اكتسب التصعيد العسكري الذي جرى على الساحة العراقية بعد أن قامت القوات الأمريكية بشن ضربات ضد خمس مواقع تابعة لكتائب "حزب الله" الموالية لإيران، في 12 مارس الجاري، رداً على القصف الذي تعرضت له قوات التحالف، في اليوم السابق، وأسفر عن مقتل جنديين أمريكي وعسكري بريطاني وإصابة 14 آخرين، اهتماماً خاصاً من جانب إيران، التي كانت قد سارعت، قبيل التصعيد، إلى إيفاد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني إلى العراق لمحاولة تقليص حدة الخلافات القائمة بين القوى السياسية الشيعية والتي أدت إلى عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة حتى الآن بعد اعتذار المرشح السابق محمد توفيق علاوي.
يمكن القول إن السبب الأهم الذي دفع إيران إلى إبداء اهتمام أكبر بمتابعة التصعيد العسكري الذي شهدته الساحة العراقية يعود إلى أن هذا التصعيد جاء بعد أيام من الزيارة التي قام بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني إلى العراق، في 7 مارس الجاري. وقد ربطت اتجاهات عديدة بين الزيارة والتصعيد العسكري، باعتبار أنها كانت بمثابة ضوء أخضر من جانب طهران للميليشيات الموالية لها من أجل مواصلة استهداف المصالح الأمريكية في إطار الرد على قتل قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري وأبومهدي المهندس نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" في 3 يناير الماضي.
وهنا، ووفقاً لهذا المنطق، فإن الزيارة كانت في إطار تحركات إيرانية جديدة لإعادة التموضع في العراق بعد مقتل سليماني، تقوم في الأساس على ضبط حدود المواجهة مع واشنطن، عبر استهداف مصالحها لكن بشكل لا يدفعها إلى توجيه ضربة مماثلة لتلك التي حدثت في 3 يناير الماضي، وهى الضربة التي قد لا تستطيع طهران استيعابها من جديد، خاصة أن ردها المباشر على مقتل سليماني فرض تداعيات قوية عليها، لاسيما فيما يتعلق بإسقاط الطائرة الأوكرانية، الذي أدى إلى تصاعد حدة التوتر في علاقات إيران مع الدول الغربية، لاسيما بعد إمعانها في إنكار إسقاط الطائرة قبل اعترافها بذلك بعد إدراكها صعوبة مواصلة النفى. ومن هنا، ربما يمكن تفسير حرص بعض المسئولين في إيران، إلى جانب قادة بعض الميليشيات المسلحة، خلال الفترة الأخيرة، على الإشارة إلى أن "الانتقام لسليماني لم ينته بعد".
مغامرة غير محسوبة:
لكن إمعان طهران في مواصلة التصعيد غير المباشر مع واشنطن على الساحة العراقية قد يكون مغامرة غير محسوبة من جانب الأولى لاعتبارات رئيسية ثلاثة: أولها، أن الأخيرة كانت حريصة على الربط بين الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها قوات التحالف وأسفرت عن مقتل جنديين أمريكيين وآخر بريطاني وبين إيران، بتحميلها المسئولية عن ذلك، وتأكيد أن ردها العسكري بقصف خمسة مواقع لكتائب "حزب الله" هو رسالة لها، حسب تصريحات قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي الجنرال كينيث ماكنزي، الذي قال أن "الضربات في العراق تبعث رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لن تتهاون مع الهجمات الإيرانية غير المباشرة بأسلحة توفرها إيران".
وبعبارة أخرى، فإن واشنطن سعت عبر تلك الضربة القوية، التي نفذت بواسطة مقاتلات وليس طائرات مسيرة على غرار ما حدث في عملية اغتيال سليماني، إلى توجيه رسالة إلى طهران بأنها لن تتوانى عن حماية مصالحها حتى لو اقتضى ذلك شن عمليات عسكرية ربما أكثر قوة من تلك التي أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس".
وثانيها، أن إيران تواجه في الوقت الحالي ضغوطاً غير مسبوقة، بما يجعلها أكثر ضعفاً من المرحلة السابقة على مقتل سليماني. ففضلاً عن المعطيات الجديدة التي أنتجها غياب الأخير عن المشهد العسكري والسياسي الإيراني، فإن استمرار التداعيات القوية للعقوبات الأمريكية، إلى جانب التوتر المتصاعد مع الدول الغربية بسبب الملف النووي وإسقاط الطائرة الأوكرانية، فإن الانتشار الواسع لفيروس "كورونا"، الذي وصل إلى مكتبى المرشد الأعلى علي خامنئي (بعد إصابة مستشاره للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي) والرئيس حسن روحاني، يزيد من إحكام العزلة الدولية والإقليمية المفروضة عليها، ويضعف من قدرتها على احتواء تأثيرات هذه الضغوط في مجملها.
وثالثها، أن نفوذ إيران في العراق يواجه تحديات لا تبدو هينة، يتمثل أبرز مؤشراتها في عدم نجاح الجهود التي بذلت حتى الآن ليس فقط من أجل تشكيل الحكومة الجديدة، بعد اعتذار المرشح السابق محمد توفيق علاوي، وإنما بهدف تسوية الخلافات العالقة بين القوى الشيعية الموالية لإيران.
وربما يمكن القول إن إيران لم تستطع حتى الآن سد الفراغ الذي فرضه مقتل سليماني والمهندس. إذ لا توجد مؤشرات توحي بأن إسماعيل قاآني الذي حل محل الأول يستطيع إدارة العلاقات مع تلك الميليشيات والقوى بالآليات نفسها التي كانت يتبعها سلفه.
وقد يكون إيفاد شمخاني تحديداً لإنجاز تلك المهمة خير دليل على تراجع دور "فيلق القدس" وقاآني في إدارة النفوذ الإيراني داخل العراق وربما في دول أخرى بالمنطقة، لاسيما أن شمخاني ليس قريباً فقط من المرشد خامنئي، وإنما أيضاً من الرئيس روحاني وتيار المحافظين التقليديين الذي يختلف نسبياً عن تيار الأصوليين الذي يسعى إلى السيطرة على مراكز صنع القرار في الدولة خلال الفترة الحالية ويتبنى سياسة متشددة إزاء التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية.
كما أن هناك تقارير تشير إلى أن تعيين عبد العزيز المحمداوي "أبو فدك" محل المهندس لم يحظ بقبول بعض الميليشيات الموالية لإيران، رغم أن الأخيرة كان لها دور رئيسي في وصوله إلى منصبه الذي يكتسب اهتماماً خاصاً من جانبها.
ومن دون شك، فإن استمرار الصراع على منصب المهندس، فضلاً عن عدم الوصول إلى مرشح توافقي لرئاسة الحكومة الجديدة، يوحي بأن الارتباك ما زال هو السمة الرئيسية لسياستها في العراق بعد مقتل سليماني، باعتبار أن الأخير كان لديه من النفوذ ما يستطيع من خلاله إدارة التفاعلات بين القوى الموالية لها داخل العراق، رغم أن ذلك لا ينفي أنه تسبب، في بعض الأحيان، في مشكلات عديدة بين إيران وبعض تلك القوى.
وحتى في حالة اتجاه طهران إلى دعم ترشيح مصطفى الكاظمي رئيس جهاز الاستخبارات، الذي التقى شمخاني، لرئاسة الحكومة، والذي كان حريصاً في المرحلة الماضية على فتح قنوات تواصل مع معظم القوى المعنية بالتطورات العراقية في إشارة من جانبها توحي بعدم استبعادها الوصول إلى تفاهمات مع خصومها، لاسيما الولايات المتحدة، فإن هذا الخيار قد يواجه صعوبات، في ضوء عدم توافر مؤشرات توحي بأن الكاظمي قد ينجح فيما فشل فيه علاوي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران تواجه تحديات عديدة في العراق خلال المرحلة الراهنة، ليس فقط بسبب انشغالها في متابعة واحتواء أزماتها الداخلية، لاسيما ما يتعلق بالعقوبات الأمريكية وانتشار فيروس "كورونا"، وإنما أيضاً بسبب عدم نجاحها في التعامل مع المعطيات التي فرضها مقتل سليماني حتى الآن.