أعاد انطلاق برنامجي "#30" و"أسود وأبيض" في موسمهما الجديد ظاهرة استعانة وسائل الإعلام المرئية التقليدية بالمحتوى الإلكتروني إلى الواجهة؛ إذ يمثل البرنامجان أحد أنماط الاستعانة بالمحتوى الإلكتروني في الإعلام المرئي التقليدي بشكل ناجح. في الوقت الذي تتعدد فيه أنماط هذه الظاهرة التي نشأت منذ سنوات عديدة، وتشهد إلى الآن تطورات متلاحقة.
مفهوم جديد:
على الرغم من أن دلالة مفهوم "الإنترنت التلفزيوني" Internet Television قد اقتصرت في السابق على مجرد بث الإرسال التلفزيوني عبر الإنترنت، إلا أن هذا المفهوم قد اتسع تطبيقيًّا ليشمل خدمات عدة متبادلة بين الإعلام المرئي التقليدي ونظيره الحديث على شبكة الإنترنت، لا سيما فيما يخص ما يقدمه الاثنان من محتوى، حيث برزت ظاهرة الاستعانة بمحتوى الإنترنت في البرامج ذات الطابع الإخباري بشكل خاص.
وقد ظهر هذا التوجه مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 عندما لجأت القنوات الإخبارية إلى بث مقاطع فيديو مسجلة لقياديي تنظيم "القاعدة" المنشورة على مدونات التنظيم ومواقعه الإلكترونية. غير أن الاحتجاجات العربية قد فتحت آفاقًا أخرى من نقل محتوى الإنترنت، لا سيما إبان اشتعال الأزمات السياسية في دول الثورات، وتعثر وصول المراسلين إلى بؤر الصراع، وكذلك ظهور ما يُسمى بظاهرة "المواطن الصحفي" الذي عمل على تسهيل مهمة نقل الأحداث إلكترونيًّا عبر الهواتف النقالة، واستعانة العديد من القنوات التلفزيونية الكبرى بما أُنتج بكثافة عبر مواطنين عاديين لتطورات الأحداث في بلادهم.
نمطان حاكمان:
لـ"بيل جيتس" رئيس شركة مايكروسوفت، مقولة شهيرة يقول فيها إن "من يسيطر على الصورة، يسيطر على العقول". وتلخص هذه المقولة التأثير المتزايد لوسائل الإعلام الحديث وتفوقه النسبي على وسائل الإعلام التقليدي، كما تفسر تزايد اللجوء إلى المحتوى الإلكتروني ليكون مكوِّنًا أساسيًّا لبعض البرامج. ففي الوقت الذي غابت فيه الصورة عن وسائل الإعلام التقليدي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالصور ومقاطع الفيديو المصورة عشوائيًّا، مما رجَّح كفة الأخيرة لدى المتلقي الساعي إلى متابعة الأحداث بشكل سريع.
ولعل أبرز أنماط تحول المحتوى الإلكتروني إلى محتوى تلفزيوني ما يلي:
1- استثمار ظاهرة المواطن الصحفي: إذ تعددت صور استفادة القنوات الإخبارية العربية والعالمية من شيوع ظاهرة ما أُطلق عليه اصطلاحًا "المواطن الصحفي" أو "الصحافة البديلة". فعلى سبيل المثال، أطلقت قناة العربية تطبيق "أنا أرى" لنقل الفيديوهات المصورة من قبل المواطنين للأحداث الجارية في بلدانهم، وكذلك قناة "الجزيرة" التي استحدثت خدمة "المواطن الصحفي" لذات الهدف، إذ أتاح التطبيقان للمواطنين أن يشاركوا القناتين مقاطع الفيديو التي قاموا بتصويرها، ومن ثم عرضها على الجمهور المتلقي.
كما أطلقت قناة "سي إن إن" الأمريكية برنامجًا على هاتف الـ"آي فون" يتيح للمواطنين الصحفيين تسجيل وإرسال تقارير فيديو وصور لشبكة الأخبار يحمل عنوان "آي ريبورت". وبالمثل أطلقت أيضًا وكالة "أسوشيتيد برس" خدمة "أرسل إلى آيه بي".
فيما عملت قناة "بي بي سي" عربية على إطلاق برنامج أسبوعي يحمل عنوان "أنا الشاهد" الذي يعرض شهادات لمواطنين من أنحاء العالم يتناولون فيها قضايا تشغلهم أو تخص مجتمعاتهم.
2- نقل برامج الـ"يوتيوب" إلى شاشات التلفزيون: إذ يمثل موقع "يوتيوب" إحدى أشهر وأنجح وسائل التواصل الاجتماعي عالميًّا، حيث تشير الإحصائيات إلى أن زوار الموقع يفوق عددهم المليار ونصف المليار، حول العالم، ويشاهدون نحو ما يقرب من 30 مليار ساعة شهريًّا.
وقد استطاع العديد من مستخدمي الموقع من خلال حساباتهم الشخصية عليه، تحقيق نجاحات خاصة أهلتهم للانتقال ببرامجهم إلى القنوات الفضائية، حيث تسعى الأخيرة إلى الاستفادة من هذه النجاحات المحققة إلكترونيًّا، واستثمارها على شاشات التلفزيون. وبرز في هذا الإطار العديد من النماذج. إلى جانب العديد من البرامج الترفيهية في مجالات عدة مثل الفكاهة والطبخ، التي تحولت لبرامج تلفزيونية. كما قدم برنامج "# 30" الذي يخاطب الشباب في الفئة العمرية من 25- 35، نموذجًا ناجحًا آخر في هذا الإطار، والذي ذاع صيته أيضًا على موقع تويتر.
بينما شكّل برنامج "أسود وأبيض" طفرة في البرامج التي انتقلت من موقع "يوتيوب" إلى شاشات التلفزيون، نظرًا لجدية البرنامج، وفكرته الجديدة القائمة على المناظرات بين الشباب من أجناس مختلفة، حيث يتعرض بالأساس لفكرة الهجرة، واللجوء. ويُعرض البرنامج على قناة "إيه آر دي" الرسمية الألمانية، وقناة "تن" المصرية، ويعمل البرنامج على مناقشة مشاكل اللاجئين في ألمانيا التي تُعد الدولة الأوروبية الأكثر احتضانًا للاجئين. ولا يزال اعتماد القائمين على البرنامج على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" كوسيلة لاختيار الجمهور التفاعلي وضيوف الحلقات، ورصد أهم المشكلات التي يواجهها اللاجئون العرب، وبالتالي مناقشتها في الحلقات.
وفي محاولة لدمج الإعلام الافتراضي بنظيره التقليدي، خرج برنامج "مجددون" الذي أُذيع على قناة "دبي الفضائية" حيث سعى البرنامج لتقديم نمط جديد هادف لتلفزيون الواقع على شاشة التلفزيون، وتقديم نسخة موازية له على الإنترنت تحمل نفس الاسم، على أن يحتوي البرنامج في نسخته الإلكترونية على مسابقة لتشجيع الشباب على متابعة البرنامج التلفزيوني، وبالتالي الفوز بالجوائز المقدمة.
ضوابط مفقودة:
على الرغم من نجاح وسائل الإعلام التقليدية المرئية في مواكبة الأحداث وتسارع تطوراتها من خلال الاعتماد على المحتوى الإلكتروني بأشكال متفاوتة، إلا أنها قد وقعت في مأزق التحقق من صحة الخبر، ومن عدم اجتزاء مقاطع الفيديو للحقائق واختلاق وقائع مزيفة، الأمر الذي ينال من مصداقية هذه القنوات.
وقد تعرضت بعض القنوات الإخبارية لهذه الأزمة بالفعل أكثر من مرة خلال أحداث الاحتجاجات العربية، حيث ظهرت العديد من الفيديوهات المفبركة بهدف دعم طرف سياسي معين. فيما ظهر في هذا السياق ما يمكن وصفه بـ"بزنس" جديد قائم على فكرة فبركة الأخبار والفيديوهات بشكل متعمد، ونشرها لخدمة تيار أو فكر بعينه، والاستفادة من حالة السيولة الإعلامية التي باتت تعاني منها عدة دول في المنطقة. فضلًا عن ظهور مشكلات مهنية في هذا النقل للمحتوى الإلكتروني إلى وسائل الإعلام المرئية، تتمثل في عدم الإشارة إلى مصدر هذا المحتوى، وإيحاء المتلقي بأنها مادة خاصة أُعدت للبرنامج الذي استعان بها، وقد ظهرت هذه المشكلة -على سبيل المثال- في برنامجي "روسيا في الأزمات" و"شخصيات دونها التاريخ" اللذين سبق أن أذاعهما التلفزيون الرسمي السوري في أواخر عام 2017، وتبين أن محتواهما كاملًا قد تم نقله من مواقع إلكترونية دون الإشارة إلى أن المادة الفيلمية ليست خاصة بالقناة، مما عرّض التلفزيون السوري لانتقادات عديدة.
توظيف مشروط:
وفي النهاية، يُمكن القول إن نجاح مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها في اجتذاب جمهورها المتابع لها نظرًا لتغطيتها الآنية للأحداث، وتنوع محتواها، وسرعة انتشار المحتوى الجيد، قد جعل ما تقدمه من مواد جاذبًا للقنوات التلفزيونية، لا سيما في ظل ما يعانيه بعضها من أزمات في التمويل، أو نقص في الكوادر، أو حتى على أقل تقدير الرغبة في استثمار نجاح محقق بالفعل دون مخاطرة، غير أن هذا النجاح المستهدف من نقل المحتوى الإلكتروني إلى شاشات التلفزيون يظل مرهونًا باتباع قواعد المهنية المطلوبة من خلال التحقق من صحة المادة الإعلامية، وعدم الانسياق وراء الأخبار الكاذبة لجذب انتباه المتلقي على حساب مصداقية القناة.