاء المسئولية على عناصر خارجة عن القانون بشكل عام، وهى ظاهرة باتت متنامية على الساحة العراقية، تتوازى مع ظاهرة أخرى خاصة باندلاع أعمال عنف إثنية، حيث كان لافتاً تزامن الحادث مع إحراق مسلحين لمقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد.
اختبار رئيسي:
يمثل هذا الحادث اختباراً رئيسياً للحكومة العراقية الانتقالية، على الصعيد الأمني، في مواجهة تنامي حوادث العنف المختلفة على أيدي مسلحين مجهولين. فوفقاً لتقارير وتقديرات محلية، فإن الحكومة تسارع إلى تشكيل لجان تحقيق في تلك الحوادث، لكن الغالبية منها لم تقدم، حتى الآن، نتائج تذكر في الكشف عن المسئولين عن تلك الجرائم، الأمر الذي يضاعف من تعقيدات المشهد، في ظل عدم حسم التكهنات حول مصدرها ودوافعها وأهدافها.
وربما يعود ذلك إلى غياب المعلومات الأمنية في ظل احترافية العصابات التي تقوم بتلك الجرائم، ما يترك المجال لتقديرات أولية تتعلق بطبيعة موقع الحادث، والقوى التي تسيطر على السلاح فيه. لذا فإن حسابات القوى العشائرية في قضاء بلد التابع لمحافظة صلاح الدين اتجهت على الفور إلى البعد الطائفي والانتقامي من جانب "الحشد الشعبي"، خاصة وأن هناك سوابق لاتهام الأخيرة بارتكاب حوادث مشابهة في صلاح الدين أثناء تحرير مركز المحافظة "تكريت" من تنظيم "داعش".
دلالات عديدة:
تطرح الحوادث المتلاحقة التي تشهدها العراق في الفترة الحالية دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- عرقلة برنامج الحكومة: تشير اتجاهات مختلفة إلى أنه لا يمكن فصل الحادث عن التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية في الفترة الحالية، حيث تسعى أطراف عديدة إلى إحراج رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وإظهار أن حكومته ليست لديها القدرة على ملاحقة العصابات الإجرامية التي تقتل المواطنين على أساس الهوية والمواقف السياسية، وذلك في إطار تقويض مساعيه الرامية إلى ضبط الأمن فى الشارع الذي شهد انفلاتاً في العديد من الساحات والمواقع خلال الفترة السابقة، ولتشتيت اتجاهات وجهود قوى الأمن من خلال استهداف شخصيات وشرائح مختلفة، على غرار اغتيال الباحث السياسي هشام الهاشمي في 6 يوليو الماضي، واستهدف مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في 17 أكتوبر الحالي، ثم حادث الخطف والتصفية في الفرحاتية في اليوم نفسه، فضلاً عن محاولة تقليص نتائج عملية الهيكلة الأمنية التي قام بها.
2- مناورة مزدوجة: كان لافتاً أن أطرافاً عديدة وجهت على الفور اتهامات إلى "الحشد الشعبي"، مستندة في هذا السياق إلى أنها ليست الاتهامات الأولى من نوعها، في ظل الحوادث السابقة التي اتهمت فيها أيضاً. وفي المقابل، فإن رد فعل "الحشد" لم يختلف عن ردود فعلها تجاه الاتهامات السابقة، حيث ركزت على أنها تابعة للمؤسسة العسكرية، وأن مثل تلك الاتهامات تحاول النيل منها، بالتوازي مع إلقاء المسئولية على عاتق تنظيم "داعش"، وهو الإجراء التقليدي الذي تبنته في العديد من الحوادث المشابهة التي وقعت في الفترة الماضية.
ويعكس هذا الموقف من جانب "الحشد" مناورة ليس فقط لإبعاد الاتهامات عنها، وإنما أيضاً لإلقاء الضوء مجدداً على ما تدعيه باستمرار بشأن الدور الذي قامت به في الحرب ضد "داعش"، وهو ما يقابل بدوره بمطالبات متواصلة من جانب أهالي قضاء بلد بإبعادها عن المنطقة، في إشارة إلى استمرار عدم الثقة في الدور الذي تقوم به فيها، خاصة أن هناك مسئولية أمنية تقع على عاتقها بحكم تواجدها في الموقع الذي شهد الحادث.
3- موقف "داعش": لم يسارع تنظيم "داعش" إلى إصدار بيانات يتبنى فيها تلك العملية الإرهابية حتى الآن، ويشير تقرير صدر عن اتحاد أبحاث وتحليل الإرهاب (TRAC)حول أنشطة التنظيم في العراق وسوريا، إلى أن عمليات التنظيم زادت في أغسطس الماضي مقارنة بما سبقه (يوليو 2020) بنحو 25%، كما تزايد حضوره في البادية العراقية التي سبق تحرير غالبية مناطقها، إلا أن أغلب تلك العمليات في العراق استهدف القوات الأمنية.
وفي المقابل، فإن الإطار الشكلي الخاص بعدم تبني "داعش" للعملية لا ينفي في الوقت ذاته احتمال أن يكون هو من ارتكبها بهدف تصويب الاتهامات نحو "الحشد"، خاصة بعد أن تعرض التنظيم لضربة أمنية الأسبوع الجاري في إطار عملية "جزيرة كنعوص" وفقاً لما أعلنت عنه القوات المشتركة العراقية، والتي اعتبرتها من أخطر المواقع لاختباء "الخلايا النائمة" للتنظيم.
السيناريو القادم:
فيما يتعلق بجريمة "الفرحاتية" سيتوقف السيناريو القادم على مدى تفكيك أبعادها، خاصة وأن هناك 4 من المختطفين لايزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن، وبالتالي فإن فصول الجريمة لم تنته بعد، وهو ما قد يساعد في حسم الجدل الخاص بالمسئولين عنها، والتشابكات العالقة حول طابعها وتحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بالعودة إلى سيناريوهات الانفلات الطائفي، أو انفلات السلاح الشائع في الفترة الأخيرة في ظل تنامي شبكات الجريمة المنظمة، أو الجماعات الخارجة عن القانون التي تعمل بالوكالة لصالح جهات محلية تسعى إلى إشاعة الفوضى الأمنية في البلاد.
ويرجح المراقبون استمرار دور هذه المجموعات في المستقبل، بما يعني أن هذا الحادث قد لا يكون الأخير من نوعه، بما يشكل نوعاً من الطعن في نتائج الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة، ويضفي شكوكاً على أداء المنظومة الأمنية ومدى قدرتها على تقويض الظواهر الجديدة التي تشهدها العراق.
على الجانب الآخر، من المرجح، في حالة استمرار مثل تلك الجرائم، اتساع فجوة الثقة تجاه "الحشد" ومواقفها، طالما أنها لم تقدم النموذج البديل للتخلص من الطابع الطائفي اللصيق بها، خاصة في المناطق ذات الكثافة السنية، الأمر الذي يفرض عليها المبادرة بمواجهة هذا التحدي بدلاً من الاكتفاء ببيانات مكررة تعتمد على صيغة واحدة، وهى نفى الاتهامات وإعادة توجيهها إلى تنظيم "داعش".
في النهاية، يمكن القول إن حادث "الفرحاتية" يعيد توجيه المشهد العراقي نحو قضايا الأمن وملفاته على الصعيد الداخلي، خاصة ما يتعلق بتجدد الهاجس الطائفي، وكفاءة المؤسسة الأمنية في التعامل مع الظواهر الطارئة، ومعها سيظل ملف الاستقرار الأمني هو المتصدر على الساحة العراقية المتخمة بالعديد من الملفات السياسية والاقتصادية في مرحلة انتقالية صعبة، على نحو يضاعف من حجم التحديات التي تواجهها الحكومة التي تتولى إدارة هذه المرحلة.