رغم أن إيران التزمت في موقفها الرسمي إزاء تجدد المواجهات المسلحة العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورني قره باغ، بالدعوة إلى حل النزاع عبر القانون الدولي وطرح مبادرة للتوسط بين الطرفين، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة قلقاً ينتاب طهران إزاء التداعيات التي يمكن أن يفرضها تصاعد الصراع في تلك المنطقة، لاسيما لجهة توقيته، الذي يتوازى مع اتساع نطاق الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها طهران في الوقت الحالي، بسبب العقوبات الأمريكية. وربما يمكن تناول أبرز الأسباب التي تفسر هذا القلق في ما يلي:
1- سورنة الصراع: لا تستبعد اتجاهات في طهران أن تتصاعد حدة المواجهات المسلحة في الإقليم لدرجة يمكن أن يتكرر معها السيناريو السوري، بشكل لا يمكن لإيران أن تقف صامتة إزاءه، لاسيما لجهة منع أذربيجان من تغيير توازنات القوى لصالحها على حساب أرمينيا، لأسباب عرقية واستراتيجية.
وبمعنى آخر، فإن إيران ورغم دعمها لأرمينيا، لا ترغب في توسيع نطاق الصراع بشكل يمكن أن يدفعها إلى رفع مستوى انخراطها فيه، في وقت تبدو منهمكة في ملفات إقليمية ربما أكثر أهمية في الوقت الحالي، ولاسيما تصعيدها المستمر مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في العراق.
2- انتصار أذربيجان: وهو خيار لا يتوافق مع مصالح طهران، التي ترى أن نجاح أذربيجان في الخروج منتصرة من هذا الصراع يمكن أن يعزز النزعة الانفصالية لدى القومية الآذرية، وهى القومية الأكبر من حيث العدد بعد الفرس في التركيبة العرقية الإيرانية.
وقد كان لافتاً، وفقاً لتقارير عديدة، أن بعض المدن الإيرانية مثل تبريز التي تقطنها القومية الآذرية شهدت مظاهرت، في أول أكتوبر الجاري، دعماً لموقف أذربيجان في النزاع، حيث ظهرت شعارات مثل " قرة باغ كانت لنا وستبقى لنا"، "نحن مستعدون للموت"، "نحن جنود باكو"، "تحيا أذربيجان".
وقد كان هذا الموقف التاريخي الذي تبنته طهران إزاء هذا الصراع تحديداً كاشفاً إلى حد كبير عن دلالة رئيسية تتمثل في أن إيران تفكر بعقلية الدولة التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وليس الثورة التي تلتزم بسقف أيديولوجي، بما يعني أن ادعاءاتها الأيديولوجية الخاصة بـ"نصرة المستضعفين" لها حدود على الأرض، لأن هذا المبدأ عملياً يفرض عليها دعم أذربيجان ضد أرمينيا، وهو ما لا يحدث، باعتبار أن دعم أرمينيا يحول، في رؤيتها، دون تغيير توازنات القوى لصالح أذربيجان التي يمكن أن يتزايد حضورها الإقليمي في هذه الحالة، بشكل ترى طهران أنه يهدد مصالحها وتوازناتها الداخلية. ومن هنا، يمكن تفسير أسباب ظهور تقارير عديدة أشارت إلى أن إيران قدمت أسلحة إلى أرمينيا، وهو ما نفته الأولى.
3- الحضور التركي: لا تبدي طهران ارتياحاً للانخراط الواسع من جانب تركيا في الصراع لصالح أذربيجان، خاصة بعد الاتهامات التي وجهتها أرمينيا لها بتقديم دعم عسكري لباكو. إذ ترى طهران أن ذلك يزيد من احتمال اتجاه الصراع إلى السيناريو السوري الذي تدخلت فيه تركيا عسكرياً لدعم بعض الميليشيات الإرهابية والمسلحة في الداخل وتكريس نفوذها العسكري والأمني داخل سوريا، كما أنه قد يفرض عليها عدم الاكتفاء بتقديم دعم معنوي ليريفان، خاصة في ظل اهتمامها بعدم تغيير توازنات القوى بشكل صارخ لصالح باكو.
من هنا، كان لافتاً أن وسائل الإعلام الإيرانية شنت حملة قوية ضد تركيا، اعتبرت فيها أن الأخيرة تسعى إلى التدخل عسكرياً في النزاع على غرار ما قامت به في الأزمة السورية، وأن ذلك يعود إلى تراجع رهاناتها ليس في سوريا فحسب وإنما في ليبيا أيضاً، بعد أن أعلن حليفها الأساسي رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج عزمه تقديم استقالته وتفاقم حدة الانقسامات بين القيادات والكوادر الموالية لها داخل ليبيا.
4- النفوذ الروسي: لا تخفي اتجاهات عديدة في طهران مخاوفها من أن استمرار الأزمة قد يدفع روسيا بدورها إلى التدخل، وهو اتجاه لا تحبذه الأولى. فرغم العلاقات القوية القائمة بين الطرفين، والتي تبدو جلية في التنسيق إزاء تطورات الصراع السوري والاتفاق النووي، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة خلافات لا تبدو ثانوية بينهما في وسط آسيا والقوقاز، وأن انخراط موسكو في الأزمة قد يجدد تلك الخلافات في وقت تبدو فيه طهران في أمس الحاجة للظهير الروسي في التصعيد المستمر مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد إقدام الأخيرة على تفعيل ما يسمى بآلية "سناب باك" أو العودة التلقائية للعقوبات الدولية في 20 سبتمبر الفائت، وهو ما رفضته روسيا والصين والدول الأوروبية المعنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي. ويبدو استمرار الخلافات حول تقسيم ثروات بحر قزوين مؤشراً مهماً حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه العلاقات بين الطرفين.
في النهاية، يمكن القول إن تلك الاعتبارات في مجملها دفعت طهران إلى طرح مبادرة للتوسط بين الطرفين بعد تجدد المواجهات المسلحة في إقليم ناجورني قره باغ، على أساس أن ذلك يمكن أن يمثل أفضل الخيارات المطروحة بالنسبة لها، لأن استمرار الصراع كفيل بخلط أوراقها وإرباك حساباتها في وقت تنهمك فيه بمتابعة تطورات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي بناءً على نتائجها سوف تحدد خياراتها في التعامل مع الإدارة الأمريكية القادمة في ظل تفاقم الخلافات بين الطرفين حول العديد من الملفات الإقليمية.