رغم أن معظم الأطراف المعنية بالتطورات التي يشهدها الصراع السوري والمنخرطة فيه بالأساس لم تتوقع أن تحقق القمة الرباعية التي عقدت في اسطنبول، في 27 أكتوبر 2018، بمشاركة الرؤساء التركي رجب طيب أردوغان والروسي فيلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل، اختراقًا بارزًا في الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة، بما يعني أنها كانت حريصة من البداية على وضع سقف محدود لما يمكن أن تسفر عنه من نتائج، إلا أن ذلك في مجمله لم يقلص من حدة القلق التي انتابت إيران، التي كانت الغائب الأبرز في تلك القمة.
وقد كان لافتًا أن جهات داخل إيران حرصت على الربط بين استبعادها من المشاركة في القمة وبين التصعيد المستمر مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب العقوبات والانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، إلى جانب الخلافات التي تتسع تدريجيًا مع الدول الأوروبية، التي تواجه موقفًا حرجًا بين حرصها على مواصلة العمل بالاتفاق النووي وإصرار إيران على عدم تغيير سياستها، على المستويين النووي والإقليمي، بشكل يضعف من احتمالات تحقق ذلك في النهاية.
رسائل متعددة:
تجادل اتجاهات عديدة بأن تغيب إيران عن المشاركة في القمة الرباعية قد يكون مبررًا لجهة أنها ممثلة في الدولتين التي تشاركان معها في محادثات الآستانة التي يتوقع أن تواصل جولاتها في نوفمبر أو ديسمبر 2018، وهما روسيا وتركيا، خاصة أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قام بزيارة اسطنبول عقب انتهاء القمة بيومين للمشاركة في الاجتماع الثلاثي مع وزيرى خارجية تركيا وأذربيجان، بما يؤشر إلى احتمال أن تكون مباحثات القمة قد طرحت خلال الزيارة. إلا أن ذلك لا ينفي أن طهران ما زالت تبدي مخاوف عديدة من أن هذه الخطوة قد تكون مقدمة للتحرك نحو العمل على تقليص نفوذها داخل سوريا وإضعاف حضورها في عملية صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في الأخيرة. إذ يطرح تغيبها عن القمة دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- دور سلبي: يشير عدم دعوة إيران لحضور القمة الرباعية إلى أن الرؤية التي تتبناها بعض القوى الإقليمية والدولية والتي تقوم على أنها "جزأ من المشكلة وليس من الحل في سوريا" تكتسب زخمًا متزايدًا، لا سيما أن جدول أعمال القمة لا يقتصر على بحث الوضع في إدلب، وإنما يمتد أيضًا إلى مناقشة دفع العملية السياسية، خاصة فيما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية، التي تتهم بعض الأطراف النظام السوري بتعطيلها من أجل التحكم فيها، بما يعني أن الدول المشاركة فضلت عدم حضور إيران باعتبار أن ذلك قد يؤدي إلى عرقلة المباحثات الخاصة بالعملية السياسية التي لا تحظى بتأييد من جانب طهران.
2- نجاح الضغوط الأمريكية: يبدو جليًا أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمكنت من تغيير معادلة التصعيد مع إيران، من خلال الحرص على عدم حصرها فقط في الاتفاق النووي وإنما توسيع نطاقها لتشمل إلى جانب ذلك الدور الإقليمي الذي تمارسه إيران، خاصة في دول الأزمات.
إذ بدأت الإدارة الأمريكية تروج بشكل مكثف إلى أن هذا الدور يمثل أحد الأسباب الرئيسية التي فاقمت من حدة تلك الأزمات، وزادت من تداعياتها السلبية، لا سيما ما يتعلق بتدفق اللاجئين إلى الدول الغربية، واستمرار العمليات الإرهابية التي انتقلت حتى إلى عواصم تلك الدول.
وقد كان لافتًا أن هذه التحركات الأمريكية توازت مع إصرار المسئولين الأمريكيين على تحديد هدف جديد لبقاء القوات الأمريكية في سوريا، وهو العمل على مواجهة النفوذ العسكري الإيراني في الأخيرة، إلى جانب الهدف المعلن والأساسي والذي يتصل بمنع تنظيم "داعش" من العودة إلى المناطق التي سيطر عليها في السابق من جديد.
وربما يمكن القول إن الحملة التي تروجها الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتصاعد في الفترة القادمة، لا سيما مع اقتراب موعد تفعيل الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية، في 4 نوفمبر 2018، والتي تتعلق بالصادرات النفطية تحديدًا، وهى الحزمة التي تعول عليها الإدارة الأمريكية في فرض ضغوط مضاعفة على إيران لإجبارها على إجراء تغيير في سياستها باتجاه القبول بالانخراط في مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق أوسع يستوعب التحفظات الأمريكية على الاتفاق النووي الحالي.
3- اتساع نطاق الخلافات مع الدول الأوروبية: تبذل تلك الدول جهودًا حثيثة من أجل تعزيز فرص مواصلة العمل بالاتفاق النووي، عبر آليات عديدة تحاول من خلالها إقناع الشركات الأوروبية، خاصة الصغيرة، باستمرار تعاملاتها في السوق الإيرانية، مثل تفعيل ما يسمى بـ"آلية التعطيل" التي تهدف إلى تجنيبها تداعيات العقوبات الأمريكية.
لكن هذه الدول تبدي استياءً واضحًا تجاه ردود فعل إيران إزاء ذلك. إذ أنه بالتوازي مع هذه الجهود التي تبذلها والتي فرضت توترًا ملحوظًا في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ما زالت إيران حريصة على الاستمرار في أنشطتها الاستفزازية، على غرار التهديد بالانسحاب من الاتفاق وإعادة تنشيط البرنامج النووي واتخاذ بعض الخطوات لتطوير برنامجها الصاروخي، فضلاً عن تدخلها المتواصل في الشئون الداخلية لدول المنطقة، خاصة دول الأزمات وعلى رأسها سوريا واليمن.
وقد عبرت أكثر من دولة أوروبية عن رغبتها في الوصول إلى اتفاق جديد مع إيران يتضمن التزامات أوسع من تلك التي ينص عليها الاتفاق النووي الحالي، بشكل يقلص من العواقب التي تفرضها أنشطة إيران النووية والصاروخية والإقليمية.
واللافت أيضًا، هو أن تلك الدول باتت قريبة، نسبيًا، من الرؤية الأمريكية لمسارات الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا، وهو ما انعكس في حرص فرنسا على التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل مشاركة الرئيس ماكرون في قمة اسطنبول، على نحو يشير إلى أن الأخيرة أيضًا حاضرة بشكل غير مباشر في القمة من خلال تفاهماتها المستمرة مع بعض الأطراف المشاركة فيها.
4- تفاهمات "الأصدقاء": لا تخفي إيران امتعاضها من حرص بعض القوى التي ترتبط معها بعلاقات قوية، وخاصة روسيا وتركيا، على الوصول إلى تفاهمات سياسية وأمنية مع خصومها في سوريا. وقد تزايد هذا الامتعاض مع نجاح الدولتين في الوصول إلى تسوية بشأن الوضع في إدلب خلال قمة سوتشي التي جمعت الرئيسين الروسي فيلاديمير بوتين والتركي طيب أردوغان، في 17 سبتمبر 2018.
وترى إيران أن ذلك قد يتصاعد في الفترة القادمة، خاصة مع تزايد احتمالات إجراء محادثات جديدة حول العملية السياسية وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، على نحو سوف يؤثر بالطبع على موقع إيران من الترتيبات التي يشهدها الصراع السوري.
تصعيد محتمل:
وعلى ضوء ذلك، ربما تسعى إيران خلال المرحلة القادمة إلى اتخاذ خطوات تصعيدية واستفزازية جديدة في سوريا، ليس فقط لتوجيه رسائل إقليمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالتوازي مع تفعيل الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية، وإنما أيضًا لإثبات أنها طرف لا يمكن استبعاده في عملية صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في سوريا، وهو اتجاه سوف يؤدي، على الأرجح، إلى توسيع نطاق خلافاتها مع القوى المعنية بتطورات الصراع السوري، بما فيها القوى الحريصة على تأسيس علاقات قوية معها.