على مدار الأشهر العشرة الماضية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يطرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أي رؤية واضحة لمستقبل هذه الحرب أو مصير "اليوم التالي" في غزة، بل دأب على تكرار خطابه حول ارتباط انتهاء الحرب بالقضاء على حركة حماس، والتأسيس بعد ذلك لسلطة حكم محلي في غزة، غير معادية لإسرائيل، مع احتفاظها بالمهام الأمنية في القطاع لفترة من الوقت، وذلك دون أن يكون للسلطة الفلسطينية أي دور مرتقب في مستقبل القطاع، على حد تعبيره.
وكان خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي، في 24 يوليو 2024، تأكيداً لذلك الاستنتاج؛ إذ توقعت الدوائر الأمريكية قبل الخطاب أن يطرح نتنياهو خطته لإنهاء الحرب ومستقبل "اليوم التالي" في غزة، ولكن جاء الخطاب مُحبطاً بالنسبة لهم، وبدا واضحاً أن نتنياهو لا يمتلك رؤية محددة لتلك القضايا المُلحة، سوى استمرار الحرب؛ وذلك نتيجة معطيات اللحظة الحالية التي جعلت مستقبله السياسي مرتبطاً باستمرار حالة الحرب في إسرائيل.
وبناءً على ذلك، فقد بدا لبعض دوائر الفكر الغربية أن الحديث عن خطة "اليوم التالي" لم يصبح أولوية مقارنةً بأهمية الحديث عن ترتيبات اليوم الذي يسبق "اليوم التالي"، أو "اليوم الذي يقع بين اليومين" (The Day in between)، أو ما يُسمى بـ"الساعة الذهبية" (The Golden Hour)، وفق "مؤسسة راند" الأمريكية، وهي الساعة المتوقع أن تبدأ مع تراجع كثافة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والتي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي "المرحلة الثالثة" من الحرب. وتلك "الساعة الذهبية"؛ إما أن تؤدي إلى سيناريو "الفوضى"، أو تمهد لشكل "اليوم التالي".
ماهية "الساعة الذهبية":
في الكتاب الصادر عن "قسم أبحاث الجيش في مؤسسة راند"، في فبراير 2020، تحت عنوان "اغتنام الساعة الذهبية: المهام والتنظيم والقدرات المطلوبة للمرحلة الأولى من عمليات الاستقرار"، تم الإرساء لمصطلح "الساعة الذهبية"، والذي يشير –وفق "راند"- إلى المرحلة المبكرة من عملية الاستقرار بعد الصراع، بما يشمل الإجراءات التنظيمية والقدرات اللازمة لاغتنام هذه الساعة، ووضع الدولة المُتضررة من الصراع على مسار السلام المُستدام.
وأول منْ استخدم هذا المصطلح هو جيمس ستيفنسون، الذي شغل منصب المدير السابق لبعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في العراق، وذلك بعد وقت قصير من الحرب الأمريكية على العراق في 2003. وجاء بهذا المصطلح من المجال الطبي، والذي يصف الدقائق التي تلي الإصابة المؤلمة؛ لتكون الرعاية الطبية المناسبة هي الفرق بين الحياة والموت. وكان يعني بذلك ضرورة استغلال الوقت آنذاك لوضع العراق على طريق السلام المُستدام.
ولا يوجد إطار زمني محدد لهذه "الساعة الذهبية"، ولكن تُعد الأسابيع والأشهر الأولى هي الأكثر أهمية، وتصبح "الساعة" أقل "ذهبية" في المراحل اللاحقة؛ لتدخل دولة الصراع إما في مرحلة الاستقرار أو الفوضى.
وبتطبيق هذا المصطلح على حرب غزة الحالية، فستتمثل "الساعة الذهبية" في الأسابيع والأشهر التي ستلي مباشرةً انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية الكثيفة في القطاع، وستسبق الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب، وبدء مرحلة إعادة الإعمار. وعملياً، ستكون هذه الفترة ضمن ما أطلق عليه الجيش الإسرائيلي المرحلة الثالثة للحرب، والتي يدّعي أنه على وشك الانتقال إليها، وهي مرحلة قد تمتد طويلاً.
ووفقاً للتقارير الصادرة عن مصادر عسكرية إسرائيلية، فإن المرحلة الثالثة من الحرب قد تشمل نقل قوات عسكرية إلى الساحة الشمالية مع لبنان، وإراحة جنود الاحتياط الذين قاتلوا لأشهر طويلة في غزة، مع الحفاظ على عدد أقل من القوات العسكرية على الأرض، والتي ستتيح بدء عمليات عسكرية دقيقة ومحدودة حسب الحاجة وبناءً على المعلومات الاستخباراتية.
وعلى الرغم من أن هيئة البث الإسرائيلية نقلت في وقت سابق أن المستوى السياسي وافق على توصيات المستوى العسكري بالانتقال إلى المرحلة الثالثة خلال شهر يوليو 2024، فإن نتنياهو لا يبدو مُستعداً حالياً للدخول إلى هذه المرحلة، على الأقل وفق المعطيات الحالية؛ لأن الانتقال إليها قد يمنح المعارضة والشارع الإسرائيلي الفرصة لممارسة المزيد من الضغوط على حكومته، وربما الذهاب إلى تشكيل لجنة تحقيق في أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ لذلك من المُرجح أن يذهب نتنياهو إلى تلك المرحلة بعد "إنجاز عسكري" جديد على الأرض، ربما يتمثل في اغتيال قيادات أخرى في حماس، أو إنقاذ عدد كبير من الرهائن في عملية عسكرية جديدة؛ لأنه في هذه الحالة قد تنقلب موازين الرأي العام الإسرائيلي لصالحه، ويصبح أكثر قوة على الصعيد السياسي. وربما يذهب نتنياهو إلى المرحلة الثالثة؛ إذا قرر فتح حرب موسعة على الجبهة اللبنانية.
إدارة غزة:
بناءً على ما سبق، ووفق المعطيات الراهنة؛ فإن "اليوم التالي" في غزة يبدو بعيد المنال حالياً، فمن المفترض أن يأتي هذا اليوم بعد إيقاف الحرب، وهو ما ربطه نتنياهو بانتصار إسرائيلي حاسم، يُنهي وجود حماس وسلاحها في القطاع؛ وهو ما يراه الكثير من المراقبين الإسرائيليين هدفاً غير واقعي.
لذلك بدأ المحللون الغربيون في الحديث عن "الساعة الذهبية" في غزة، أو خطة اليوم الذي يسبق "اليوم التالي"، ومن بين هؤلاء دانا سترول، مديرة الأبحاث في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" ونائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأوسط، والتي ذكرت في 20 مايو 2024 أن ندرة الحلول الواقعية لـ"اليوم التالي" في غزة تعكس غياباً أكثر إزعاجاً للتخطيط، وأن الأمر الأكثر أهمية هو "اليوم الذي يقع بين اليومين". وهو كذلك ما أشار إليه ضمنياً، دانييل بايمان، أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، في مقاله الأخير على موقع مجلة "فورين آفيرز" الأمريكية، في 30 يوليو الماضي، والذي جاء تحت عنوان "هل يستطيع أحد أن يحكم غزة؟ الطريق المحفوف بالمخاطر إلى اليوم التالي".
وفي تلك المرحلة التي يتحدث عنها الخبراء الغربيون، سيحتاج قطاع غزة، حتى مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية منخفضة الوتيرة، إلى إدارة حكم محلي، تضمن تسيير الشؤون الحياتية اليومية، وإدارة المساعدات الغذائية، وتوفير البنية التحتية الأساسية والسلع الحيوية؛ بما يشمل المياه النظيفة، والكهرباء، والتعليم، والنقل، وأنظمة الرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وهنا يظهر السؤال: أي سلطة سوف تُنظِّم الخدمات الأساسية وتستجيب لاحتياجات سكان غزة في سعيهم إلى إعادة بناء حياتهم؟
وربما تشير معطيات اللحظة الراهنة إلى أن هذا العبء قد تتولاه إسرائيل؛ لأنها لم تُقدم البديل. ولكن هناك شبه اتفاق على أن هذه المهمة لا قِبل لإسرائيل بها، ويمكن أن تُحيل مستقبل غزة إلى سيناريو "الفوضى". وتشير دانا سترول إلى أن "إسرائيل تخاطر بالفعل بعدم التخطيط للساعة الذهبية".
مستقبل القطاع:
يرتبط مستقبل "اليوم التالي" في غزة، بالأساس، بالكيفية التي ستتعامل بها إسرائيل مع "الساعة الذهبية" القادمة في القطاع. وهنا تظهر عدة خيارات قد تحكم مستقبل "اليوم التالي"، وهي: إدراج غزة ضمن نطاق حكم السلطة الفلسطينية بعد تجديدها، أو تشكيل سلطة حكم محلي من داخل عزة بدعم إقليمي ودولي، أو إعادة احتلال إسرائيل لغزة عسكرياً، أو إعادة سيطرة حماس على غزة، أو دخول القطاع في حالة من الفوضى.
ويمكن القول إن تحديد مستقبل غزة وفقاً لأحد تلك الخيارات الخمسة؛ سيكون نتاج أحد سيناريوهين لتعامل إسرائيل مع "الساعة الذهبية" في غزة، كالتالي:
1- استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية: هو السيناريو الأرجح، ويعني أن تبدأ "الساعة الذهبية" في غزة، دون أن تكون إسرائيل قد وضعت خططاً واضحة لمستقبل القطاع، أو إجراء مشاورات إقليمية أو دولية حول هذا الشأن، مع تبني نتنياهو للخطاب ذاته الذي يُردده حالياً. ويعني هذا السيناريو أن غزة؛ إما أن تذهب إلى خيار "الفوضى الشاملة"، أو احتلالها عسكرياً بشكل تام من إسرائيل، وهو ربما ما تدعمه معطيات اللحظة الراهنة. فوفقاً لتقديرات وكالة "الأونروا"، في يوليو الماضي، فقد نزح 1.9 مليون شخص؛ أي نحو 80% من سكان القطاع. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية في فبراير الماضي، فقد دُمِّر أو تضرر نحو 80% من البنية الأساسية المدنية في غزة، وصار القطاع بلا اقتصاد يُذكر، ومعتمداً بالأساس على المساعدات الخارجية.
2- التفاوض حول إعادة تصميم بنية الحكم في غزة: إن الوصول إلى أحد خيارين من إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة أو إنشاء حكم محلي جديد؛ يعني أن إسرائيل ستعمل خلال مرحلة "الساعة الذهبية" على تقديم أُطر جديدة لبنية الحكم المحلي في القطاع، وفقاً لرؤيتها، وذلك من خلال التفاوض مع عناصر محلية هناك أو إعادة التواصل مع السلطة الفلسطينية. وفي كلا الحالتين، قد تشهد تلك المرحلة مفاوضات جادة بين إسرائيل من جهة، والأطراف الإقليمية والدولية المعنية من جهة أخرى. ولكن لا يبدو أن نتنياهو؛ إذا استمر على رأس الحكومة في إسرائيل، ينوي الدفع بهذه المفاوضات.
إجمالاً، على الرغم من ضبابية المشهد حول مستقبل غزة؛ فإن التحركات التي ستتخذها إسرائيل خلال ما أطلقت عليه المرحلة الثالثة من الحرب (الساعة الذهبية في غزة)، هي التي قد تحدد مستقبل القطاع في يومه التالي؛ وهو مستقبل للأسف تسيطر عليه الفوضى، وفقاً للتقديرات، خاصةً إذا استمرت معطيات اللحظة الراهنة، وتمسك نتنياهو برؤيته الحالية.