أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

انبعاثات السماء:

التداعيات طويلة الأمد للتلوث الفضائي على أزمة المناخ

29 نوفمبر، 2023


على الرغم من حداثة الاهتمام بظاهرة التغيرات المناخية، فإن أسبابها قد بدأت منذ زمن بعيد قد يصل إلى عدة قرون، بل قد ترجع حتى إلى عصر ما قبل الثورات الصناعية، وذلك مع زيادة النشاط البشري غير المنظم للتنقيب عن المعادن وإزالة الغابات. ويبدو أن البشرية على موعد مع تكرار نفس الخطأ مرة أخرى ولكن هذه المرة من خارج كوكب الأرض، فمن شأن تصاعد ظاهرة السفر إلى الفضاء وإرسال آلاف من الأقمار الاصطناعية سنوياً إلى مدارات قريبة من الأرض، أن يؤدي على المدى البعيد إلى تلوث الفضاء وتعريض الغلاف الجوي لخطر التآكل وظهور الفجوات والثقوب. فلا تكاد البشرية تنظم جهود الانبعاثات الكربونية الصادرة من ناحية الأرض، حتى تصطدم بوجود مشكلة أخرى، ولكن هذه المرة من ناحية السماء.

وتتمثل أهمية الغلاف الجوي للأرض في كونه جدار حماية الكوكب، فيحافظ على النظام البيئي الداخلي ويحمي الأرض من الإشعاعات الضارة والعواصف الشمسية التي تسبب ارتفاع درجة الحرارة مما يؤدي إلى نفوق الحيوانات وتدمير المحاصيل وحرائق الغابات. ويؤدي إرسال آلاف من الأقمار الاصطناعية تحملها صواريخ تنفث أطناناً من الملوثات في طبقات الغلاف الجوي، إلى تآكل طبقات الجو العليا من ناحية، وتحويل المدارات القريبة من الأرض إلى حاويات لنفايات الأقمار الاصطناعية من ناحية أخرى، مما يزيد من الخلل البيئي، ويجعل مهمة التعامل مع التغيرات المناخية أمراً شديد الصعوبة.

نفايات الفضاء:

تتنوع مصادر التلوث نتيجة للنشاط البشري في الفضاء، ومنها الأقمار الاصطناعية سواءً النشطة أم التي خرجت عن الخدمة وظلت تسبح في الفضاء، وأجزاء الصواريخ التي تنفصل بعد أن تنطلق المركبات الفضائية، والشظايا الناتجة عن الاصطدامات أو الانفجارات، فضلاً عن الغازات والسوائل التي تطلقها بعض المركبات الفضائية أثناء حركتها. يُضاف إلى ذلك، ظاهرة سياحة الفضاء التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة. ويمكن توضيح ذلك في التالي:

1- الأقمار الاصطناعية: حتى عام 2005، كان عدد الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض 6.718، وتزايد هذا العدد ببطء نسبي حتى وصل في يونيو 2023 إلى 11.330 قمراً اصطناعياً، ونصف هذا العدد تقريباً تمتلكه شركة "سبيس إكس" (SpaceX) وحدها من خلال مشروعها "ستار لينك" بإجمالي 5.420 قمراً حتى نوفمبر 2023. لكن من المتوقع أن يتضاعف عدد الأقمار الاصطناعية الموجودة في الفضاء خلال السنوات القليلة المقبلة بوتيرة أسرع من ذي قبل. فوفقاً لتقرير أصدرته شركة (Northern Sky Research)، سوف يصل عدد الأقمار الاصطناعية، بحلول عام 2030، إلى ما يقرب من 24.700 قمر، فضلاً عن تخطيط شركة "سبيس إكس" ليكون عدد الأقمار التي تمتلكها في الفضاء لبث خدمة الإنترنت حوالي 42 ألفاً خلال السنوات العشر المقبلة، أضف إلى ذلك الأقمار الاصطناعية التي تمتلكها شركات منافسة لها مثل: (OneWeb) و(Virgin). وهذا العدد الضخم من الأقمار الاصطناعية قادر على أن يخلق أزمة مرور في الفضاء في المستقبل القريب، ينتج عنها تداخل الإشارات وزيادة احتمالية التصادم وخطر تناثر الحطام الفضائي. 

2- الصواريخ الفضائية: عند إطلاق الصواريخ لكي تحمل الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء، ينتج عنها انبعاثات الأيروسول التي تؤثر في طبقة الستراتوسفير التي يوجد بها الأوزون في الغلاف الجوي. وجزيئات الأيروسول هي عبارة عن جسيمات صلبة أو سائلة متناهية الصغر تظل عالقة في الهواء وتؤدي إلى تراجع الأمطار الموسمية، كما أنها تمتص الإشعاع الشمسي وتقوم بتسخين الهواء المحيط، مما ينتج عنه ظاهرة الاحتباس الحراري. وأظهرت الدراسات أن انبعاثات الكربون الأسود الناجمة عن إطلاق الصواريخ الفضائية في عام 2022 تُقدر بحوالي 1 جيجاغرام، ومن المُتوقع أن تصل هذه النسبة بحلول 2040 إلى 10 جيجاغرامات سنوياً، وهي قادرة على رفع درجات الحرارة في الستراتوسفير بمقدار 1.5 درجة مئوية من انبعاثات الصواريخ الفضائية وحدها.

3- سياحة الفضاء: المفهوم الذي كان يُعد يوماً ما مجرد خيال علمي، أصبح الآن واقعاً ملموساً، فقد انطلقت أولى رحلات سياحة الفضاء في 28 إبريل 2001، والتي حملت رجل الأعمال الأمريكي دينيس تيتو، إلى محطة الفضاء الدولية على متن مركبة الفضاء الروسية "سويوز"، مما فتح الباب لعصر جديد من الاستكشاف والمغامرة. وتتنافس حول هذه السوق الجديدة شركات مثل (Blue Origin) و(SpaceX) و(Virgin Galactic)، وتسعى لتطوير صواريخ ومركبات فضائية قابلة لإعادة الاستخدام ورخيصة التكلفة، بل إنها تطمح لأبعد من ذلك، مثل بناء الفنادق الفضائية وربما حتى المستعمرات البشرية على القمر أو المريخ؛ مما يعني مزيداً من الملوثات في الفضاء الخارجي.

تداعيات طويلة الأمد:

قد لا تظهر تداعيات نفايات الفضاء أو حطام الفضاء، في القريب العاجل، بل تمتد لعقود أو حتى قرون حتى تظهر تداعياتها على كوكب الأرض، لكن من المؤكد أن تداعياتها سوف تؤثر في بعض جوانب الطقس الفضائي وبيئة الفضاء القريب من الأرض وكذلك الغلاف الجوي، مما يجعل مكافحة التغيرات المناخية أمراً شديد الصعوبة. ومن هذه الآثار ما يلي:

1- تآكل طبقة الغلاف الجوي: تؤدي الانبعاثات والغازات الناجمة عن إطلاق الصواريخ الفضائية، إلى ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي بسبب الكربون الأسود، وكذلك إلى تآكل الغلاف الجوي بسبب بعض أنواع الوقود الصاروخي الذي يحتوي على مواد كيميائية تضر بطبقة الأوزون، مثل الكلور، بما يسهم في تحلل جزيئات الأوزون.

2- زيادة المخاطر العارضة أثناء العواصف الشمسية: خلال فترات النشاط الشمسي المكثف، يمكن لغلاف الأرض الجوي أن يتمدد، مما يزيد من السحب على الأقمار الاصطناعية المدارية المنخفضة والحطام الفضائي، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تغيير مداراتها وزيادة احتمالية التصادم مع أجسام فضائية أخرى.

3- خطر تصادم الأقمار الاصطناعية: قد يؤدي الحطام الفضائي المتناثر في الفضاء إلى خطر تصادم الأقمار الاصطناعية التشغيلية، وفي ظل انعدام الجاذبية وغياب الهواء قد تتسبب القطع الصغيرة المكسورة من الأقمار الاصطناعية في سلسلة لا نهائية من التصادمات مع الأقمار الاصطناعية، وخروج عدد كبير منها من الخدمة.

4- تعقيد رصد الطقس الفضائي: يمكن أن تشكل النفايات الفضائية أيضاً تحدياً لرصد الطقس الفضائي والتنبؤ به، إذ يمكن أن تتضرر أو تدمر الأقمار الاصطناعية المستخدمة لمراقبة وقياس ظواهر الطقس الفضائي بسبب التصادمات مع حطام الفضاء، مما يؤدي إلى فجوات في البيانات وتقليل دقة التنبؤات.

5- خطر العودة إلى الأرض: قد تعود بعض النفايات الفضائية إلى الغلاف الجوي للأرض، إذ تحترق أثناء الدخول، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات محتملة، على الرغم من أن الغالبية العظمى من هذه المواد تحترق وتتلاشى قبل أن تصل إلى سطح الأرض.

6- التأثيرات طويلة الأمد في بيئة الفضاء: يمكن أن يكون لتراكم حطام الفضاء آثار طويلة الأمد على بيئة الفضاء المحيطة بالأرض ويخل بها. 

في الختام، يمكن القول إن التداعيات المباشرة وغير المباشرة للملوثات الفضائية على المناخ واردة، حتى وإن لم تكن في القريب العاجل، وتزداد حدتها مع زيادة النشاط البشري في الفضاء. لذا أصبح من الضروري أن تتزامن الجهود الرامية للحفاظ على كوكب الأرض من الانبعاثات الكربونية التي مصدرها الأنشطة البشرية على سطح الأرض، مع الجهود الرامية للحفاظ على الفضاء الخارجي من الملوثات التي مصدرها الأنشطة البشرية في الفضاء، حتى لا تتفاجأ البشرية بعد قرون بأن الكوكب الأزرق قد تغير لونه ولم يعد صالحاً لأي مظاهر حياة بشرية أو غير بشرية.