لم يتراجع مستوى التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حتى في ظل انشغال الطرفين بمواجهة انتشار فيروس "كورونا". إذ كان لافتاً عودة نبرة التهديدات الإيرانية مجدداً ضد القوات الأمريكية في المنطقة. وفي الواقع، فإن ذلك لا يمكن تفسيره فقط في ضوء التحذيرات الأمريكية المتكررة من عواقب الهجمات التي تشنها بعض الميليشيات ضد المصالح الأمريكية في العراق وربط ما يحدث بمحاولات إيران استمرار استنزاف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، في إطار مساعيها لرفع كُلفة مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في العراق في 3 يناير الماضي بعد العملية العسكرية التي شنتها واشنطن وأدت أيضاً إلى مقتل نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" العراقية أبومهدي المهندس. إذ أن ثمة اعتبارات أخرى لا يمكن تجاهلها منها اهتمام طهران بالتحركات والأنشطة العسكرية التي تقوم بها واشنطن في المنطقة، وإصرار واشنطن على رفع مستوى العقوبات التي تفرضها على طهران حتى مع تمدد فيروس "كورونا".
رسائل مباشرة:
رغم أن إيران كانت حريصة على نفى صلتها بالهجمات الصاروخية التي تعرضت لها قاعدة التاجي العراقية بداية من 11 مارس الفائت، إلا أنها أصرت في الوقت نفسه على الربط بين تلك الهجمات ومقتل سليماني والمهندس، حيث قال رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، في 2 إبريل الجاري، أن "استهداف القواعد الأمريكية كان رداً طبيعياً من الشعب العراقي والمقاومة على اغتيال سليماني والمهندس". وتوازى ذلك مع التهديدات التي وجهها الحرس الثوري، في 31 مارس الفائت، إلى واشنطن، حيث أصدر بياناً جاء فيه أن "أدنى خطأ يرتكبه الأعداء الأشرار ضد الجمهورية الإسلامية سيواجه برد حاسم ومدمر، لا يتمكنون فيه من الرد، ويسلبهم حتى فرصة التعبير عن أسفهم".
وفي الواقع، يمكن تفسير تجدد التصعيد مرة أخرى بين طهران وواشنطن في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- ارتدادات الهجمات في العراق: ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على الإشارة إلى أن إيران ليست بعيدة عن الهجمات التي تعرضت لها قواتها في العراق خلال الفترة الماضية، حيث ترى اتجاهات أمريكية عديدة أن طهران لم تكتف بالضربات الصاروخية التي وجهتها في 8 يناير الماضي ضد قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية، لاسيما أنها منيت بخسارة فادحة بعد مقتل سليماني. ومن هنا فإنها تسعى، وفقاً لتلك الرؤية، إلى رفع كُلفة مقتل سليماني واستنزاف القوات الأمريكية في العراق في إطار التصعيد المتواصل من جانبها رداً على العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها والتي أدت إلى تقليص العوائد التي كانت تتوقعها من الوصول إلى الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
كما كان لافتاً أن إيران اعتبرت أن أجواء ما قبل مقتل سليماني بدأت تظهر مرة أخرى، خاصة في ظل التحذيرات الأمريكية المتكررة من إقدامها، مع الميليشيات الموالية لها، على استهداف القوات الأمريكية في العراق، حيث قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة على موقع "تويتر" في أول إبريل الجاري، أن "هناك معلومات وحقائق بأن إيران أو وكلاءها يخططون لهجوم مباغت على قوات أمريكية أو منشآت في العراق"، مشيراً إلى أن "ذلك إذا حدث، فإن إيران ستدفع ثمناً باهظاً جداً".
2- تعزيز الدفاعات الأمريكية في المنطقة: أبدت طهران اهتماماً خاصاً بالتقارير التي أشارت إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في تعزيز دفاعاتها في العراق، إذ تم الإعلان عن قيام الجيش الأمريكي، في 30 مارس الفائت، بنشر منظومة صواريخ "باتريوت" للدفاع الجوي في قاعدتى عين الأسد وحرير. ومن دون شك، فإن إيران لا تفصل تلك التحركات عن التصعيد المستمر مع واشنطن، حيث ترى أن تعزيز المنظومة الدفاعية قد يكون معناه أن الأخيرة لا تستبعد الانخراط في مواجهات عسكرية جديدة بين الطرفين، على غرار تلك التي اندلعت في يومى 3 و8 يناير الماضي عقب مقتل سليماني، وربما تتجه أيضاً إلى توجيه ضربات أكثر قوة ضد الميليشيات الموالية لإيران، خاصة "الحشد الشعبي"، لاسيما أن الضربات السابقة لم تنجح في وقف الهجمات الصاروخية التي تعرضت لها بعض القواعد التي تتواجد بها قوات أمريكية في العراق.
3- تأثيرات "انستكس": ما زال الصراع على أشده بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول العقوبات التي تفرضها الأخيرة، والتي ترى الأولى أنها السبب الرئيسي في انتشار فيروس "كورونا" بشكل كبير داخل أراضيها، على نحو انعكس في وصول عدد الإصابات، حتى 4 إبريل الجاري، إلى 55 ألف و743 شخص، وعدد الوفيات إلى 3 آلاف و452 شخص. إذ ما زالت إيران تسعى إلى تقليص حدة تلك العقوبات، من خلال رفع مستوى التعاون مع الدول الأوروبية عبر آلية "انستكس"، حيث قامت الأخيرة، في 31 مارس الفائت، بتسليم إيران معدات طبية، مشيرة إلى أنها ستعمل على معاملات أخرى وسيتم تطويرها.
ويتوازى ذلك مع استمرار رفض طهران للعروض الأمريكية بتقديم مساعدات لمواجهة الفيروس، مشيرة إلى أن هدفها "الاستعراض فقط"، وهو ما لا يمكن فصله عن التحفظ الأمريكي عن تقديم صندوق النقد الدولي لقرض بقيمة 5 مليار دولار لإيران، باعتبار أن المشكلة لا تكمن في التمويل الذي يمكن توفيره من خلال الاحتياطي النقدي الإيراني، وإنما في الإجراءات التي تتخذها إيران للتعامل مع الفيروس.
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن احتمال اندلاع مواجهات محدودة، مباشرة أو غير مباشرة، بين طهران وواشنطن، لا يمكن استبعاده حتى مع انشغال الطرفين بالعمل على احتواء تمدد "كورونا".