شنت إسرائيل، في 30 يونيو 2019، عدة هجمات على مواقع سورية في ريف دمشق وحمص تعتبر هى الأكبر من نوعها وفق تقديرات وزارة الخارجية الروسية منذ مايو 2018. وعلى الرغم من أن استهداف إسرائيل لمواقع في العمق السوري لا يشكل خروجًا على النهج الذي تتبعه منذ اندلاع الصراع فى سوريا، حيث ركزت أغلب عمليات القصف على استهداف منشآت ومعسكرات تابعة لإيران وحزب الله، وهو ما شملته أيضًا الأهداف الأخيرة، إلا أن السياق الذي تأتي فيه تلك الهجمات يمثل تحولاً في استراتيجية المواجهة ذاتها نظرًا للعديد من المؤشرات التي تلتها الضربات. ومن المتصور أن هذا التحول يطرح العديد من السيناريوهات التي تتعلق بالموقف الإسرائيلي من الوجود الإيراني في سوريا، في إطار مقاربة جديدة لا تفصل بين هذا الموقف وبين ما يحدث حاليًا من تصعيد أمريكي-إيراني بسبب الإجراءات المضادة التي يتخذها كل طرف تجاه الآخر.
إعتبارات متعددة:
يمكن تفسير إقدام إسرائيل على توجيه تلك الضربات في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استمرار الاستراتيجية التقليدية في المواجهة: والتي تركز على استهداف البنية العسكرية الإيرانية في سوريا، وهو الاتجاه الذي يتبناه يوسي كوهين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية
"الموساد"، الذي قال في هذا الصدد: لا يمكننا أن نقبل تحول سوريا إلى أرض انطلاق للقوات الإيرانية أو قوات تُشغِّلها ضدنا. لا يمكننا أن نقبل تحول سوريا لقاعدة لوجستية لتوصيل الأسلحة لحزب الله ولبنان".
2- الانتقال من المنطقة الرمادية إلى الحمراء: وهو الاتجاه الذي يركز عليه وزير الخارجية يسرائيل كاتس، ويقوم على أن إيران قد تسيء تقدير الأمور، مما يمكن أن يؤدي لحدوث مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار قال كاتس: "يجب الأخذ بعين الاعتبار أن سوء التقدير من قبل النظام الإيراني قد يأتي بالانتقال من المنطقة الرمادية إلى المنطقة الحمراء، ما يعني اندلاع حريق عسكري"، مضيفًا" :علينا أن نكون مستعدين لحدوث ذلك، ولهذا السبب تواصل دولة إسرائيل تركيز جهودها على تنمية قدراتها العسكرية لتكون جاهزة في حال اضطرارها إلى الرد على سيناريوهات التصعيد".
3- ردع استباقي: ويرتبط ذلك بحرص تل أبيب على عدم استبعاد قيام إيران بشن ضربة ضدها من الجانب السوري، في ضوء الرد على الموقف الأمريكي من فرض عقوبات عليها، وهو ما أشارت إليه تقارير عسكرية إسرائيلية، دعت في الوقت نفسه إلى توجيه مثل هذه الضربات لمنع إيران من الإقدام على تلك الخطوة.
4- فشل اللقاء الأمني الثلاثي: على نحو دفع إسرائيل إلى شن تلك الضربات بهدف توجيه رسالة إلى القوى المعنية، لا سيما روسيا، بأن عدم التوصل إلى تفاهمات في اللقاء الأمني الأخير الذي عقد بمشاركة مستشاري الأمن القومي في إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا لن يفرض خيارات محدودة أمامها للتعامل مع ما يجري من تطورات داخل سوريا ترى أنها يمكن أن تُعرِّضها لتهديدات جدية.
5- اختبار لتشغيل "إس – 300": لا يمكن استبعاد أن تكون الضربة العسكرية قد جاءت في أعقاب ما نشرته تقارير عديدة عن اكتشاف شركة استخبارات اسرائيلية خاصة أن منظومة الدفاع الجوي "إس-300" السورية بكاملها أصبحت جاهزة للاستخدام، مما يشير إلى تهديد أكبر قد يواجه إسرائيل في تنفيذ غارات جوية ضد أهداف إيرانية أو لقوات موالية لها. وقد دعم هذا التوجه تقارير عديدة كشفت أن مطار بن جورين تعرض لتشويش مصدره مواقع عسكرية فى سوريا وأن روسيا تقف وراءه وهو ما نفته وزارة الخارجية الروسية.
دلالات فارقة:
تطرح تلك الضربات دلالات عديدة تصب في إطار دعم فرضية حدوث تغير في الاستراتيجية الإسرائيلية بناءً على أولويات الردع مرحليًا، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- مغزى التوقيت: جاءت الضربة في غضون أسبوع على اللقاء الأمني الثلاثي الأمريكي – الروسي – الإسرائيلي، حيث أشارت تحليلات عديدة في إسرائيل والولايات المتحدة إلى أن الأولى فشلت في إقناع روسيا بإبعاد إيران عن الساحة السورية باعتبارها تشكل تهديدًا لأمنها القومي. وربما ينطوي ذلك أيضًا على أن إسرائيل ترى أن روسيا خرجت من اللقاء الثلاثي بخلاصة أن تل أبيب تستعد لجولة جديدة من المواجهة مع إيران، في ظل فشل تفعيل الآليات الدبلوماسية التي كانت تُعوِّل على دور روسي فيها، بما دفع إسرائيل إلى العودة للخيار العسكري من جديد.
2- ترتيب الأولويات: يكشف حجم الضربات عن أن إسرائيل تمنح أولوية لسياسة الردع في ظل التطورات الإقليمية الراهنة، بهدف إظهار مدى استعدادها لهجوم إيراني محتمل كأحد التداعيات المحتملة لتلك التطورات، حيث ترى أن إيران قد تتجه إلى استغلال نفوذها لدى العديد من الميليشيات لرفع كلفة الإجراءات العقابية التي تتخذها الولايات المتحدة ضدها.
3- تصعيد نوعي: يتعلق باختبار هدف مهم، وهو تشغيل منظومة "إس – 300" التي تعتبرها إسرائيل متغيرًا يصب في صالح توسع إيران في البنية التحتية داخل سوريا ما يستدعي التعامل معها كتهديد. وهنا، كان لافتًا أن إسرائيل ألمحت إلى أنها لن تلتفت إلى رد الفعل الروسي حال تم استهداف المنظومة ذاتها.
تداعيات محتملة:
يمكن القول إن استمرار تلك الضربات قد يفرض تأثيرين رئيسيين. يتمثل أولهما، في فشل الرهان الإسرائيلي على روسيا، لا سيما فيما يتعلق بالعمل على إقصاء إيران من الساحة السورية، أو الحد من أنشطتها داخلها. وينصرف ثانيهما، إلى رفع وتيرة التصعيد، في ظل حرص إسرائيل على توجيه رسائل ردع لإيران لمنعها من استغلال نفوذها داخل سوريا في مواجهة الضغوط الأمريكية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الضربات العسكرية الأخيرة التي شنتها إسرائيل على أهداف داخل سوريا تشير إلى ظهور اتجاه في السياسة الإسرائيلية إزاء التطورات الميدانية في سوريا، بات يدعو إلى ضرورة الربط بين المعطيات التي يفرضها التصعيد الحالي بين إيران والولايات المتحدة، وبين التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها تل أبيب من داخل سوريا، وهو اتجاه يبدو أنه سيتصاعد خلال المرحلة القادمة، في ظل ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الحالية.