تزايدت تعقيدات أزمة المياه داخل بعض دول الإقليم، خلال السنوات السبع الماضية، بحيث صار نقص المياه يحمل أبعادًا ومخاطر سياسية. فقد برزت حدتها في ظل انعدام الاستقرار الإقليمي بعدما اشتعلت الحروب الداخلية والاضطرابات السياسية، لا سيما مع ازدياد الطلب على المياه، وارتفاع معدلات النمو السكاني، وتفاقم الهدر المائي، وعدم تجدد مصادر المياه، وانخفاض معدل هطول الأمطار، وارتفاع الاحتباس الحراري، بخلاف خدمات التنقية المتهالكة، وعدم وصول المياه النظيفة في مدن مزدحمة، ما يجعل البشر عرضة لخطر تفشي الأمراض التي تنقلها المياه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التقارير الدولية توضح أن أكثر من 60% من سكان الشرق الأوسط يعيشون في منطقة "إجهاد مائي" مرتفع أو مرتفع للغاية، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يصل إلى نحو 35%. كما أن أكثر من 60% من موارد المياه في الإقليم تنبع من خارج الحدود الوطنية، ويضاف إلى ذلك عدم التنسيق في الرؤى بين الوزارات المعنية بملف المياه، سواء كانت الخارجية أو الموارد المائية أو الزراعة أو الإسكان والإعمار أو البلديات، وهو ما يتزامن مع عدم وجود إيرادات مائية وتخزين استراتيجي محكم.
مضاعفات الفوضى:
رغم أن أزمة الشح المائي ليست جديدة على دول المنطقة، إلا أنها تصاعدت مع تزايد مصادر التهديد الأمني المتمثلة في تفاقم خطر التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة، واستمرار التدخلات الإقليمية في الشئون الداخلية للدول العربية والتي فرضت مخاطر مضاعفة للمياه. ولذا، حذر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط من خطورة الشح المائي في المنطقة العربية، في كلمته أمام الدورة الثامنة لمجلس وزراء المياه العرب التي عقدت في 26 أكتوبر 2016 بمقر الأمانة العامة للجامعة.
كما قال أبو الغيط خلال كلمته في فعاليات افتتاح المنتدى العربي الرابع للمياه، الذي استضافته القاهرة باعتباره أكبر منتدى إقليمي للمياه تحت عنوان "الشراكة في المياه.. مشاركة في المصير"، في 26 نوفمبر 2017: "إن ندرة المياه مشكلة تدفع الدول العربية إلى البحث عن حلول لها، إذ أن سكان المنطقة العربية يشكلون 5% من سكان العالم، ولا يحصلون إلا على 1% من حجم المياه العذبة عالميًا.. فالجفاف الذي تشهده المنطقة العربية هو الأسوأ منذ 900 عام".
وأضاف: "إن دولاً عربية كثيرة تشهد ضغوطًا داخلية بفعل ما تشهده المنطقة من إرهاب"، مشيرًا إلى أن "تعداد سكان دولة لبنان 4 ملايين مواطن وتستضيف 2 مليون آخرين من اللاجئين، ولذلك فهى مرهقة لأنها تقدم خدمات لمواطنين لا يحملون الجنسية". وبالتالي لا تقتصر أزمة المياه اللبنانية على الاستهلاك المرتفع والهدر الكبير، بل ترتبط أيضًا بمشكلة التلوث التي تزايدت خلال العامين الماضيين، فضلاً عن بروز عامل إقليمي رئيسي يتمثل في استقبال اللاجئين السوريين.
وقد تعددت أبعاد تأثير المتغير المائي على تفاعلات الشرق الأوسط، خلال الآونة الأخيرة، وهو ما توضحه النقاط التالية:
جريمة حرب:
1- استهداف عسكري لمحطات المياه: قصفت القوات العسكرية التركية إحدى محطات المياه الرئيسية التي تخدم السكان المواطنين والنازحين في منطقة عفرين بشمال سوريا، في 7 فبراير الجاري، وهو ما يأتي في إطار حملتها الجوية والبرية التي انطلقت في يناير الماضي ضد وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة "منظمة إرهابية"، وترى أنها تشكل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني.
ورغم نفى تركيا القيام بذلك، إلا أن تقارير عديدة تؤكده بما يشير إلى أن القصف التركي لا يستثنى الخدمات بمنطقة عفرين والتي تبعد عنها المحطة بحوالي 9 كيلومترات، حيث تدرك أنقرة محورية تأثير العامل المائي. كما أن نظام الأسد استهدف بعض محطات المياه التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلحة، لدرجة أن الأمم المتحدة وصفت ذلك بأنه "جريمة حرب".
ضعف التدفق:
2- قلة منسوب المياه الوارد من دول الجوار عبر الأنهار: وهو ما أعلنته وزارة الزراعة العراقية في 6 فبراير الجاري، على لسان الوكيل الفني للوزارة مهدي ضمد القيسي، على نحو أدى- فضلاً عن انحباس في هطول الأمطار لم تشهده البلاد منذ عقود عدة- إلى أضرار جسيمة طالت القطاع الزراعي، بحيث فقدت العراق إنتاج بعض المحاصيل الزراعية مثل القمح والشعير والأرز بمقدار يتراوح بين 20 إلى 30%.
ودفع ذلك وزارة الزراعة العراقية إلى اتخاذ جملة من الإجراءات التي من شأنها زيادة الغلة الغذائية، وإدخال تقنيات الرى الحديثة وغيرها من الإجراءات التي يمكن أن تخفف من الأضرار السلبية. كما يعقد البرلمان العراقي هذا الأسبوع جلسة خاصة لمناقشة سبل حل مشكلة شح المياه وتوحيد وجهات النظر بين وزارتى الخارجية والموارد المائية على رئاسة اللجنة المفاوضة مع الدول الأخرى، لأن العراق دولة مصب و70% من المياه تأتي من الخارج.
وقد قامت تركيا ببناء بعض السدود مما قلل من تدفقات المياه. لذا، أكد عضو لجنة الزراعة والمياه في البرلمان العراقي منصور البعيجي، في 1 ديسمبر 2017، أن "بناء تركيا للسدود وتخزينها للمياه قللا نسب ما يدخل إلى البلد منها بشكل كبير، مما أدى إلى النقص الحاصل وتأثر أراضينا بصورة عامة".
شح الوقود:
3- نقص توافر المياه النظيفة: نتيجة عدم وجود الوقود اللازم لتشغيل محطات الوقود، على نحو يعاني منه أكثر من 80% من سكان اليمن، وفقًا لتقديرات صادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في 21 ديسمير 2017، إذ تعاني اليمن، منذ سيطرة الحوثيين على مناطق واسعة داخل البلاد، من أزمات إنسانية متعددة، وتتمثل أبرز هذه المشكلات في نقص المياه.
فقد توقفت محطات ضخ المياه عن العمل بسبب نقص أو تضاعف أسعار الوقود اللازم لتشغيلها، الأمر الذي ساهم في تفاقم سوء الرعاية الصحية وانتشار حالات الكوليرا. وفي هذا السياق، سجلت منظمة الصحة العالمية 2219 حالة وفاة منذ بدء تفشي وباء الكوليرا في إبريل 2017 وحتى ديسمبر من العام نفسه، ويشكل الأطفال ما يقرب من ثُلث حالات الإصابة بالعدوى.
كما قال خيرت كابالاري، المدير الإقليمي لليونيسيف في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في 19 ديسمبر 2017: "يؤدي نقص الوقود المتكرر في اليمن إلى تعميق أزمة المياه والصحة.. ويأتي هذا في وقت هو الأسوأ بالنسبة لأطفال اليمن الذين يعانون من الترنح بين العنف وسوء التغذية وانتشار الأمراض، بما فيها الإسهال المائي الحاد والكوليرا". ويضيف: "لا يستطيع أكثر من ثلثى اليمنيين والذين يعيشون في فقر مدقع تحمل نفقات المياه الآمنة بتاتًا".
السلطة الهشة:
4- إغلاق أنابيب ضخ المياه: وهو ما قام به موالون للرئيس الليبي السابق معمر القذافي بقطع إمدادات المياه إلى العاصمة ومدن أخرى على الساحل عند شبكة آبار الحساونة، وفقًا لما أشار إليه توفيق الشويهدي المتحدث باسم جهاز إدارة النهر الصناعي ( وهو عبارة عن شبكة خطوط أنابيب أنشأت في عهد القذافي لضخ المياه الجوفية من الجنوب الصحراوي إلى المناطق الساحلية) في 28 نوفمبر 2017.
وقد كان الهدف من ذلك الإغلاق هو ممارسة ضغوط من جانب الموالين لنظام القذافي من أجل إطلاق سراح المبروك أحنيش، وهو زعيم فصيل مسلح احتجزته ما يطلق عليها "قوة الردع" المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني بهدف تثبيت نفوذها في غرب ليبيا. كما وجه مؤيدو أحنيش تهديدات متعددة باستهداف البنية التحتية مثل امدادات الوقود والغاز. ولعل ذلك يلقي الضوء على عجز حكومة الوفاق عن السيطرة الميدانية.
الإنهاك المائي:
5- وقف سيطرة التنظيمات الإرهابية على محطات ضخ المياه: نجحت قوات الجيش النظامي السوري في السيطرة على إحدى المحطات الرئيسية لضخ المياه داخل حلب (الخفسة وسليمان الحلبي) في مارس 2017، والتي كان يسيطر عليها تنظيم "داعش" لفترة من الوقت. وقد تم ضخها إلى الخزانات الرئيسية في أنحاء المدينة، على نحو يعكس الأضرار التي تعرضت لها منابع المياه خلال الحرب التي شهدتها سوريا على مدى سبع سنوات.
ورغم عودة بعض مضخات المياه للعمل مرة أخرى، لكنها لا تغطي كل الأحياء، وتحتاج لفترة زمنية أكبر كى تستعيد سابق عهدها. يضاف إلى ذلك تعرض مستودعات المحطة للسرقة، إلى جانب صعوبة استيراد التجهيزات والمعدات اللازمة بسبب العقوبات الدولية المفروضة على سوريا. فضلاً عن ارتفاع أسعار عبوات المياه المعدنية بعد انقطاع المياه، بما يؤدي إلى تزايد غلاء المعيشة، وهو استمرار للحرب بوسائل أخرى.
تحديات ضاغطة:
خلاصة القول، إن التحديات المائية الراهنة تتجاوز الحدود التقليدية القديمة التي تفرضها ندرة المياه، بحيث يتوقع معاناة العديد من المحافظات السورية والعراقية من انقطاع شبه دائم للمياه، لا سيما في ظل استمرار الصراعات، وقد تندلع نزاعات مقبلة متصلة بالمياه على المستوى دون الوطني بين المناطق الإدارية والمجتمعات المحلية والقبائل، حيث تعاني مدن الجنوب في العراق من شح المياه وجفاف الأنهار، على نحو أدى إلى نشوب خلافات بين إدارات المحافظات بسبب التجاوزات التي تحدث في حصص البعض منها من المياه.
وتتوازى أزمة المياه في اليمن مع استمرار تمرد الحوثيين على الشرعية الدستورية وغياب الإدارة التعاونية لموارد المياه المشتركة. كما تتفاقم أزمة المياه في الأردن ولبنان مع تدفق اللاجئين السوريين، على نحو يفرض إتباع إجراءات تدعيم الأمن المائي بدلاً من انتظار الاختلالات الحتمية التي تتمخض عنها أزمات المياه، والبدء بخطوات حقيقية لتغيير أساليب استهلاك المياه عبر تشكيل وعى مائي جديد، وإعادة تدوير المياه، وصيانة البنية التحتية، ووضع العامل المائي في خطة إعادة إعمار الدول المنهارة في مرحلة ما بعد تسوية الصراعات، لتكون المياه مصدر فرص بدلاً من كونها مصدر مخاطر.