اتسمت العلاقة البريطانية بمسيرة التكامل الأوروبي منذ بدايتها بالتعقد الشديد، فقد رفضت بريطانيا الالتحاق بأولى خطوات هذه المسيرة التي تمثلت في اتفاقية روما 1957، وكان واضحاً أنها لم تتكيف بعد مع مكانتها في النظام الدولي بعد الحرب الثانية الذي فقدت موقع القيادة فيه، وعندما راجعت نفسها وطلبت اللحاق بمسيرة التكامل الأوروبي كان ديجول قد ظهر على المسرح واعترض على هذا الانضمام فلم يتم إلا بعد أن غادر هذا المسرح، ومع ذلك استمر التعقد كصفة للعلاقة البريطانية بعملية التكامل الأوروبي وأصبحت تلك العلاقة موضع جدل حقيقي متصاعد في السياسة البريطانية وصولاً إلى تعهد ديفيد كاميرون رئيس الوزراء في2015 بإجراء استفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي وهو ما تم بالفعل في يونيو2016 وانتهى بموافقة أغلبية ضئيلة على الخروج الذي مازال متعثراً بعد قرابة ثلاث سنوات ونصف على إجراء الاستفتاء بسبب الانقسام الحاد وغير المسبوق على ترتيبات هذا الخروج بل على مبدأ الخروج ذاته.
وإزاء الفشل المتكرر لحكومة تيريزا ماي في إقرار اتفاق الخروج الذي أبرمته مع الاتحاد الأوروبي من مجلس العموم قدمت استقالتها وخلفها بوريس جونسون نصير بريكست المتشدد الذي تعهد بالخروج قبل نهاية الشهر الماضي بأي ثمن، لكنه فشل بدوره في الحصول على الدعم الكامل غير المشروط من المجلس فدعا لانتخابات مبكرة في الشهر القادم وحصل على الأغلبية المطلوبة لإجرائها بعد أن تأكد أن الاتفاق على طريق للخروج مستحيل في ظل التكوين الحالي لمجلس العموم، فهل يكون لهذه الانتخابات القول الفصل في أزمة «بريكست» أم أنها لن تعدو أن تكون فصلاً جديداً فيها؟
يتوقف الأمر بطبيعة الحال على نتيجة الانتخابات فلو حقق جونسون أغلبية مطلقة فيها سوف يكون بمقدوره أن يمضي قدماً في تنفيذ خططه، وتُظهر الاستطلاعات الحالية تقدمه لكنه بالتأكيد ليس حاسماً، لسبب بديهي، وهو القيود التي ترد على هذه الاستطلاعات إما لتكرار عدم دقتها رغم ما يُفترض من تقدم أدواتها وتوفر شرط المناخ الديمقراطي لإجرائها، وقد كان فوز ترامب في انتخابات 2016 مثالاً مهماً في هذا الصدد، أو لما يُعرف في التحليل السياسي بظاهرة التنبؤ «الهادم لذاته» والتنبؤ «المحقق لذاته» بمعنى أن التحليل العلمي في الظواهر الاجتماعية، ومنها السياسية لا ينتهي بالتوصل إلى تنبؤ ما، لأن هذه الظواهر عكس الظواهر الطبيعية تقبل تدخل القوى الفاعلة في الظاهرة لتغيير مسار التنبؤ المعلن، ففي حالتنا يمكن لأنصار البقاء في أوروبا أن يكثفوا جهودهم لتحسين وضعهم في الانتخابات، فإذا نجحوا يكون التنبؤ قد هدم ذاته، فإذا أثرت الاستطلاعات التي تنبأت بهزيمتهم على معنوياتهم على النحو الذي يؤدي إلى تخاذلهم أصبح التنبؤ محققاً لذاته وهكذا، والخلاصة أن نتائج الاستطلاعات لا تكون لها الكلمة الأخيرة، وإنما تكون هذه الكلمة بيد الإرادات البشرية المتصارعة، أي أن الكلمة الأخيرة في الانتخابات لم تُكتب بعد.
وبغض النظر عن حقيقة اتجاهات الرأي العام، فإن ثمة شواهد على الصعوبات الحقيقية التي تواجه حصول جونسون على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تنفيذ «بريكست» بطريقته، فالأمر يتوقف مثلاً على أداء حزب «العمال» في الانتخابات، وقد أعلن زعيمه أنه سيعمل حال فوزه على التوصل إلى اتفاق جديد للخروج يعرضه على استفتاء فإن رفضه الشعب يصبح «بريكست» لاغياً، كما أن حزب «الاستقلال الاسكتلندي» المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي يطالب باستفتاء، بل ويطرح احتمال استفتاء جديد لانفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة فضلاً عن مشكلة أيرلندا المحملة بالمخاطر ذاتها، والتي كانت أصلاً حجر عثرة رئيسي في اتفاق الخروج، كذلك فإن «الليبراليين الديموقراطيين» يرغبون في البقاء داخل أوروبا، ومن المحتمل والأمر كذلك أن تأتي الانتخابات بتكوين جديد لمجلس «العموم» يشبه التكوين الحالي، وهنا قد يصبح لا مفر من استفتاء جديد سيكون من الأفضل أن يُخَير الناخبين فيه بين اتفاق محدد للخروج أو البقاء، ومن الطريف أنه حتى لو فاز جونسون بالأغلبية التي يريدها وخرج من الاتحاد الأوروبي بالطريقة التي يريدها أي حتى من دون اتفاق، فإن الستار قد لا يُسدل على «مسرحية بريكست»، فماذا لو أن التحليلات المتشائمة لتداعيات «بريكست» على الاقتصاد البريطاني قد صحت وفُتِح الجدل من جديد حول العلاقة بالاتحاد الأوروبي؟
*نقلا عن صحيفة الاتحاد