أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

أزمات غير متوقعة:

كوابح الصعود الإفريقي من منظور "البجعة السوداء"

08 مارس، 2020


هل وقعت إفريقيا ضحية تغير المناخ وانتشار الأوبئة والحشرات الفتاكة؟ لقد بدأ عام 2020 بتقديرات متفائلة تؤكد مفهوم الصعود الإفريقي، وتحسن أداء كثير من الاقتصادات متسارعة النمو. وفي هذا السياق، تبنّى الاتحاد الإفريقي خطةَ "إسكات المدافع"، وهي من أهداف أجندة 2063، حيث ينبغي إنهاء جميع الحروب والنزاعات الأهلية، والقضاء على ممارسات العنف، ومنع جرائم الإبادة الجماعية من خلال تعزيز آليات الحكم الرشيد والمساءلة والشفافية. وبالفعل، بدأ العام واعدًا حول أداء إفريقيا، ولا سيما في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وهو ما أكدته التوقعات الاقتصادية لعدد من المؤسسات الدولية الكبرى، إلا أن إفريقيا شهدت عدد من الأزمات مثل: الجراد الصحراوي، وفيروس كورونا، وتزايد الديون.

توقعات اقتصادية متفاءلة:

أكدت التوقعات الاقتصادية الإقليمية لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الصادرة عن صندوق النقد الدولي هذا الصعود الإفريقي. وقد أشار الصندوق إلى استقرار النمو عند 3.2% في عام 2019، وأنه من المتوقع أن يصل إلى 3.6% في عام 2020.

ووفقًا لتقرير التوقعات الاقتصادية الإفريقية لعام 2020 الصادر عن بنك التنمية الإفريقي فقد ظل معدل النمو الاقتصادي لإفريقيا مستقرًّا في عام 2019 عند 3.4%، وهو في طريقه ليصل إلى 3.9% في عام 2020، و4.1% في عام 2021. وقد حافظت شرق إفريقيا على ريادتها باعتبارها المنطقة الأسرع نموًّا في القارة، حيث بلغ متوسط النمو 5.0% في عام 2019، كما كانت شمال إفريقيا ثاني أسرع نسبة، حيث بلغت 4.1%. بينما ارتفع معدل نمو غرب إفريقيا إلى 3.7% في عام 2019، قياسًا بـ3.4% في العام السابق. وقد بلغ معدل نمو وسط إفريقيا 3.2% في عام 2019، بعد أن كان 2.7% في عام 2018، في حين تباطأ نمو جنوب إفريقيا بشكل كبير خلال الفترة نفسها، من 1.2% إلى 0.7%، تحت تأثير إعصاري إيداي وكينيث المدمرين.

بيد أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد وقعت إفريقيا ضحية نظرية البجعة السوداء، حيث هاجمت أسراب الجراد القادمة من السماء محاصيل أهلها فحرمتهم أرزاقهم وأقواتهم، كما جاء فيروس كورونا هو الآخر ليلقي بظلال قاتمة على إمكانيات الصعود الإفريقي في بداية العقد الثالث من الألفية الجديدة. 

ولعل نظرية "البجعة السوداء" التي قدمها لنا "نسيم طالب" حول تأثير الأحداث غير المتوقعة تمثل مدخلًا مهمًّا لفهم كوابح النمو الإفريقي العرضية والمفاجئة. وعلى الرغم من أن منطقة غرب إفريقيا شهدت انتشار وباء الإيبولا القاتل خلال الفترة من 2014-2016، كما تكثر بمناطق القارة أسراب الجراد الصحراوي؛ إلا أن عقم التوقع وفساد الممارسة أضاع فرصة الدروس المستفادة والتعلم من خبرات الماضي. نحن اليوم أمام عاصفة من الجراد والوباء كانت خارج حدود التوقعات المعتادة، كما أنّ آثارها المتوقعة كبيرة وفارقة.

أزمة "الجراد الصحراوي":

تجتاح منطقةَ شرق إفريقيا في الوقت الحالي موجةٌ ضخمة من أسراب الجراد الصحراوي. إنه وباء يكتسب طابعًا توراتيًّا ودينيًّا في الإدراك العام. مئات المليارات من الجراد في أسراب بحجم المدن الكبرى تأتي على الأخضر واليابس من المحاصيل في طريقها. إنه أسوأ وباء منذ سنوات طويلة في كلٍّ من إثيوبيا وكينيا. وتشمل الموجة الحالية أوغندا، والصومال، وإريتريا، والكونغو الديمقراطية. ويُسهم التغير المناخي، وعدم توافر وسائل المقاومة الحديثة لدى المزارعين، في زيادة تكاثر هذه الحشرات. 

وتبدو المشكلة على وشك أن تزداد سوءًا، فقد يرتفع عدد الجراد بمتوالية هندسية معدلها 500 بحلول شهر يونيو 2020. وتصف منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الوضع في القرن الإفريقي بأنه "مقلق للغاية". وتشير التقديرات إلى أن سربًا يُغطي كيلومترًا واحدًا يمكن أن يستهلك من الغذاء ما يكفي نحو 35 ألف شخص في اليوم الواحد. 

وثمة أزمة ملحة في الأمن الغذائي، حيث يواجه المزارعون في جميع أنحاء شرق إفريقيا الآن نقصًا في الغذاء، لأن الجراد يستهلك المحاصيل في كلٍّ من الحقول وأماكن التخزين. وتواجه المنطقة انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع، حيث يوجد حوالي 12.7 مليون شخص يعانون شحًّا في الغذاء. وتشمل العوامل الرئيسية التي تقف وراء انعدام الأمن الغذائي: الصدمات المناخية، والصراعات، وأزمات الاقتصاد الكلي. لكن بالنظر فقط إلى المناطق التي تأثرت بالجراد الصحراوي، فإن معظمها يواجه حاليًّا أزمة انعدام الأمن الغذائي أو شح الغذاء. ووفقًا لـتقديرات جماعة الأزمات الدولية، فإن 9.75 ملايين شخص يعيشون في المناطق المتضررة من الجراد الصحراوي في إثيوبيا وكينيا والصومال في الوقت الحالي، أو من المتوقع أن يكونوا في أزمة أو ما هو أسوأ من الأزمة، وهي حالة من عدم اليقين.

الآثار الاقتصادية لـــ "كورونا":

من جهةٍ أخرى، فإنه في ظل تداعيات العولمة، وإلغاء الحواجز بين الأمم؛ أصبح ما يحدث في اقتصاد الصين يؤثر على العالم ككل، وعلى إفريقيا بشكل ‏خاص. وربما تَصْدُقُ مقولة إنه إذا أُصيبت الصين بالبرد فإن الأفارقة سوف يصابون بالسعال. سوف يؤدي فيروس (كوفيد-19 ) إلى التأثير ‏سلبًا على أرقام النمو الاقتصادي في إفريقيا. ووفقًا لبعض التقديرات يمكن أن يؤدي الفيروس إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للصين ‏بنسبة 0.5% إلى 1 %. 

وبالنظر إلى انخفاض الإنتاج، سيتم خفض الطلب الصيني على صادرات إفريقيا، بما في ذلك المعادن ‏والمنتجات البترولية والمواد الخام الأخرى. وقد تواجه البلدان المُصدّرة للنفط مثل أنجولا ونيجيريا، ومصدّرو المواد الأولية مثل ‏جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب إفريقيا، انخفاضًا ملحوظًا في المبيعات، كما سيتأثر المستوردون الأفارقة الذين يعتمدون على ‏الصين كمُصدِّر رئيسي للبضائع.

وهناك جانب إنساني آخر، حيث يوجد 2 مليون صيني يعيشون ويعملون في ‏القارة الإفريقية، وهناك أكثر من 80 ألف طالب وسائح ورجل أعمال إفريقي يعملون ويعيشون في الصين. ومع تحول إفريقيا إلى ‏أسرع قارات العالم من حيث حجم المناطق الحضرية، وأخذًا في الاعتبار أن الصين تمثل أكبر شريك تجاري لها؛ فإن خطر ظهور ‏وانتشار فيروس كورونا‎ (Covid-19) ‎مرتفع‎‎‏ للغاية.

وطبقًا لمنظمة الصحة العالمية، توجد 13 دولة ذات أولوية قصوى في إفريقيا لأنها أكثر عرضة للخطر بسبب الروابط المباشرة وارتفاع ‏حجم السفر إلى الصين‎‏، وهي: الجزائر، أنغولا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا، غانا، كوت ديفوار، كينيا، موريشيوس، نيجيريا، جنوب إفريقيا، تنزانيا، أوغندا. ولا يرتبط الفيروس بديناميات السوق الداخلية، ولكنه يمثل حالة عدم ‏اليقين الخارجية التي لا تزال دون حل، وبالتالي فهي بمثابة "البجعة السوداء" من الناحية الاقتصادية. 

لا يحتاج الأمر إلى كثير جهد في تقدير حجم المخاطر الخاصة بتلك البلدان التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الصين في استيراد سلعها الأساسية، حيث انخفضت ‏أسعار السلع (النفط الخام والنحاس والفحم) إلى أكثر من 20% منذ بداية العام. تبرز على الفور حالات أنغولا، والكونغو برازافيل، ‏وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغينيا الاستوائية، وزامبيا، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا.

أزمة ديون جديدة:

إذا كانت عوامل البجعة السوداء سوف تُسهم يقينًا في تباطؤ النمو في إفريقيا؛ فإن الديون المتراكمة -وهي بجعة بيضاء- تظهر كخطر داهم. على مدى السنوات الست الماضية، تضاعف تقريبًا عدد البلدان التي تُعاني من أزمة الديون أو التي تعاني من مخاطر شديدة من الاقتراض الخارجي. لقد تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في بعض الدول حاجز الـ80%. ولا يَخفى أن عبء ديون إفريقيا يمثل عقبة رئيسية أمام احتمالات زيادة المدخرات والاستثمارات، ولا يمكن إنكار تأثيره على النمو الاقتصادي والحد من الفقر.

وحالت ديون القارة المتراكمة دون الاستثمار العام في البنية التحتية المادية والاجتماعية. كما أن الدين العام أعاق الاستثمار الخاص، حيث لا يمكن أن يطمئن المستثمر إلى استقرار السياسات المتبعة في ظل بيئة تتسم بالاختلالات الخارجية الشديدة. ومن خلال تقويض الاستثمارات المهمة في الصحة وتنمية الموارد البشرية، فإن عبء الديون المتراكمة قد أضر ببعض الشروط الأساسية للنمو الاقتصادي المستدام والحد من الفقر.

عادةً ما تفضل الدول الإفريقية الإبقاء على مشاكلها المالية في طي الكتمان، ولكنّ الظروف الخارجية غير المتوقعة قد تدفع بالأمور لتنحو منحى آخر. في أعقاب انهيار أسعار النفط في عام 2014، كشفت الكونغو -بعد أن أثرت مدفوعات خدمة الديون على مواردها المالية- عن أنها قد حصلت على مليارات الدولارات في شكل قروض لم يتم الكشف عنها سابقًا. احتاج الأمر إلى خطة إنقاذ، وفي النهاية قدمها صندوق النقد الدولي بشروطه المعتادة. تلك هي الحلقة المفرغة التي تجعل العديد من الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى تقف اليوم على شفا هاوية يمكن أن تكون أزمة ديون أخرى. وباستثناء البلدان ذات الدخل المرتفع، تضاعف إجمالي ديون إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تقريبًا إلى 584 مليار دولار خلال الفترة 2010-2018، بينما ارتفع الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 40% إلى 59%، وفقًا لتقديرات البنك الدولي.

البجعة السوداء.. رؤية معرفية:

على الرغم من هذه الصورة القاتمة عن كوابح النمو في إفريقيا، إلا أن هناك توقعات على المدى الطويل ‏بظهور تحولات فارقة في الاقتصادات الإفريقية. يعلمنا التاريخ أنه على مدى فترة زمنية أطول نسبيًّا، يمكن ‏للاقتصادات أن تنمو بسرعة. فعلى سبيل المثال بوتسوانا في عام 1967، ‏كان لديها أقل من 5 كيلومترات ‏من الطرق الممهدة، وثلاث مدارس ثانوية فقط! واليوم، بعد أكثر من خمسين عامًا، انتقلت إلى مصاف الدول ‏متوسطة الدخل‏. فهل يُمكن أن تمثل الكونغو بجعة سوداء في قصة النمو الإفريقي؟.

وعلى الرغم من أن الصورة قد تبدو قاتمة، إلا أن ‏جمهورية الكونغو الديمقراطية تتمتع بموارد هائلة يمكن أن تحقق المعجزات في ظلّ وجود حكومة ‏إصلاحية وفعالة. يقدر إجمالي ثروتها المعدنية بحوالي 24 تريليون دولار، وهو ما يفوق الناتج المحلي ‏الإجمالي لأوروبا والولايات المتحدة مجتمعة. كما أنها تمتلك أكثر من 70% من الكولتان في العالم، الذي يُستخدم في صناعة الهواتف المحمولة، ولديها 30% من احتياطيات الماس في العالم، بالإضافة إلى ‏احتياطيات كبيرة من الكوبالت والنحاس والبوكسيت والذهب والبلاتين والنفط والقصدير واليورانيوم. كما ‏أن سد إنغا الكبير المزمع إنشاؤه على نهر الكونغو سوف يكون أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في العالم. ‏لكن يظل الفساد وغياب الحكم الرشيد من أبرز معوقات وكوابح النمو في إفريقيا.

وأيًّا يكن الأمر فإنه إذا تم إجراء الإصلاحات اللازمة في السياسة، وظهر جيل جديد من القادة قادر على ‏توجيه البلدان الإفريقية إلى طريق النمو والاستقرار؛ فمن المحتمل أن يكون القرن الحادي والعشرون إفريقيًّا. إن البجعة السوداء هي استعارة لمشكلة المعرفة الاستقرائية، أي الوصول إلى استنتاجات عامة ‏حول العالم من أمثلة أو تجارب محددة. المشكلة هي: هل يمكن للمرء أن يستنتج أن جميع البجعات بيضاء ببساطة لأنه لم يرَ بجعة سوداء أبدًا؟ في الواقع، تم اكتشاف مثل هذه البجعات السوداء لاحقًا ‏في أستراليا. وعليه فإن البجعة السوداء تشكل تحديًا مشابهًا للمعرفة المستندة على المظاهر السائدة، من خلال ‏تقديم حالات تعتمد على مناهضة المركزية الأوروبية التي تحاول إفقار إفريقيا على مر العصور.