منذ مطلع العام الجاري، وعلى خلفية تراجع الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار، شهدت عدة دول إفريقية احتجاجات شعبية، من بينها كينيا وأوغندا ونيجيريا وغيرها؛ بما يزيد من حدة الضغوط السياسية التي تُعاني منها دول القارة نتيجة تفاقم الأزمات العالمية. ولأن الساحة الإفريقية تتسم بديناميكية كبيرة، على أكثر من صعيد، سواء سياسياً أم اقتصادياً؛ لذا تتمدد الاحتجاجات الشعبية التي يقودها جيل الشباب في هذه الدول، أو ما يُطلق عليه "جيل زد" أو جيل ما بعد الألفية الجديدة.
واللافت أن تردي الأوضاع الاقتصادية، وتراجع مستويات المعيشة لدى فئات متعددة من شعوب هذه الدول الإفريقية، كان ضمن أهم أسباب تصاعد الاحتجاجات الشعبية بها، مع ما تتضمنه تلك الاحتجاجات من دلالات كاشفة وتداعيات مُحتملة، خاصةً في ظل التقارير التي تتحدث عن ضعف النشاط الاقتصادي في العديد من الدول الإفريقية.
موجة متشابهة:
ثمة ملامح ومؤشرات رئيسية ترتبط بموجة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها عدد من الدول الإفريقية خلال الآونة الأخيرة؛ إذ يمكن ملاحظة أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتشابهة في الدول الإفريقية الثلاث (كينيا وأوغندا ونيجيريا)، إضافة إلى دول أخرى في القارة؛ كان لها أكبر الأثر في تشابه الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها تلك الدول. ففي كينيا، التي تقع في شرق إفريقيا، انطلقت الاحتجاجات منذ 18 يونيو الماضي بهدف الاعتراض على مشروع قانون المالية للعام 2024، الذي كان يستهدف فرض المزيد من الضرائب لخفض العجز في الموازنة.
أما في أوغندا، التي تأثرت بالاحتجاجات في كينيا المجاورة، فقد انطلقت الاحتجاجات الشعبية في 23 يوليو الماضي بهدف التنديد بالفساد القائم في النظام الحكومي، على حد وصف المتظاهرين. والأمر نفسه، تقريباً، حدث في نيجيريا، الواقعة في غرب إفريقيا؛ فتحت شعار "ضعوا حداً للحكم السيئ"، أعلنت مجموعة من الشباب النيجيري، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، عن تنظيم احتجاجات لمدة عشرة أيام في كافة أنحاء البلاد، منذ مطلع أغسطس الجاري، للتعبير عن الاستياء من تدهور الأوضاع الاقتصادية.
ويبدو التشابه بوضوح بين هذه الدول الإفريقية الثلاث، في ارتفاع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق، وخاصةً بين فئة الشباب؛ أي من هم تحت 34 عاماً، التي تُمثل "العصب المجتمعي" بالنسبة للمجتمعات الإفريقية؛ بما يعني أن نصف هذه المجتمعات، أو ربما يزيد عن ذلك، في حالة بطالة، وتعطل عن العمل. وربما يُفسر ذلك كون الشباب الشرارة في انطلاق الاحتجاجات.
أضف إلى ذلك، ارتفاع معدلات الفقر؛ ففي كينيا، ووفقاً للبنك الدولي، في بداية العام الجاري، فإن ما يزيد على 19 مليون كيني يعيشون في حالة فقر مدقع، على أقل من 1.9 دولار يومياً؛ أي بما يُعادل نحو 36% من السكان. وفي نيجيريا، يبدو الوضع مُشابهاً؛ إذ يعيش نحو 40% من إجمالي السكان، البالغ نحو 223 مليون نسمة، تحت خط الفقر. وفي أوغندا، نفس الحال تقريباً، إذ يعاني نحو 41% من السكان من الفقر.
ومن ثم، فإن القاسم المشترك في هذه الاحتجاجات الإفريقية، هو المطالبة بتحسين مستوى المعيشة، خاصةً في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية؛ بما يثير مخاوف من احتمال زيادة وتيرة الاضطرابات السياسية في كثير من دول القارة، ولاسيما تلك الأشد فقراً.
دلالات الاحتجاجات:
تتمثل أهم الدلالات التي تُعبر عنها الاحتجاجات الشعبية في هذه الدول الإفريقية منذ بداية عام 2024، في التالي:
1- تنامي القدرات المجتمعية للشباب: يمكن النظر إلى الاحتجاجات الشعبية في الدول الإفريقية الثلاث، وغيرها، باعتبارها تعبيراً عن تنامي القدرات المجتمعية لجيل الشباب في هذه الدول، وفي الوقت نفسه رسالة قوية من هؤلاء الشباب إلى الأنظمة الحاكمة في دولهم؛ بتزايد قدرة هذا الجيل من خلال تمكنه من التعامل مع المشكلات الحالية بأدوات العصر؛ ومن ثم تنامي قدرته على التأثير، عبر ما أتاحته له وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانات.
ومن الواضح أن شعبية الأنظمة الحاكمة في هذه الدول الإفريقية تتراجع جراء هذا التأثير الشبابي أو جيل ما بعد الألفية الجديدة، خاصةً أنه استطاع تحريك قطاعات واسعة للخروج في تظاهرات، والقيام باحتجاجات ضد أنظمة الحكم تلك؛ بما يؤشر على اتساع الفجوة بين هذا الجيل وبين النخبة الحاكمة في تلك الدول.
2- التأثير المتبادل بين الاقتصاد والسياسة: ضمن أهم الدلالات التي تتضمنها الاحتجاجات الشعبية في هذه الدول الإفريقية، هو تعبيرها عن تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، على النحو السابق توضحيه أعلاه. وما يزيد الأمر سوءاً أن الأزمات المعيشية في كثير من دول القارة "مُرشحة للتفاقم"، وخاصةً في ظل استمرار أزمة الغذاء العالمية، وعدم وجود حلول ناجعة للحرب الروسية الأوكرانية، التي فاقمت أعباء دول القارة السمراء.
وتتزايد هذه الأعباء جراء هشاشة البنى الاقتصادية في كثير من الدول الإفريقية، فضلاً عن التأثير المتبادل بين الأزمات الاقتصادية والسياسية، من منظور أن كلاً منهما يؤدي إلى الآخر. وكان تقرير "نبض إفريقيا" للبنك الدولي قد توقع أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في دول إفريقيا جنوب الصحراء، من 3.6% إلى 3.1% خلال العام الحالي؛ بما يوضح أن الاحتجاجات جاءت تعبيراً عن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها العديد من دول القارة الإفريقية.
3- فشل التعامل الأمني مع الاحتجاجات: على الرغم من وضوح مطالب المحتجين الشباب في الدول الثلاث (كينيا وأوغندا ونيجيريا)، فإن استجابة الأنظمة الحاكمة لهذه المطالب لم تكن على المستوى المأمول؛ إذ تم تغليب الحلول الأمنية، تبعاً لرؤية السلطات في هذه الدول، على حساب غيرها من الحلول السياسية والاقتصادية. ويبدو أن ما ساعد على فشل المواجهة الأمنية للاحتجاجات الشعبية، هو الدور الفعَّال لوسائل التواصل الاجتماعي في تحريك المواطنين في هذه الدول، من خلال الحملات والدعوات إلى الاحتجاج التي قادها جيل الشباب.
تداعيات ضاغطة:
يحمل انتشار الاحتجاجات في دول القارة الإفريقية، العديد من التداعيات المُحتملة التي يتمثل أبرزها في الآتي:
1- اتساع الرفض الشعبي للأنظمة الحاكمة: مع احتمال لجوء الأنظمة الحاكمة في بعض الدول الإفريقية إلى التخفيف من حدة الاحتجاجات الشعبية من خلال تبني إصلاحات؛ فإن ذلك لن يكون إلا بمثابة "مسكنات مؤقتة" وغير فعّالة حتى على المدى القريب؛ ومن ثم قد يؤدي تفاقم الوضع الاقتصادي إلى المزيد من رفض الأنظمة الحاكمة، وخاصة في ضوء تمكن الناشطين الشباب من مواصلة الحشد الشعبي والاجتماعي ضد هذه الأنظمة، ولاسيما الفئات الأكثر فقراً. وهو ما سوف يُسهم في توحيد قوى المعارضة السياسية، خاصةً أنها اكتسبت مساحات شعبية جديدة في التفاعلات الجارية بالداخل.
2- تراجع الشرعية السياسية للحكومات: مع استمرار التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، قد تتراجع الشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة في هذه الدول الإفريقية المُشار إليها، على خلفية الرفض الشعبي المتزايد لها. والمثال الأكثر وضوحاً، هنا، هو الرفض الشعبي، خاصةً من جيل الشباب، لاستمرار الرئيس الأوغندي، موسيفيني، في الحكم؛ إذ إنه يتولى منصبه منذ عام 1986. وقد تلجأ بعض القوى الدولية الكبرى إلى فرض عقوبات على بعض المسؤولين في هذه الدول الإفريقية؛ مثلما فعلت الولايات المتحدة، في 27 يونيو الماضي، بفرضها عقوبات ضد رئيسة البرلمان الأوغندي، أنيتا أنيت أمونغ، وخمسة مسؤولين أوغنديين آخرين، بسبب تُهم تتعلق بالفساد.
3- تزايد نشاط الجماعات والتنظيمات الإرهابية: من المرجح أن تدفع الاحتجاجات الشعبية في بعض الدول الإفريقية، مثل نيجيريا، إلى تزايد حجم الأنشطة وعمليات العنف للجماعات الإرهابية، التي دائماً ما تستغل ظروف التظاهرات والاضطرابات الأمنية لشن هجمات داخل الدول. ولعل المثال الواضح، هنا، جماعة "بوكو حرام" التي تصاعدت عملياتها في نيجيريا قبل التظاهرات الأخيرة؛ بما يعني أن الجماعة قد تستغل الاحتجاجات الشعبية في نيجيريا للتخطيط لمزيد من العمليات الإرهابية، مستفيدة في ذلك من حالة السخط الشعبي ضد الرئيس بولا تينوبو، ولاسيما على المستوى الاقتصادي.
ختاماً، يمكن القول إن تنامي الفجوة القائمة بين الأنظمة الحاكمة في بعض الدول الإفريقية، وبين القطاعات الشعبية في هذه الدول، وخاصةً جيل الشباب الأكثر انفتاحاً، إنما يرتبط بوجود إشكاليات هيكلية خلال السنوات الأخيرة، تتعلق بالتردي الحاصل في الأوضاع الاقتصادية، والتراجع في مستوى المعيشة لدى عدد من شعوب القارة الإفريقية.