لا يبدو أن حرص المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي على تعيين إبراهيم رئيسي، المشرف على "العتبة الرضوية" في مدينة مشهد، في منصب رئيس السلطة القضائية، في 7 مارس 2019، مرتبط فقط بنزوعه المستمر إلى إعادة ضبط توازنات القوى السياسية داخل النظام الإيراني، رغم أهمية ذلك، وإنما يتصل أيضًا بتأثير الضغوط التي تتعرض لها إيران على رؤيته لمستقبل النظام نفسه، خاصة أن هذه الضغوط تجاوزت الداخل الإيراني وامتدت إلى الخارج، بعد أن اتسع نطاق اهتمام القوى الدولية والإقليمية سواء بأدوار إيران في المنطقة، أو ببرنامجيها الصاروخي والنووي، أو بانتهاكاتها لحقوق الإنسان.
دلالتان رئيسيتان:
كان لافتًا في نص خطاب التعيين، أو "الحُكم"، الذي أصدره خامنئي، تركيزه على دعوته رئيسي لـ"اجتثاث الفساد من داخل السلطة القضائية"، وعلى ما أطلق عليه "وثيقة التحول القضائي" التي أشار إلى أن رئيسي أعدها، وهو ما يطرح دلالتين مهمتين: الأولى، أن ذلك يخصم من رصيد الرئيس السابق للسلطة القضائية صادق لاريجاني، الذي تم تعيينه رئيسًا لمجلس تشخيص مصلحة النظام بعد وفاة رئيسه محمود هاشمي شاهرودي في 24 ديسمبر 2018.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الدعوة تشير إلى أن لاريجاني فشل في التعامل مع ملفات الفساد داخل سلك القضاء، والتي مسته وعائلته بصفة شخصية، بعد الجدل الذي تصاعد داخل إيران في الأعوام الأخيرة حول تورطها في قضايا فساد، وهو الجدل الذي أثاره باستمرار الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد المعروف بعدائه لكل من صادق وعلي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإسلامي.
ولذا، يبدو أن إصرار خامنئي على إجراء عملية تدوير مستمرة للمناصب، بنفس الشخصيات، يعد أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع في اتجاه استمرار الاحتجاجات، باعتبار أن ذلك يعكس إصرار النظام على عدم الالتزام بوعوده خاصة ما يتعلق بمكافحة الفساد، وهو ما يبدو جليًا في حرص خامنئي على تعيين صادق لاريجاني رئيسًا لمجلس التشخيص، وهو أحد المؤسسات الرئيسية في النظام، الذي يتولى تحديد السياسة العليا للنظام بالتعاون مع المرشد والفصل في الخلافات التي تندلع بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور.
والثانية، أن خامنئي كان يعد منذ فترة لإجراء تغيير في توازنات القوى داخل النظام، سواء بين الأجنحة السياسية التابعة لتيار المحافظين الأصوليين، أو بين المؤسسات الراديكالية والهيئات الدينية التي يسيطر على إدارتها وثرواتها بصفة مباشرة. إذ من المعروف أن رئيسي يقود أحد أكثر الأجنحة السياسية تشددًا، رغم الخسارة الأخيرة التي منى بها أمام الرئيس حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في مايو 2017، وذلك في مقابل أجنحة أخرى تقودها كوادر أصولية مثل محمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران السابق، وغلامعلي حداد عادل رئيس مجلس الشورى السابق، إلى جانب أحمدي نجاد.
اعتبارات مختلفة:
رغم أن المرشد ركز على أن أحد الأسباب التي دفعته إلى اختيار رئيسي في هذا المنصب يتعلق بالأدوار السابقة التي قام بها في سلك القضاء، عندما تولى منصب المدعي العام في طهران (1989-1994) والمدعي العام في إيران (2014-2016)، إلا أن ثمة اعتبارات أخرى كان لها دور في إقدامه على اتخاذ هذا القرار، تتمثل في:
1- تحدي الاحتجاجات: يبدو أن خامنئي يحاول توجيه رسالة إلى الداخل بأنه لن يجري أى تغيير في سياسته استجابة للضغوط التي يمارسها المحتجون، الذين دعوا باستمرار إلى تغيير ومحاسبة الشخصيات التي اتهمت بتبني سياسة أكثر تشددًا في التعامل مع مطالبهم، وهو ما يبدو جليًا في تعيينه صادق لاريجاني في منصب رئيس مجلس التشخيص وإبراهيم رئيسي في منصب رئيس السلطة القضائية، وهما من المسئولين البارزين الذين تعرضوا لحملات مستمرة من جانب المحتجين والنشطاء السياسيين والمهتمين بقضايا الحريات وحقوق الإنسان في إيران.
2- استمرار التشدد: كان لافتًا أن الدور الذي قام به إبراهيم رئيسي في ما يسمى بـ"لجنة الإعدامات" أو "فرقة الموت" التي أثير الجدل حولها منذ عام 2016، اكتسب اهتمامًا دوليًا، خاصة بعد أن ترشح رئيسي للانتخابات الرئاسية عام 2017. ورغم أن هذا الملف يعود إلى عام 1988، حينما اتُهمت بعض الشخصيات، ومنها رئيسي، بالمصادقة على إعدام آلاف من عناصر المعارضة اختلفت التقديرات حول أعدادهم، إلا أنه عاد إلى الواجهة مرة أخرى، في منتصف عام 2016، بعد نشر تسجيل صوتي لمناقشة بين أربعة شخصيات، كان رئيسي من بينهم، ونائب الإمام السابق علي منتظري الذي كان ينتقد هذه الإجراءات.
وقد انعكس هذا الاهتمام في تقرير حقوق الإنسان الذي صدر عن الأمم المتحدة، في 2 سبتمبر 2017، وأشار إلى هذه الواقعة تحديدًا، بالتزامن مع ذكراها التاسعة والعشرين، حيث أكد على أنه "إذا كان من الممكن التشكيك في عدد الأشخاص الذين اختفوا أو أعدموا، فإن هناك أدلة دامغة على أن الآلاف أعدموا بإجراءات موجزة".
وهنا، فإن قرار خامنئي الأخير يشير إلى حرصه على توجيه رسالة إلى الخارج بأن الضغوط التي تفرضها القوى الدولية لن تدفعه إلى إجراء تغيير في سياسته باتجاه التعامل بشكل أكثر مرونة في الملفات الخلافية.
وبعبارة أخرى، فإن إصرار خامنئي على تصعيد رئيسي في هذا التوقيت، يكشف عن سعيه إلى تأكيد تمسكه بمواقفه ليس فقط فيما يتعلق بالإدانات الدولية لإيران الخاصة بحقوق الإنسان، وإنما أيضًا فيما يتصل بالملفات الأخرى، وخاصة الدعوات الموجهة لطهران بإجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق أكثر شمولاً يستوعب البرنامج النووي والصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، وهو ما ترفضه إيران بشكل واضح حتى الآن، على نحو انعكس في تصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي وجه حديثه إلى المسئولين الأمريكيين، في أول مارس الجاري، بقوله: "لن تستطيعوا الوصول إلى اتفاق أفضل من ذلك"، وذلك في تعليقه على عدم وصول اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج اون في هانوى قبل ذلك بيوم واحد، إلى نتائج إيجابية.
3- تدوير الزوايا: يبدو أن خامنئي يحاول عبر تلك الخطوة الاحتفاظ بكل الخيارات المتاحة لديه في الملف "المؤجل" الذي بات يحظى باهتمام خاص داخل وخارج إيران، وهو ملف خلافته. فرغم أن اتجاهات عديدة أشارت إلى أن رئيسي يعتبر أحد المرشحين لتولي منصب المرشد الأعلى خلفًا لخامنئي، إلا أن الأخير ما زال حريصًا على عدم تأكيد أو نفى ذلك أو إبداء أية إشارة تعزز أيًا من الاحتمالين، على نحو يُبقي كل الخيارات مفتوحة في هذا الملف. وهنا، قد لا يمكن استبعاد أن يكون هناك تفكير في عدم حصر خليفة خامنئي في شخص واحد، بل في قيادة جماعية تضم ثلاثة شخصيات.
ولذا، يمكن القول إن التعتيم الذي يحرص النظام على فرضه في هذا الملف يفتح الباب أمام كل الاحتمالات، على نحو يعني أن فرص تعيين رئيسي في المنصب من عدمه تبقى متوازنة.
وعلى ضوء ذلك، يبدو أن الجدل الذي سبق وصاحب تعيين رئيسي في منصبه الجديد يؤشر إلى أن المرحلة القادمة ربما تشهد مزيدًا من الخطوات الخاصة بإعادة ضبط توازنات القوى السياسية، استعدادًا للاستحقاقات الصعبة التي يتوقع أن تواجهها إيران على المدى القريب.