تزامنت ذكرى مرور 200 عام على ميلاد "كارل ماركس" في 5 مايو 2018 مع تصاعد اهتمام الباحثين والمفكرين حول العالم بالأفكار والأطروحات التي قدمها. وقد تصدرت مقولات "ماركس يُبعث من جديد" و"ماركس كان على صواب" مواقع الصحف ومراكز التفكير العالمية، فضلًا عن طرح عدة كتب ومؤلفات جديدة لتقييم ومراجعة أفكار "ماركس"، وهو ما يشير إلى أن أفكار "كارل ماركس" لا تزال تكتسب مساحات جديدة في ظل استمرار عدم المساواة والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي تسببت في استمرار الجدل حول أطروحاته الرئيسية.
عودة "ماركس":
تصاعد الاهتمام من جديد بـ"كارل ماركس" خلال الفترة الأخيرة بمناسبة مرور مائتي عام على مولده، فعلى سبيل المثال تم وضع تمثال برونزي ضخم يبلغ طوله خمسة أمتار ووزنه نحو ثلاثة أطنان في مسقط رأسه مدينة "ترير" بألمانيا، وقد أهدت حكومة الصين الشيوعية هذا التمثال لألمانيا، وبينما شهدت المدينة مظاهرات مؤيدة لوجود التمثال، إلا أنه -على جانب آخر- اندلعت مظاهرات مناهضة لوضع هذا التمثال في المدينة.
كما قامت دور النشر في عام 2018 بإصدار العديد من الكتب التي قدّمت تحليلًا مغايرًا وجديدًا لأفكار "ماركس"، مثل كتاب: "ماركس آخر: مخطوطات أولى للدولية Another Marx: Early Manuscripts to the International"، و"عالم للكسب: حياة وأعمال كارل ماركسA World to Win: The Life and Works of Karl Marx"، و"ماركس 200" (Marx 200)، و"النظام غير المنتهي لكارل ماركس The Unfinished System of Karl Marx"، و"الدراسات الثورية: مقالات Revolutionary Studies: Essays".
كما تم إنتاج فيلم في عام 2017 عن حياة "كارل ماركس" يسمى "ماركس الصغير The Young Marx" والذي ركز على السنوات الأولى من حياة "كارل ماركس"، وعلاقته بـ"فريدريك إنجلز" وزوجته "جيني ماركس".
يضاف إلى هذا قيام رئيس جمهورية الصين الشعبية "شي جين بينج" بإلقاء خطبة عن "كارل ماركس" في مايو 2018 ذكر فيها أن الحزب الشيوعي الصيني هو الأكبر في آسيا، وسيظل حامي وحارس الماركسية، مؤكدًا أن الصين حاملة راية الماركسية، ووصف النظرية الماركسية بأنها "لا تزال نظرية ماركس تضيء بالحقيقة الساطعة".
تأثير الأفكار:
تكمن قيمة أفكار "ماركس" الأساسية في أصالتها، فهي ليست استنساخًا من أفكار سابقة، حيث اهتم "ماركس" بقضية العدالة الاجتماعية، والمساواة، ورفع الظلم الاجتماعي، وهي القضايا التي عادت إلى الساحة من جديد، وناقشها أبرز المفكرين السياسيين المعاصرين، ومن أبرز المفاهيم التي طرحها ماركس: "الصراع الطبقي"، و"الوعي الزائف"، و"البناء الفوقي والبناء التحتي"، و"المادية التاريخية"، و"الاغتراب"، و"حتمية الثورة".
وأبرز "ماركس" العيوب الأساسية للنظام الرأسمالي والتي تمثل الأساس الذي يقوم عليه هذا النظام، ورأى "ماركس" أنه لا يمكن تفادي هذه العيوب إلا بالثورة عليها لأنه لا يمكن إصلاحها نظرًا لكونها لبنات أساسية في النظام الرأسمالي، كما أشار إلى أن النظام البرجوازي يؤثر على الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن المادة هي التي تحرك الفكر والثقافة.
وقد أثرت أفكاره على العديد من القادة السياسيين، مثل: "لينين" في روسيا، و"ماو تسي تونج" في الصين، و"تيتو" في يوغوسلافيا، و"جمال عبدالناصر" في مصر، و"نكروما" في غانا، بالإضافة إلى عدد من أبرز المفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخين، مثل: "جان بول سارتر"، و"هربرت ماركيوز"، و"تيودور أدورنو"، و"فالتر بنجامين"، و"إيريك هوبسباوم"، و"ماكس هوركهايمر"، و"إرنست بلوخ"، و"إريك فروم"، و"أنطونيو جرامشي"، و"لويس ألتوسير"، و"روزا لوكسمبرج"، و"أنطونيو نيجري"، و"سلافوج زيزيك"، و"شانتال موف"، و"أرنستو لاكلو"، و"هنري لوفيفر"، و"نيكوس بولانزاس"؛ فقيمة "ماركس" تتمثل في تأثيره القوي على عدد من أبرز المنظرين والمفكرين حول العالم. وقد ظهرت روافد عديدة للفكر الماركسي عبر السنوات، ومنها أطروحات مدرسة فرانكفورت والماركسية الجديدة.
كما تداخل الفكر الماركسي مع العديد من الأيديولوجيات الأخرى، مثل النسوية، فظهرت "النسوية الماركسية"، وأثر على مدارس فكرية عدة مثل "مدرسة التبعية" التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى تأثيره على العديد من الحركات التحررية في العالم، حيث ظهر عدد كبير من النشطاء الذين تبنوا الأفكار الماركسية مثل "تشي جيفارا".
وتجلت الأفكار الماركسية في العديد من الأعمال الفنية، سواء أكانت روايات أو أفلامًا أو لوحات الفنية، وعاد الاهتمام بـ"كارل ماركس" أيضًا من خلال الكتابات التي تُعيد قراءة أفكاره مثل الكتاب الشهير لـ"توماس بيكيتي" "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" الذي يقدم قراءة جديدة لأطروحته "رأس المال".
تقييمات متعارضة:
تتعدد المؤشرات التي توحي بزيادة الاهتمام بالفكر الماركسي في الفترة الراهنة تحديدًا بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي وصفها البعض بأنها آخر مسمار في نعش الرأسمالية الإمبريالية، وهو ما اعتبره بعض مؤيدي الاتجاه الماركسي بأنه تأكيد على صدق تنبؤاته الخاصة بانهيار الرأسمالية.
وفي هذا السياق، يرى العديد من المحللين أن الإجراءات النيوليبرالية أخفقت في تحقيق مستوى معيشة مناسب للأفراد، وخاصة الأكثر فقرًا والأقل حظًّا، ومن هنا بدأت تحدث مراجعات لأفكاره، حيث أدرك العديد من المراقبين أن مشكلة الفكر الماركسي الأساسية كانت بالأساس في التطبيق، وهو ما لم يكن "ماركس" مسئولًا عنه لأن تطبيقات الماركسية قد ظهرت على يد "لينين" في روسيا، ثم في الصين على يد "ماو تسي تونج"، وقد قامت هذه الأنظمة بقمع الحريات وارتكاب العديد من جرائم العنف، لذا تم الربط بين الماركسية والديكتاتورية، وذلك على الرغم من أن كلًّا من "لينين" و"ماو تسي تونج" لم يطبقا الأفكار الماركسية بحذافيرها، لذلك لا يمكن القول إن الفكر الماركسي قد فشل بسقوط دولة مثل الاتحاد السوفيتي.
وينتقد بعض الأكاديميين أفكار "ماركس" الخاصة بالتحليل الطبقي للظواهر السياسية التي لا يمكن تحليلها من المنظور الطبقي فقط، وهو الانتقاد الذي يُعتبر صحيحًا في بعض جوانبه، حيث إنه لا يمكن الزعم بأن جميع الظواهر والأحداث تعود إلى الصراع الطبقي فحسب.
من جانب آخر، لا تزال العديد من كتابات "ماركس" في حاجة إلى مزيدٍ من التحليل والقراءة مثل "الأيديولوجيا الألمانية" والذي ينبغي دراسته مع "رأس المال" و"البيان الشيوعي"، فبتحليل هذه الكتابات معًا يمكننا فهم "كارل ماركس" بصورة أعمق.
ختامًا، تعد مقولات: "يا عمال العالم اتحدوا" و"من الكل طبقًا لقدراتهم وللكل طبقًا لاحتياجاتهم" و"الفقر لا يصنع الثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة" و"النظام الرأسمالي يحمل في داخله مكونات تدميره"، من الشعارات التي يرددها ويتحمس لها الكثيرون في العالم، وحتى وإن كانت هذه الأطروحات غير صائبة، فشعارات "ماركس" لا تزال جذابة، إذ إن أفكاره يوتيوبية للغاية.
ومن المثير للدهشة أن كتب "ماركس" أصبحت تُباع بمبالغ طائلة في المكتبات والمواقع الإلكترونية، وعلى الرغم من أن العديد من المواقع قامت بوضع خصم خاص على كتب "ماركس" يوم ميلاده، إلا أنها تظل باهظة الثمن، وهنا يتضح أن النظام الرأسمالي يسيطر على كل شىء حتى على كتابات "ماركس"، بالإضافة إلى أن بيت "ماركس" قد تحول إلى متحف ومكتبة لبيع هدايا تذكارية خاصة به، وهو ما يمثل المجتمع الاستهلاكي الذي حذر منه في كتاباته.