أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

دبلوماسية الصحة:

أبعاد تسييس المساعدات الغربية لمكافحة الأوبئة العالمية

04 يوليو، 2018


عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية المساعد، جامعة القاهرة

شهد العقد الماضي بروز "دبلوماسية الصحة العالمية" كمجالٍ جديد من مجالات الدبلوماسية، وذلك في سياق التحول في طبيعة العلاقة بين المانحين والمتلقين، وبروز أنواع جديدة من التحالفات الصحية، وتنامي التعاون بين دول الجنوب-الجنوب. وهو الأمر الذي تتزايد أهميته بفعل الأوبئة المتفشية، بما في ذلك تفشّي فيروسَيْ الإيبولا في غرب إفريقيا، وزيكا في أمريكا الجنوبية. وهو الأمر الذي يفرز بدوره تحدياتٍ جمّة على صعيد العلاقات الدولية وتوازانات القوى العالمية.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية الدراسة المنشورة بمجلة "العلاقات الدولية" للكاتبة "إيما لويز أندرسون" (بكلية السياسة والدراسات الدولية بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة)، والمعنونة "دبلوماسية الصحة الإفريقية: التعتيم على السلطة والاستفادة من الاعتمادية من خلال دبلوماسية الظل". وفي إطارها، سعت الكاتبة إلى سد إحدى الفجوات المتصلة بدراسات النظام الدولي، خاصة فيما يتعلق بموقع الأفارقة من السياسات العالمية، اعتمادًا على ثلاثة أشهر من العمل الميداني في مالاوي، أجرت الكاتبة خلالها (68) مقابلة مع خبراء في مجال الصحة، وموظفي الخدمة المدنية، والمستشارين الفنيين، وغيرهم. 

دبلوماسية الصحة العالمية:

وفقًا للكاتبة، تزيد "دبلوماسية الصحة العالمية" من الدبلوماسية تعقيدًا؛ لأنها تمتد إلى فضاءاتٍ جديدة، وتضم فاعلين ومستوياتٍ مختلفة، لتشمل كلًّا من: الدبلوماسية الأساسية، والدبلوماسية متعددة الأطراف. ففي حين تُشير الأولى إلى المفاوضات الدولية رفيعة المستوى، لا سيما في إطار منظمة الصحة العالمية، تشير الثانية إلى الأدوار التي تضطلع بها المنظمات الثنائية ومتعددة الأطراف، جنبًا إلى جنب مع الحكومات الوطنية، لتطوير وتنفيذ ومراقبة المبادرات الصحية الوطنية والإقليمية.

تُعَد "دبلوماسية الصحة العالمية" مجال بحثي وليد، يتطلب مزيدًا من التأصيل المفاهيمي، خاصة في ظل هيمنة الغرب على دراسات الدبلوماسية بشكلٍ عام ودبلوماسية الصحة بشكلٍ خاص، مما حجب الممارسات والإسهامات الإفريقية. وعليه، سعت الكاتبة لتطبيق المفهوم واختباره على الواقع الإفريقي.

وبخلاف الطرح السائد في أدبيات الصحة العالمية الذي ينظر إلى إفريقيا كونها مفعولًا به، وتهديدًا للصحة العالمية، تجادل الكاتبة بأن إفريقيا فاعلٌ في السياسة العالمية من جهة، وأن الأُطر المفاهيمية الغربية يمكن تطبيقها على الحالات الإفريقية من جهةٍ أخرى، مع الأخذ في الاعتبار تزاوج السلطة السياسية مع الدبلوماسية الصحية في السياق الإفريقي، بفعل اعتماد كثيرٍ من الدول على المساعدات الصحية.

ومن ثم، تُبرز "الدبلوماسية الصحية" طبيعة العلاقة بين الدول وبعضها بعضًا من ناحية، والدور الحاسم للفاعلين الآخرين بما في ذلك: الجهات المانحة، والمنظمات غير الحكومية، والجهات الخيرية، والقطاع الخاص، وغيرهم من ناحيةٍ أخرى. وهو ما اختبرته الكاتبة على مستوى الممارسة العملية بالتطبيق على حالة مالاوي، خاصة وأن طبيعة العلاقات بين المانحين والحكومات المتلقية تظل صندوقًا أسود.

فقد اعتمد القطاع الصحي في مالاوي على المساعدات الخارجية من: الصندوق العالمي Global Fund، والبنك الدولي، وإدارة التنمية الدولية البريطانية، بما يمثل (89%) من ميزانية وزارة الصحة. ولا شك في تعارض مصالح الدول المانحة مع مصالح مالاوي، وهو ما يعكس تجزئة النظام الصحي بين أنظمة صحية موازية متعددة من جانب، وتراجع تمويل بعض القطاعات التي تمولها الحكومة لعدم جاذبيتها للجهات المانحة بما في ذلك صناعة الدواء من جانب آخر، وسوء إدارة المنح المقدمة من الصندوق العالمي من جانبٍ ثالث. 

ففي عام 2013، كشفت مراجعة الأموال المقدمة للحكومة عن فسادٍ فيما يقدر بـ30 مليون دولار أمريكي، فيما عُرف بفضيحة "Cashgate"، مما أسفر عن تراجع دعم المانحين الدوليين لما اعتبروه حكومة فاسدة.

الهيمنة الغربية:

أشارت الكاتبة إلى علاقات المعونة غير المتكافئة المتواترة في أدبيات المساعدة الإنمائية، والتي تعكس هيمنة القوى الغربية على دبلوماسية الصحة، في ظل الاعتماد المتزايد على المساعدة الخارجية. وتجد تلك الهيمنة جذورها في ثلاثة أشكال متباينة؛ أولها "دبلوماسية الظل" وفي إطارها تستخدم لغة الشراكة للدلالة على عمليات التشاور الوطنية الرسمية مع الجهات المانحة، لتجاوز خلل علاقات القوة بين المانحين والدول المتلقية.

وثانيها الدمج في هياكل الدول؛ حيث تقوم القوى الغربية بتعيين مستشاريين فنيين في هياكل الدولة باعتبارهم "عيونًا على الأرض"، خاصة في الأمور المالية أو السرية. وثالثها الأدوات الدبلوماسية؛ وذلك لبسط سيطرة القوى الغربية على الحكومات المتلقية، وهو ما يتجلى على صعيد "النهج الشامل" الذي طبقته مالاوي.

كما تستخدم الجهات المانحة المراجعات نصف السنوية، وأنظمة الإشراف على المناطق، والمذكرات غير الرسمية، لتعزيز قدرتها على محاسبة حكومة مالاوي على التزاماتها. وبالتوازي مع دبلوماسية الظل، يقوم المانحون ببناء "شراكة" مع مالاوي كي تتبع السياسات النيوليبرالية. 

ففي الوقت الذي يستخدم فيه (72) مانحًا مصطلحات من قبيل "القيادة الحكومية" و"الشراكة"، يبسط المانحون سيطرتهم على الدول لمد نفوذهم وإحكام تغلغلهم، لضمان توافق السياسات والمبادرات الوطنية مع تفضيلاتهم الخاصة. ومن ذلك تعيين المانحين مستشارين فنيين داخل وزارة الصحة، واستخدام أدوات الدبلوماسية الصحية لمحاسبة الحكومات الوطنية.

الاستفادة من التبعية:

وفقًا للكاتبة، يوفر مفهوم "دبلوماسية الظل" فهمًا أكثر دقة للطرق التي تستخدم بها النخب السياسية الإفريقية قطاع الصحة لتعزيز قوتها. واستنادًا إلى النتائج التجريبية من مالاوي، يأخذ ذلك أربعة أشكال؛ أولها مواجهة الدول الإفريقية للخارج واستغلال أوضاعها للتعويض عن قوتها المحدودة. وثانيها مواجهة النخب السياسية في مالاوي لبعضها بعضًا لتعزيز مصالحها الخاصة، ولا سيما في ظل تعدد البرامج الصحية المتنافسة. وثالثها استخدام "دبلوماسية قائمة على الأدلة" عمادها الأدلة الكَمية، بما يعزز قدرات وزارة الصحة وموقعها التفاوضي. ورابعها إضرار النخب السياسية بالقطاع الصحي لتحقيق مكاسبها الخاصة.

ويوفر القطاع الصحي فرصًا ذهبية للتحكم في الموارد وتوجيهها للأغراض الشخصية. وفي ظل سيطرة وزارة المالية على موارد المانحين، ومن خلال العلاقات والروابط الشخصية (بما في ذلك العائلة الممتدة والخبرة السابقة)، تعمل الشبكات غير الرسمية على تخريب القطاع الصحي لتحقيق مكاسب شخصية، وتقويض الرعاية الصحية بشكلٍ كبير. 

ومع تزايد الموارد المخصصة لمواجهة وباءٍ بعينه، تتزايد الأرباح المتوقعة جرّاء السيطرة على تلك الموارد. وبذلك تتغلغل شبكات المحسوبية في المجتمع. كما يعتبر السكان المحليون الموارد المالية التي تمنحها المنظمات الدولية مصدرًا محتملًا للأموال والسلع. إذ تُعد المحسوبية إحدى السمات المتغلغلة في كافة ربوع القطاع الصحي، مما يؤثر سلبًا في: البنية التحتية، وشراء الأدوية، وتقديم الخدمات. فلا يقتصر الأمر على نقص الموارد للبنية التحتية، ولكنه يطال تراجع جودة الخدمة المقدمة مقابل ارتفاع سعرها أيضًا، وبخاصة في ظل شح الموارد الطبية وتنامي الطلب عليها.

وبذلك يُلقي مفهوم "دبلوماسية الظل" الضوء على سبل مقاومة مالاوي للهيمنة الغربية؛ إذ توظف حالة التبعية لتطوير القطاع الصحي، وتعزيز موقفها التفاوضي من خلال "الدبلوماسية القائمة على الأدلة"، واستخدام أنظمة الظل الصحية، لتحويل الموارد والفرص لتحقيق مكاسب خاصة.

نتائج مستخلصة:

استخلصت الكاتبة من واقع دراستها لدبلوماسية الظل في مالاوي عدة نتائج مهمة، يمكن إجمالها على النحو التالي:

أولًا، أن قوة المانحين ليست مجرد قوة خارجية، ولكنها "جزء لا يتجزأ من الدولة". فقد تغلغلت الجهات المانحة في الدول المتلقية عن طريق دمج مستشاريها الفنيين داخل الوزارات الحكومية، بحيث تجري مفاوضات الظل داخل الوزارات.

ثانيًا، تعكس دبلوماسية الظل أن حكومة مالاوي ليست الممثل الأوحد للدولة؛ فوزارة المالية هي القنطرة الواصلة بين مختلف الوزارات والمانحين الخارجيين. 

ثالثًا، يمكن من خلال دبلوماسية الظل فهم الهويات المعقدة لمختلف الأطراف التي ترتبط بالمنظمات الدولية المانحة. فعلى سبيل المثال، انسحب أحد المستشارين الفنيين من دعم الموازنة بعد فضيحة Cashgate، وهو ما يدلل على إحساسه المتضارب بين هويته وولائه من ناحية، وتعاطفه مع المنظمات الأخرى التي يتفاوض معها من ناحيةٍ أخرى.

رابعًا، تمتد الجهات المانحة والمنظمات غير الحكومية لتشمل أطرافًا وطنية؛ مثل: مدراء البرامج من المانحين والمنظمات الغربية غير الحكومية، والنخب الإفريقية عبر الوطنية، وغيرهم. 

وعلى صعيد دراسة الكاتبة لدبلوماسية الصحة بشكلٍ عام، توصلت الكاتبة إلى أهمية وضرورة إعادة تعريف العلاقات الدولية في ظل انتقادات الهيمنة الغربية، وتهميش النظريات غير الغربية. فقد أصبحت الأزمات الصحية المعاصرة إحدى قضايا السياسة العليا. وتتركز تلك الأزمات خارج الدوائر الغربية؛ ومنها: فيروس نقص المناعة البشرية في جنوب إفريقيا، ووباء الأنفلونزا في جنوب شرق آسيا، والإيبولا في غرب إفريقيا، وزيكا في أمريكا الجنوبية. ويسلط ذلك الضوء على ضرورة فهم تلك المناطق على نحو أفضل بجانب المناطق المُهمشة، لا سيما القارة الإفريقية. 

وتساهم دبلوماسية الصحة في فهم تعقيدات الدبلوماسية الصحية بعيدًا عن الدول والجهات المانحة وصولًا للدور الحاسم لمختلف الفاعلين بما في ذلك: الجهات المانحة، والمنظمات غير الحكومية، والعاملون، ومقدمو الخدمات الصحية في القطاع الخاص، والمستشارون التقنيون، ومديرو البرامج، والاستشاريون العاملون داخل تلك المنظمات. ويساهم ذلك بدوره في تطوير مفهوم دبلوماسية الظل؛ فالشبكات غير الرسمية على الرغم من تأثيرها لا يتم الاعتراف بها كجزء رسمي من الدبلوماسية.

وختامًا، تستفيد النخب السياسية الإفريقية من دبلوماسية الظل لدورها في تقويض هياكل القوة العالمية. وعليه، تتعدد ممارسات النخب السياسية الإفريقية تجاه القطاع الصحي لتشمل: تعزيز موقفهم التفاوضي من خلال "الدبلوماسية القائمة على الأدلة"، وتدمير النظام الصحي لتحقيق مكاسب خاصة. وفي المقابل، يهدف المانحون إلى فرض أجنداتهم الخارجية على المجتمعات الإفريقية من خلال المنح والمساعدات الصحية. 

المصدر:

Emma-Louise Anderson, African Health Diplomacy: Obscuring Power and Leveraging Dependency through Shadow Diplomacy, International Relations, Vol. 32, No. 2, 2018, pp. 194-217.