أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

استراتيجية التحوط:

ملامح السياسة اليابانية تجاه صعود القوة الصينية

29 أكتوبر، 2018


عرض: صباح عبدالصبور- باحثة في العلوم السياسية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوقيع اتفاقية السلام مع الولايات المتحدة، اتجهت اليابان إلى التركيز على النمو الاقتصادي، وترك المسائل الأمنية لواشنطن. وقد سمحت تلك الاستراتيجية لطوكيو بتحقيق كلٍّ من الأمن والازدهار.

وبعد ما يقرب من خمسة عقود دخلت اليابان مرحلة جديدة نشأت فيها تحديات لم تعهدها من قبل نتيجة للتغيرات في كل من الأنظمة الدولية والمحلية. وتمثلت أبرزها في الانحدار النسبي لاقتصادها، والتهديدات المستمرة من كوريا الشمالية، وأخيرًا صعود الصين، الذي احتل اهتمامًا خاصًّا، واستوجب التعامل معه باستراتيجية خاصة. ورغم أن طوكيو ليست اللاعب الرئيسي الذي يتعين عليه التعامل مع القضية صعود الصين؛ فإن رد الفعل الياباني على صعود بكين سيكون عاملًا أساسيًّا في تحديد توازن القوى في شرق آسيا، لكونها أهم حليف للولايات المتحدة في المنطقة والمحيط الهادي. 

لهذا فإن استجابة اليابان لصعود الصين لها تأثير كبير ليس فقط على التحالف بين الولايات المتحدة وطوكيو، ولكن أيضًا على استراتيجية واشنطن تجاه صعود بكين. فضلًا عن أن اليابان والصين تجمعهما مصالح اقتصادية متبادلة كبيرة، وهو ما له عواقب واضحة على الاقتصادات الإقليمية والعالمية.

في هذا السياق، ظهرت العديد من الأدبيات التي تحاول فهم وتفسير الاستراتيجية اليابانية إزاء صعود الصين، ومن بينها الدراسة المعنونة: "التحوط إزاء الصين: الاستراتيجية اليابانية تجاه القوة الصاعدة"، لكلٍّ من "لوبيز فيدال" و"إنجلز بريجلين"، والمنشورة في دورية "الأمن الأسيوي Asian Security" في عددها الثاني لعام ٢٠١٨. 

وتتمثل الحجة الرئيسية للدراسة في أن اليابان اتبعت "استراتيجية تحوط" إزاء صعود الصين خلال فترة ما بعد الحرب الباردة (1995–2017)، وأنه يمكن فهم تلك الاستراتيجية بشكل أفضل من خلال تحليل "kuik Cheng Chwee" للتحوط، بديلًا عن التفسيرات البديلة للمفهوم. 

وفي هذا الإطار، تقدم الدراسة نظرة على مفهوم التحوّط كاستراتيجية في العلاقات الدولية. وتفنّد الطرق المختلفة التي يقدمها منظرو العلاقات الدولية حول الطريقة التي قد تتصرف بها الدول إزاء القوة الصاعدة. وبالنظر إلى القيود النظرية، يقترح المؤلفان إطارًا مناسبًا لتحليل سياسة اليابان إزاء الصين، من خلال تكييف مفهوم التحوط لكويك على التطور الأخير في سياسة طوكيو الخارجية تجاه الصين في فترة ما بعد الحرب الباردة.

استراتيجيات محتملة:

تُوفر نظرية العلاقات الدولية مجموعة من وجهات النظر والنماذج المتنافسة حول التعامل مع القوى الصاعدة. فيحدد "جون ميرشايمر" رائد المدرسة الواقعية الهجومية، أربع استراتيجيات محتملة (التحالف، والاسترضاء، وتوازن القوى، وتمرير المسئولية). ووفقًا للمؤلِّفَيْن تميل الدول إلى اعتماد استراتيجية التوازن، والتي يمكن أن تتخذ شكلين؛ "التوازن الداخلي" من خلال زيادة قدراتها العسكرية لمواجهة القوة الصاعدة، أو "التوازن الخارجي" من خلال البحث عن تحالفات مع دول أخرى للتوازن ضد الدولة المهدِّدة.

بينما -وفقًا لليبرالية- تميل القوى الأضعف إلى التعاون مع الدول الأقوى من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية، وإشراك القوى الصاعدة في المؤسسات الدولية. لكن -وفقًا للكاتبين- لا يبدو أن أيًّا من هذه النظريات يُقدم تفسيرات معقولة وكافية لرد فعل اليابان على صعود الصين، فالقوى المتوسطة -مثل اليابان- لا تتبنى أشكالًا نقية من توازن القوى أو التحالف مع قوى عظمى، بل تتبنى استراتيجية مختلطة.

الاستجابة بالتحوط:

يُجادل المؤلفان بأن اليابان لا ترغب في التوازن مع القوة الصينية ولا إلى التحالف معها؛ إذ تُظهر الاتجاهات الحديثة في العلاقات الصينية-اليابانية كيف أن طوكيو لا تلتزم باستراتيجية تعاونية بحتة، على الرغم من ترابطها الاقتصادي المتبادل، بل تعتمد حاليًّا استراتيجية مختلطة، وصفها مؤلفون مختلفون بأنها استراتيجية تحوط.

ولقد تعددت التعريفات حول مصطلح "التحوط - Hedging" الذي أصبح "مصطلحًا شاملًا" يضم استراتيجيات مختلفة تجسد مزيجًا من الاستجابات السياسية. وقد حاول "لورا باسكال Laura Pascall" تنظيم وتصنيف أدبيات التحوّط إلى نهجين: الأول يعتبر التحوّط "استراتيجية تركّز على الأمن"، ويختلف عن سياسات التوازن، في حين أن النهج الثاني يعتبر التحوّط "استراتيجية مختلطة" تجمع بين المشاركة والتوازن.

ويُعد "ديني روي Denny Roy" من أنصار النهج الأول، ويعتقد أنه لدى الدول أربعة خيارات في مواجهة الهيمنة الإقليمية المحتملة: التوازن، التحالف، والمشاركة، وأخيرًا التحوط. وتلجأ الدول إلى استراتيجية التحوّط عندما تكون هناك درجة عالية من اللا يقين بشأن النوايا الحقيقية للقوة الصاعدة. وعلى هذا النحو، يُفهم التحوط كاستراتيجية عامة تستلزم "الحفاظ على أكثر من خيار استراتيجي واحد ضد احتمال وجود تهديد أمني مستقبلي".

وفي حالة النهج الثاني، يَعتبِر العديد من المؤلفين التحوط كنهج يميز السياسة الخارجية الإجمالية للدولة. وعلى الرغم من أن هذه الدراسات تسعى إلى تحديد التحوط كسياسة خارجية شاملة، إلا أن أيًّا منها لم يقدم نموذجًا تحليليًّا ذا مغزى. وعلاوة على ذلك، فقد فشلوا في تفسير حقيقة أنه يمكن أن تكون هناك درجات متفاوتة من التحوط.

بينما يوفر "كويك" واحدة من التحليلات النظرية المحورية لفهم سلوك التحوط. ووفقًا له فإن مفهوم التحوط يشير إلى "السلوك الذي تسعى من خلاله الدول إلى درء المخاطر من خلال السعي إلى خيارات سياسية متعددة تهدف إلى إنتاج تأثيرات مضادة متبادلة، وذلك في ظل حالة من اللا اليقين المرتفع والمخاطر الكبيرة. فعندما تنظر إحدى الدول إلى قوة صاعدة باعتبارها تهديدًا أمنيًّا وشيكًا، فسوف تسعى إلى تحقيق توازن في الاستراتيجية تجاه الفاعل. وفي المقابل، عندما تنظر الدولة إلى الفاعل كمصدر رئيسي للمساعدات، فمن المرجح أن تختار خيار التحالف. لكن ما الذي يحدث عندما لا ترى الدولة أي تهديد وشيك أو واضح؟ تلجأ للتحوط، هكذا يقول "كويك". ومن ثم فاستراتيجية التحوط هي استراتيجية "تهدف إلى الأفضل وتستعد للأسوأ". 

ويعتبر "كويك" التحوط بمثابة مجموعة من السياسات التي تسعى -في الوقت نفسه- إلى القيام بأعمال مضادة تهدف إلى زيادة الخيارات إلى الحد الأقصى وتجنب المخاطر. ويُشير -في هذا السياق- إلى مصطلح البراجماتية الاقتصادية، ويعني محاولة الدول تعظيم المكاسب من القوة الصاعدة من خلال إقامة روابط تجارية واستثمارية مباشرة، على الرغم من احتمالية وجود مخاوف سياسية أو أمنية بين الطرفين. 

كما يعتبِر التحوط سلسلة متصلة تعمل بين التوازن والتحالف؛ ويشمل أيضًا عناصر من الدبلوماسية والأمن والاقتصاد، والتفاعلات الثنائية والمتعددة الأطراف. وأخيرًا، وعلى عكس معظم الدراسات السابقة، يشتمل نموذج "كويك" على درجات مختلفة من التحوط.

مسارات متداخلة:

وقد اتخذت استراتيجية التحوط اليابانية تجاه الصين أربعة مسارات متداخلة: (التعاون الاقتصادي مع الصين، إشراك الصين في المنظمات الإقليمية والدولية، منع الهيمنة الصينية من خلال التحالف مع قوى خارج نطاق منطقة جنوب شرق آسيا، وأخيرًا التوازن الداخلي والخارجي غير المباشر).

فمن خلال الالتزام بنوع من البراجماتية الاقتصادية، حاولت اليابان تعظيم ترابطها الاقتصادي مع الصين من خلال التجارة والاستثمار، وذلك على الرغم من مخاوفها السياسية والأمنية. وفي عام 2013 استأثرت التجارة اليابانية مع الصين بنسبة 20٪ من إجمالي واردات طوكيو وصادراتها، مما يؤكد أن بكين هي الشريك التجاري الأكبر لليابان. كما شهدت اليابان زيادة ملحوظة في تجارة التجهيز للصين بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، حيث أثبتت طوكيو نفسها كمصدر رئيسي لقطع الغيار والمكونات لبكين. وهذا بدوره يدل على أهمية الأولي في سلسلة التوريد العالمية للثانية باعتبارها المصدر الرئيسي للسلع الوسيطة المستوردة للصين، وأهمية التكامل الرأسي بين الصناعات اليابانية والصينية. علاوة على ذلك، أصبحت طوكيو ثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في بكين. 

كما فتحت اليابان قنوات للتواصل مع الصين عبر عدد من الحوارات والمؤسسات الإقليمية، بما في ذلك الحوار الأمني بين طوكيو وبكين والآسيان. كما اتّبعت اليابان سياسة واضحة لتشبيك الصين بالمجتمع الدولي، إذ إن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية -على سبيل المثال- لا يمثل دفعة كبيرة للتجارة والاستثمار فحسب، بل يمثل أيضًا قبول قواعد ومعايير التجارة الدولية، مما يجعل بكين في نهاية المطاف قوة أكثر موثوقية.

كما تبنّت اليابان في المرتبة الثالثة موقفًا واضحًا لمنع الهيمنة الصينية، إذ سعت ليس فقط إلى إشراك قوى أخرى في إقناع بكين بالانخراط في المجتمع الدولي، بل أيضًا للحيلولة دون ظهور الصين كقوة مهيمنة إقليميًّا وعالميًّا، وذلك بإشراك دول أخرى في الهندسة الإقليمية لآسيا والمحيط الهادي. فبما أن طوكيو لا تستطيع حل المشكلة النظامية لصعود الصين وحدها، فقد تحالفت مع قوى لا تقع في شرق آسيا، بما في ذلك الولايات المتحدة والهند وأستراليا ونيوزيلندا، وهي دول تعتبرها اليابان بمثابة "القوس". كما سعت إلى إنشاء شراكة عبر المحيط الهادي من خلال (TPP)، وهي اتفاقية تجارة حرة كبرى إقليمية لا تتعلق فقط بتخفيض التعريفة الجمركية، ولكن أيضًا بإعادة صياغة قواعد التجارة الدولية. وقد وقّعت عليها 12 دولة في المحيط الهادي، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان والمكسيك وفيتنام وأستراليا، ولكنها استبعدت الصين عن قصد.

وأخيرًا، سعت اليابان إلى تحقيق استراتيجية التوازن غير المباشر إزاء الصين في مجال الأمن. فبالنظر إلى أوجه اللا يقين بشأن النوايا الحقيقية للصين، فقد قامت اليابان بالتحضير لأسوأ السيناريوهات "الصين المهيمنة العدائية"، خاصة في ظل قانون الصين الخاص بالبحر الإقليمي، والتجارب النووية الصينية، والتدريبات العسكرية الصينية في مضيق تايوان، وتوغلات الغواصات الصينية في المياه الإقليمية اليابانية، وتقوية وتحديث قوتها العسكرية. 

واستجابةً لذلك، اتبعت استراتيجية التوازن الداخلي غير المباشر، فبدأت في زيادة وتحديث قدراتها العسكرية من خلال الاستحواذ على نظام دفاع صاروخي جديد، ونظام دفاع ميدكورس SMD، وقدرة باتريوت المتقدمة، وتحديث نظامها الدفاعي، معلنة أن ذلك وسيلة لحماية البلاد ومواطنيها من التهديدات المحتملة للإرهاب ومن النظام الكوري الشمالي، ولم تحدد الصين على أنها تهديد مباشر. 

ومن ناحية أخرى، اتّبعت استراتيجية التوازن الخارجي، فاتجهت إلى تعزيز تحالفها الأمني مع الولايات المتحدة، مثل الإعلان الأمني المشترك الذي وقّعه " ريوتارو هاشيموتو" و" بيل كلينتون"، والمبادئ التوجيهية للتعاون الدفاعي الجديدة (1997)، والتقرير الصادر عن لجنة أراكي (أكتوبر 2004)، فضلًا عن برنامج "محور آسيا". 

وتماشيًا مع استراتيجية "إعادة التوازن" التي طرحها الرئيس "باراك أوباما"، أصدر "آبي شينزو" خطة دفاعية جديدة في منتصف المدة تهدف إلى زيادة قابلية التشغيل البيني مع القوات الأمريكية، وشاركت طوكيو مع الولايات المتحدة في شراء V-22 طائرات، وكان أحد تدابير "آبي" الأخيرة هو إعادة تفسير الدستور المثير للجدل، معترفًا بحق اليابان في الدفاع الجماعي عن النفس.

ختامًا، يؤكد الكاتبان أن الحجة الرئيسية لهذه الدراسة أن بعض القوى المتوسطة تتبنى سياسات تختلف بشكل ملحوظ عن الأشكال النقية للتوازن والتحالف. وبدلًا من ذلك، فإنها تسعى إلى اتخاذ مسار "وسطي" يُمكن وصفه بـ"استراتيجية التحوط". 

وفي هذا السياق تتبع اليابان استراتيجية تعاونية تجاه الصين بهدف تعزيز نواياها الحميدة، ولكن -في الوقت نفسه- التحوط ضد الفشل المحتمل لمثل هذا الانخراط من خلال تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة وتعزيز قوتها العسكرية. ووفقًا للمؤلِّفَيْن إذا أخذنا الأحداث الأخيرة في الاعتبار، فمن الواضح أن سياسة اليابان الخارجية تلتزم بشكل وثيق بنموذج التحوط لكويك. فطوكيو ليست قوية بما فيه الكفاية لموازنة صعود الصين، ومع ذلك فهي قوية للغاية بحيث لا يُمكن أن تكون مجرد حليف لبكين. 

وبالنسبة لليابان، لا يُمثل التحوط مجرد وسيلة لدرء المخاطر في عالم غامض، بل هو أيضًا الوضع الطبيعي لفاعل قوي يتمتع بقدرات كبيرة. وكقوة متوسطة، تميل طوكيو إلى التحوط سعيًا إلى الاستفادة من استراتيجية المشاركة تجاه الصين من خلال التعاون الاقتصادي وتنامي الاعتماد المتبادل.

وفي نهاية الدراسة، يطرح المؤلفان سؤالًا محوريًّا بشأن تحليلهما للتحوط: ما هي العوامل التي ستحدد عمل اليابان على المدى الطويل تجاه الصين؟. وفي هذا السياق، افتَرَضَا مسبقًا أن هذه المحدِّدات ستكون مزيجًا من العوامل الداخلية (إعادة الهيكلة المحلية والقيادية) والعوامل الدولية (الصدمات الخارجية). ومع ذلك، فهناك ثلاثة عوامل ستحدد ما إذا كانت طوكيو ستستمر في استراتيجية التحوط أم ستتخلى عنها مستقبلًا، وهي: وجود تهديد مباشر حقيقي، وجود خطوط صدع أيديولوجية، تنافس القوى العظمى، بين الصين (الصاعدة) والولايات المتحدة (المهيمنة). فإذا ظهر أحد هذه العوامل فلن يكون التحوّط ممكنًا.

المصدر:

Ll. López i Vidal & Àngels Pelegrín, “Hedging Against China: Japanese Strategy Towards A Rising Power”, Asian Security, Volume 14, Issue 2, 2018, p.1-19.