أخفقت الدول الثلاث الضامنة لمسار آستانا، وهى روسيا وتركيا وإيران، مجددًا في التوصل إلى اتفاق بشأن تشكيل قوائم اللجنة الدستورية السورية خلال الجولة 12 من المباحثات التي عقدت يومى 25 و26 إبريل 2019. وفي ظل تكرار هذا الفشل، دعا المبعوث الروسي ألكسندر لافرينتييف الأطراف المعنية إلى إيجاد أفكار جديدة للتعامل مع ملفات الأزمة السورية، في مؤشر على تعثر مسار آستانا بشكل عام، لا سيما وأن عدم التوافق كان مصير باقى القضايا التي طرحت على طاولة المباحثات، خاصة ملفى تبادل الأسرى والوضع في إدلب.
أبعاد متعددة:
ربما يمكن القول إن فشل التوصل إلى حل لأزمة اللجنة الدستورية يعود إلى الخلاف حول 6 أسماء تتضمنها القائمة الثالثة التي تشمل ممثلي المجتمع المدني، وإصرار النظام على تمثيله بـ30 عضوًا في تلك القائمة مقابل 20 للمعارضة، لتكون له الغلبة فيها، مقابل تقاسمه القائمتين الأخريين مع المعارضة بواقع 50 عضوًا لكل منهما.
كذلك هناك خلاف على آليات عمل اللجنة، حيث تصر كل من روسيا والنظام على التمسك بالآليات المقررة وفقًا لمخرجات مؤتمر سوتشي (يناير 2018)، وهو ما ترفضه المعارضة، باعتبار أن هيئة التفاوض، التي تعد أبرز كياناتها، رفضت المشاركة فيه وبالتالي لا تلتزم بمخرجاته .
لكن في واقع الأمر، لا يبدو أن الإشكاليات الإجرائية تمثل محور الخلاف الرئيسي بين الأطراف المعنية بالتسوية السياسية، حيث لا تزال أجواء انعدام الثقة والشكوك تخيم على العلاقة بينها، وهو ما بدا جليًا في التصريحات المتبادلة التي واكبت أعمال اللجنة وتلتها. إذ أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال منتدى الحزام والطريق الذي عقد في العاصمة الصينية بكين في 27 إبريل الفائت، على أن الرئيس السورى انتصر في المعركة، وهى الرسالة التي قرأتها المعارضة على أنها "انحياز مُخِل" من جانب روسيا لصالح النظام.
وفي سياق ذي صلة، اتهم الرئيس السورى بشار الأسد المعارضة بـ"العمالة للخارج"، لا سيما لتركيا، وهو ما ردت عليه الأخيرة باتهام النظام والمولاة بأنهم "يعملون لصالح إيران وحزب الله". ثم عادت المعارضة لتوكد أنه حتى في حال الوصول إلى حل للجنة الدستورية فإنه لا توجد ضمانات لتنفيذه طالما أنه لا توجد قوة تجبر الأسد على ذلك.
الطرف المُعطِّل:
اعتبرت اتجاهات عديدة أن ربط موسكو بين ملفى إدلب وتحريك مفاوضات "الحل النهائي"، وهو ما ورد في تصريحات كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجى لافروف، كان متعمدًا، لتوجيه رسائل مباشرة إلى تركيا التي تتفق موسكو ودمشق على أنها "الطرف المُعطِّل" للتسوية. ويؤكد هذا الارتباط الانتقادات الجديدة التي وجهتها دمشق إلى أنقرة، إذ قال المندوب السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، في تصريح له على هامش المشاركة في مباحثات آستانا، أن "احتلال تركيا للأراضي السورية أصعب 4 مرات من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية".
كذلك تجاهل الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في حديثه على هامش فعاليات مؤتمر بكين، دور تركيا في التسوية، حيث قال أن "الأسد وروسيا وإيران بذلوا كل ما بوسعهم للتوصل إلى الحد الأقصى لحلول وسط"، على عكس تصريح مماثل له، في فبراير الماضي، أقر فيه بدور تركيا كأحد رعاة تسوية الأزمة.
وافد جديد:
في محاولة للهروب من تكرار فشل آستانا فى تسوية الخلاف حول اللجنة الدستورية، أكد لافرينتييف، على هامش الجولة الأخيرة، أن "الوسيط الأممي غير بيدرسون هو المخول بوضع آلية عمل اللجنة الدستورية وهو من سيعلن قوائم اللجنة الدستورية"، معبرًا عن أمله في الإعلان عن تلك القائمة بحلول موعد الجولة الجديدة "آستانا 13" في يوليو القادم.
ويتجه بيدرسون إلى اعتماد مقاربة مختلفة لمسار آستانا، وفقًا لما قدمه في إفادته أمام مجلس الأمن، في 30 إبريل الفائت، وتتضمن توسيع ساحة الحوار بين المعارضة والحكومة وعدم حصرها في ملف اللجنة الدستورية، في تلميح إلى رغبته فى أن يأخذ الملف بعيدًا عن آستانا، وهى خطوة قد يحاول بيدرسون عبرها انتزاع ملف اللجنة الدستورية من موسكو التي كانت تسعى إلى إبعاد الأمم المتحدة عنه.
متغيرات مؤثرة:
لكن أيًا كانت المسارات التي سوف تتجه إليها الخلافات حول ملف اللجنة الدستورية، فإن هناك ثلاث متغيرات سوف تفرض تداعيات على مسار آستانا وبالتبعية ملف اللجنة الدستورية: يتمثل الأول، في تقييم بيدرسون لهذا المسار بعد مشاركته للمرة الأولى في جلساته والانطباع الذي ظهر من خلال إفادته في مجلس الأمن بأنه لا يلبي الغرض الذي تسعى إليه الأمم المتحدة، ومدى قدرته على تبنى مسار جديد، لا سيما مع تلميحات الانتقال إلى جنيف بغض النظر عن الاتفاق حول قوائم اللجنة الدستورية من عدمه.
وينصرف الثاني، إلى ملف إدلب وتداعيات التصعيد العسكري الذي تتبناه روسيا، التي لم تتمكن، وفقًا لاتجاهات عديدة، من الفصل بين استهداف "هيئة تحرير الشام"، التي تعتبرها الهدف من التصعيد، وبين قوات المعارضة السورية المسلحة في نطاق إدلب. ويؤشر إلى ذلك انضمام قوات النظام إلى التصعيد والعودة مجددًا إلى استخدام "البراميل المتفجرة"، وعدم الفصل بين ما تسميه روسيا بـ"المعارضة المعتدلة" و"المعارضة المتطرفة" على حد قول لافرينتييف الذي أشار إلى أن تركيا فشلت في القضاء على تلك الجماعات، وهو ما يعد مؤشرًا إضافيًا على الخلاف التركي – الروسي بشأن إدلب، الذي ينعكس بالتبعية على ملفات التسوية بين النظام والمعارضة.
ويتعلق الثالث، بتزامن هذا التباين التركي – الروسي مع التقارب الأمريكي – التركي حول ملف إدلب، والذي ظهر خلال الزيارة التي يقوم بها وفد أمريكي إلى أنقرة بالتوازي مع رفع وتيرة التصعيد الروسي في إدلب، وما تلاه من اصطفاف تركي – أمريكي ضده، على نحو يحتمل معه إعادة هندسة التفاهمات الأمريكية – التركية حول الملف السوري على حساب التفاهمات الروسية – التركية فى هذا الملف.
وفى النهاية، يبدو أن التعويل على مسار آستانا يواجه تحديات عديدة، طالما بقى مرتبطًا بنفس التفاعلات وقواعد المعادلة التي أقرتها الأطراف المعنية منذ تدشينه في عام 2017، بما يعني أن فشل الجولة الأخيرة في تحريك ملف اللجنة الدستورية ما هو إلا تأكيد على استمرار تعثر هذا المسار. لكن فى المقابل، تتشكل تفاعلات جديدة في معادلة التسوية بين النظام والمعارضة مع تقدم دور الوسيط الأممي على حساب مسار آستانا، بما يزيد من احتمال تحول دور الأمم المتحدة من "المراقب" إلى "الوسيط"، وهو الاحتمال الذي قد لا يلقى قبولاً من جانب بعض ضامني مسار آستانا، لا سيما روسيا وإيران.