حركات السلاح الموازي لسلاح الدولة ليست كثيرة العدد. بعضها ميليشيات أنشأها دعاة التفوّق العرقيّ الأبيض في الولايات المتّحدة، وميليشيات أنشأها غلاة المستوطنين اليهود في الضفّة الغربيّة من فلسطين. هؤلاء أضعف بلا قياس من جيوش دولهم، فيما قضاياهم شديدة الجلافة والأنانيّة، لا تعمّم نفسها على سواها، ولأنّها صريحة في عنصريّتها، فإنّها لا تُشرك غيرها في زعمٍ جامعٍ أو مُتعالٍ. هؤلاء هم الحدّ الأدنى الميليشيويّ الذين يخجل غيرهم باعتمادهم قدوةً ومثالاً.
هناك أيضاً الحدّ الميليشيويّ الأقصى، كما يمثّله «الحرس الثوريّ» الإيرانيّ ومؤخّراً «الحشد الشعبيّ» العراقيّ. هؤلاء جيوش موازية ومكمّلة، تقلّد نماذج سابقة في أنظمة توتاليتاريّة أوروبيّة. وهي تمارس من المهامّ ما يتطلّبه النظام القائم، وتحظى لذلك بموازنات ماليّة ضخمة تبرّرها مزاعمها الأيديولوجيّة المتعالية: تحرير، توحيد، دفاع عن الوطن، ردع لمؤامرة أجنبيّة أو داخليّة خبيثة إلخ...
«حزب الله» لم يعش طويلاً كميليشيا حدّ أدنى. فترة تدريب «الحرس الثوريّ» له في بعلبك وشعار «حجابكِ أغلى من دمي» وممارسة رشّ الأسيد على الفتيات، لم تطل. «الحزب» سريعاً ما بات يشبه ميليشيا الحدّ الأقصى بوصفه مقاومة لتحرير أرض محتلّة، ثمّ بوصفه طرفاً يحظى وجوده بالشرعيّة التي أسبغها عليه اتّفاق الطائف، ثمّ بوصفه طرفاً مشاركاً في السلطة بنوّاب ووزراء، وأخيراً بوصفه يخوض حرباً في سوريّة. ثلاثيّة «شعب، جيش، مقاومة» حاولت أن ترسمه ميليشيا حدّ أقصى، حاله كحال «الحرس الثوريّ» الإيرانيّ و «الحشد الشعبيّ» العراقيّ. لكنْ لئن حالت تركيبة الطوائف اللبنانيّة دون ذلك، فإنّ الكثير من هذا بقي وترسّخ. انتخاب رئيس للجمهوريّة حليف لـ «الحزب»، ودفاع الرئيس عنه، والمواقف الرسميّة التي تمالئه في السياسة الخارجيّة، خصوصاً مشاركته شبه الرسميّة في معارك عرسال...، كلّها ثبّتته في هذا الموقع.
الحدود هي الفارق الأهمّ بين ميليشيا الحدّ الأدنى وميليشيا الحدّ الأقصى. «حزب الله» ولد حدوديّاً، يستخدم الحدود لأجل الداخل. مرّةً في الجنوب، ثمّ مرّةً وعلى نحو أفدح في الشرق. هذه الحدوديّة المسمّاة مقاومةً هي ما قصّر مرحلته الأولى وجعله يطلّ مباشرة على القضايا الكبرى ومن ثمّ على السلطة والقرار. إنّها ما جعله جيشاً أقوى، بلا قياس، من الجيش.
الآن، ربّما بتنا نجني حصاد هذا التحوّل. فأن يعامل العالم دولتنا و «حزب الله» كأنّهما رأسان متشابهان، فهذا لا يعني إلاّ أنّ لبنان كلّه أصبح أخطبوطاً في نظر العالم. والأخطبوط يحرّض الآخرين على قتله، تماماً كما أنّ الشراكة الرسميّة بين دولتنا و «حزب الله» تحرّض على الحرب علينا من دون تمييز.
ويُخشى أن تكون العقوبات الأميركيّة الأخيرة، ومطالبة الأوروبيّين بعدم التمييز بين جسم «سياسيّ» لـ «حزب الله» و «جناح عسكريّ»، مقدّمة لعمل عدوانيّ تظلّله أجواء التوتّر بين الولايات المتّحدة وإيران. وغنيّ عن القول إنّ قدرة نتانياهو على العدوان تتغذّى على قدرة ترامب على الهوَج.
لكنّ الميليشيا الحدوديّة، والحال هذه، لن ترضى، في ظرف التعبئة، بأقلّ من إعادة تكييف لبنان على نحو شامل. فإذا صحّ أنّ «معركة مصير» تقترب، صحّ أن لا يرتفع «صوت فوق صوت المعركة». وهذا ما يتعدّى تراكيب السلطة إلى «ثقافة المجتمع». ذاك أنّ عبادة الزعيم الذي يخوض «معركة المصير» تستدعي لعق نعله وحذائه وتسمين كرامته، التي «تمثّل» القضيّة، من كرامات الأفراد الضامرة والمهدورة. مع هذا، فتحقّق السيناريو الكارثيّ لن يفيد من يستعجلونه، ممّن ينطبق عليهم القول الشهير عن ربح العالم وخسارة النفس. ذاك أنّ المجد الذي يُبنى على الحدود إنّما يُهدم على الحدود، ومعه تُهدم الحدود وما في داخلها.
*نقلا عن صحيفة الحياة